لبنان بين فكي كماشة «ترسيم» نصرالله و«رئاسة» بري!

ياسين شبلي

مع بداية شهر أيلول، نكون قد دخلنا شهر الإستحقاقات التي قد تُقرِر بنتائجها إتجاه الأحداث في البلد، سلباً أم إيجاباً للشهور وربما السنين المقبلة. الإستحقاق الأول هو إنتخاب رئيس جديد للجمهورية، حيث دخلت البلاد مع مطلع شهر أيلول في المهلة الدستورية لبدء عملية الإنتخاب، وفي هذا الإطار كان لافتاً في سلسلة المواقف من هذا الموضوع، بعد موقف بكركي ورئيس الحزب التقدمي الإشتراكي وليد جنبلاط، موقف الرئيس نبيه بري في الذكرى ال 44 لتغييب الإمام موسى الصدر، حيث أعطى مواصفاته للرئيس المقبل بحيث أسقط منها بضربة واحدة وبدون ذكر أسماء، كل من جبران باسيل وسمير جعجع.

والإستحقاق الثاني هو قضية ترسيم الحدود البحرية بين لبنان والعدو الصهيوني، التي ينتظر الجميع فيها عودة الوسيط الأميركي آموس هوكشتاين التي كانت مقررة أواخر شهر آب الماضي، ويُنتظر أن تتم أواخر هذا الأسبوع، حاملاً الرد الإسرائيلي على الطرح اللبناني الأخير، بإعتماد الخط 23 زائد حقل قانا كاملاً للبنان، مقابل حقل كاريش كاملاً لإسرائيل ليبنى على الشيء مقتضاه، وهو الطرح الذي ترافق يومها مع إستعراض جوي بالطائرات المسيَّرة “غير المسلحة” بإتجاه حقل كاريش، وتهديدات وتعهدات من الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله، بأن لا غاز يستخرج من كاريش من دون إتفاق مع لبنان والسماح له بالتنقيب في حقوله ، بحيث باتت المعادلة الإستخراج من كاريش مقابل التنقيب في حقول لبنان المتفق عليها.

المثير للإنتباه والإهتمام معاً في موضوع الإستحقاقات أنها تبدو – سواء عن قصد أم عن غير قصد – وكأن مصيرها محصور بيد “الثنائي الشيعي” بالدرجة الأولى

المثير للإنتباه والإهتمام معاً في موضوع الإستحقاقات أنها تبدو – سواء عن قصد أم عن غير قصد – وكأن مصيرها محصور بيد “الثنائي الشيعي” بالدرجة الأولى – أو على الأقل له اليد الطولى فيها – وهو الذي يمسك بها ويتقاسم الأدوار فيها، بحيث يتولى الرئيس بري إستحقاق الرئاسة بصفته رئيس مجلس النواب والمخوَّل الوحيد الدعوة إلى جلسة الإنتخاب، ويتولى حزب الله موضوع الترسيم عبر “مسيَّراته” وتهديداته وتعهداته بالمواجهة، من أعلى سلطة قرار فيه وهو الأمين العام للحزب الذي رفع السقف في آخر إطلالاته الشعبية في ختام إحتفالية الحزب بسنواته “الأربعون”، التي لا ندري حتى الآن إن كانت سترمز في مقبل الأيام إلى حكمة “الأربعين” كما يتمنى الكثيرون، أم أنها ستكون إمتداداً للسنوات الماضية، سنوات الشباب بحماسها وثوريتها ونزقها وأخطائها في الداخل والخارج التي مست صورة المقاومة في الصميم، خاصة بعد يوم 7 أيار 2008 في لبنان، والتدخل في الصراعات العربية من سوريا إلى اليمن مروراً بالعراق، والتي سيتوقف على ممارساتها الكثير من الأمور والتطورات، سواء في الداخل اللبناني أو في الإقليم .

الخلافات في الصف المسيحي هي أكبر من أن يتجاهلها أحد، خاصة فيما يخص إستحقاق الرئاسة – نقطة ضعف الساسة الموارنة الدائمة – والضعف الذي يعتري الطرف السني أكبر من أن يخفى على المراقبين

الواقع بأن ما يبدو أنه إمساك للثنائي الشيعي بأوراق هذين الإستحقاقين، هو نتيجة طبيعية لموازين القوى على الساحة اللبنانية، هذه الموازين التي لا تنم بالضرورة عن “قوة قاهرة” سياسية وعسكرية لهذا الثنائي فحسب، بل هي أيضاً نتاج التضعضع في صفوف الأطراف الأخرى المواجهة له سواء طائفياً أو سياسياً، فالخلافات في الصف المسيحي هي أكبر من أن يتجاهلها أحد، خاصة فيما يخص إستحقاق الرئاسة – نقطة ضعف الساسة الموارنة الدائمة – ، والضعف الذي يعتري الطرف السني أكبر من أن يخفى على المراقبين، خاصة بعد إنسحاب الرئيس سعد الحريري وتيار المستقبل من المشهد السياسي، بحيث لم يستطع الفريق السني رغم كثرة الطامحين والطامعين بوراثة الحريري، والذين كانوا أحد أسباب قراره بالإنسحاب لكثرة ما زايدوا عليه، لم يستطع هذا الفريق حتى الآن لملمة صفوفه، والخروج أقله بموقف موحد بالنسبة لمواصفات الرئيس العتيد، ولا حتى بالنسبة للوضع الحكومي الذي يمس بصلاحيات المركز السني الأول في البلد، رغم كل ما يتعرض له الرئيس المكلف من عقبات، كالتي وضعت في درب سعد الحريري من قبله، ومن نفس الفريق وهو فريق رئيس الجمهورية، فبإستثناء بيان المجلس الشرعي الإسلامي مؤخراً والذي كان أقرب إلى رفع العتب، لم يصدر أي موقف جدي وحاسم وواضح يدعم الرئيس المكلف، أو يكون له رأي في مواصفات الرئيس المقبل، وربما هذا ما تسعى إليه دار الفتوى عبر دعوة النواب السُنة إلى إجتماع يوم 24 أيلول المقبل .

جل ما يجمع عليه هؤلاء اليوم هو الرئيس الذي لا يريدونه، أما الرئيس الذي يريدونه فلا إتفاق عليه حتى الآن

وكما طائفياً كذلك سياسياً ، لم يبرز حتى اليوم أي موقف أو مشروع سياسي موحد من القوى المعارضة ككل، بل مجرد مواقف فردية سواء من الأحزاب التقليدية المعارضة، أو من قوى التغيير التي أعلنت موقف هو إلى العموميات أقرب، أو من النواب المستقلين، وجل ما يجمع عليه هؤلاء اليوم هو الرئيس الذي لا يريدونه، أما الرئيس الذي يريدونه فلا إتفاق عليه حتى الآن، وهذا ما يعطي الثنائي الشيعي – حتى الآن على الأقل – أفضلية واليد الطولى في هذا الإستحقاق، بالرغم من أن حزب الله لم يعطِ أي مؤشر بالعلن، على الأقل، لمن يميل من المرشحين، ويبدو وكأنه عهد بالملف إلى الرئيس بري، منعاً للحرج لدى حلفائه، وفي تقاسم مدروس للأدوار كما أسلفنا .

يسعى العهد – وقد يكون بدعم من حزب الله عبر التهديد والضغط – وبكل ما أوتي من “قوة” لمحاولة التوصل إلى إتفاق قبل إنتهاء ولايته، حتى يخرج بإنجاز يحفظ به ماء وجهه

كذلك الأمر بالنسبة لموضوع الترسيم البحري الذي دخل “بازار السياسة” في كلا البلدين حيث الإستحقاقات الداهمة، ففي لبنان يسعى العهد – وقد يكون بدعم من حزب الله عبر التهديد والضغط – وبكل ما أوتي من “قوة” لمحاولة التوصل إلى إتفاق قبل إنتهاء ولايته، حتى يخرج بإنجاز يحفظ به ماء وجهه، الذي أريق طيلة ست سنوات من الحكم أوصلت البلد والناس إلى هاوية سحيقة، كذلك في إسرائيل جاءت الإنتخابات المبكرة – وهي الخامسة بالمناسبة – جاءت لتجعل من هذا الملف محط تجاذب سياسي بين الأفرقاء، لمحاولة إستغلاله لتحقيق إنتصارات إنتخابية وسياسية، بينما أوروبا “تتقلب” على جمر الحرب الروسية – الأوكرانية، التي جعلت بوتين يتحكم بإمدادات الغاز إليها فيما الشتاء على الأبواب، ما دفع بالرئيس الأميركي للتدخل مباشرة في الملف، عبر إتصاله برئيس الوزراء الصهيوني معلناً ضرورة التوصل إلى إتفاق، وبأن هذا الملف من أولوياته، وهو ما قد يعطي دفعاً ودافعاً لكل الأطراف، للخروج من نفق المزايدات والنزول عن شجرة التشدد، والإدعاء في نفس الوقت بأنهم حققوا الإنجازات والإنتصارات كل في ساحته.

وهذا ربما ما أعطى أيضاً دفعاً لمهمة هوكشتاين التي ستتم أواخر هذا الأسبوع، بعد أن تأخرت عن موعدها حوالي عشرة أيام، مع حرص الطرفين الإسرائيلي وحزب الله أن تتم الزيارة ع “الحامي” ، في أجواء من الضغط والضغط المضاد وكأن في الأمر ” تبادل ” تمريرات، وذلك عبر المناورات التي أعلنت عنها إسرائيل على الحدود مع لبنان، وعبر حالة التأهب والإستعداد التي يحرص إعلام حزب الله ومحلليه على الشاشات اللبنانية، على أن يعلنوا جهوزيتها التامة لأي تطور.

الإستحقاق الرئاسي لا بد وأن يتأثر بما ستؤول إليه الأوضاع في موضوع الترسيم، فإذا حصل الإتفاق على الترسيم يكون حزب الله قد “ضمن” لحليفه في آخر عهده “إنجازاً” يتباهى به

يبقى أن نقول، بأنه في الواقع لا يمكن فصل الإستحقاقين في لبنان عن بعضهما البعض، فالإستحقاق الرئاسي لا بد وأن يتأثر بما ستؤول إليه الأوضاع في موضوع الترسيم، فإذا حصل الإتفاق على الترسيم يكون حزب الله قد “ضمن” لحليفه في آخر عهده “إنجازاً” يتباهى به، وفي نفس الوقت يكون قد أزاح ملف الترسيم عن كاهله، ما يسمح له بإدعاء إنتصار جديد رغم التخلي عن الخط 29، وبالتالي قد يقبل الثنائي الشيعي برئيس وسطي، بالمواصفات التي أعلنها وليد جنبلاط، أي مواصفات “سركيسية” نسبة للرئيس الراحل إلياس سركيس، ليكون رئيس إدارة أزمة داخلية بمعزل عن تطورات الإقليم، أما إذا سارت الأمور بشكل معاكس لسبب ما – وإن كان هذا الأمر مستبعداً بالظروف الحالية – قد يفرض الثنائي الشيعي مرشحه سليمان فرنجية، كما فرض قبله ميشال عون كي يكون رئيس تحدٍ يصارع عبره قوى الداخل والخارج، وهكذا سيبقى لبنان في الأمد المنظور على الأقل – كما هو في الواقع منذ سنوات – عالقاً بين فكي كماشة الثنائي الشيعي عبر هذين الإستحقاقين، بينما يترك لبقية الأطراف التحرك واللعب في الوقت الضائع، من دون أن ننسى ما يمكن أن تحمله التطورات العراقية من رياح، قد تقلب المعادلات كلها رأساً على عقب .

فلطالما كانت الأحداث في بغداد مؤشر وبوصلة، لما يمكن أن يكون عليه الوضع في بيروت.

السابق
بعد «الفا».. هل تتوقف خدمة «تاتش»؟
التالي
«أوجيرو» تنفي هذا الخبر