عندما تأسر السلطة الدينية شعبها في سجن الإنتصارات الوهمية!

العمامة
تهاب كلّ سلطة، و خصوصاً عندما تكون استبدادية، تحرُّر شعبها من وصايتها عليه، و تكرّسها من خلال إخضاعه لقيود و ضوابط تفرضها بما يتناسب مع عملية " أدلجته" التي تصب في مصلحته. و كلّما تحكّمت السلطة بشعبها أكثر، حافظت على وحدتها و تماسكها، لذلك نراها لا توفّر أي وسيلة حتى لو استخدمت القمع للحفاظ على "وجودها". و من الطبيعي أن تؤثر إيديولوجيا السلطة في كيفية استهدافها لشعبها، سواء كانت ديمقراطية أو استبدادية.

بالنسبة إلى السلطة الديمقراطية، فإنها تستخدم المرونة في قيادتها لشعبها، و إدارة أحواله، بالإضافة إلى تبنّيها الحوار في التعامل معه. و بما أنها تنطلق من مبدأ مؤدّاه أن الشعب هو مصدر السلطة، فإنها تعمد إلى الحفاظ على مصدر وجودها، أي الشعب، بما يتناسب مع استمراريتها و صون مؤسساتها. لذلك تضع، في أولوياتها، حماية الحريات التي تؤدّي دوراً أساسياً في إطلاق التقدّم، الذي يساعد الشعب على أن يخطو نحو المستقبل، بالإضافة إلى كل ما يمكنه أن يضمن حقوقه.

السلطة الاستبدادية تعمد إلى “أسر” شعبها في أحداث تدّعي بأنها ماضيه وتوهمه بإنه زاخر بالانتصارات والبطولات والمآثر وما إلى هنالك من روايات تتقصّد “فبركتها” أو “تحويرها”


أما في ما يتعلّق بالسلطة الاستبدادية، وخصوصاً الدينية، فمن المعروف أنها تسعى جاهدة إلى الوقوف في وجه إنطلاقة حرية شعبها و لجمها. وقد تلجأ إلى أوالية لا تقلّ خطورة عن قمع شعبها، و تتبدّى في سجنه في ماضٍ مزيّف لا يستطيع استيعابه لكنه “يؤمن” به، في الوقت عينه، نتيجة غزارة الطقوس التي تجذّرها في فكره و حياته. وفي هذه الحال، لا يسعنا إلا أن نستذكر نظرية سيجموند فرويد الذي اعتبر أن “المريض هو أسير الماضي الذي يجهله” و ذلك في إطار مقاربته للإضطرابات النفسية. بمعنى آخر، إن المعاشات التي يختبرها الفرد في ماضيه ، وخصوصاً في طفولته، و يكبتها بسبب عدم قدرته على الإفصاح عنها أو تحمّلها، تتحكّم في حياته النفسية و تسجنه في لا وعيّه، المكان الأكثر “ظلامية”، ليعاني بعد ذلك من اضطرابات نفسية. لأن المكبوت، في رأيه، “يعود لينتقم” و يثأر.

السلطة الاستبدادية تعمد إلى “أسر” شعبها في أحداث تدّعي بأنها ماضيه وتوهمه بإنه زاخر بالانتصارات والبطولات والمآثر

و بالعودة إلى السلطة الاستبدادية ، تعمد إلى “أسر” شعبها في أحداث تدّعي بأنها ماضيه وتوهمه بإنه زاخر بالانتصارات والبطولات والمآثر … وما إلى هنالك من روايات تتقصّد “فبركتها” أو “تحويرها”. وتعمل على إعادة انتاجها في كلّ مناسبة تستغلّها لتتمكّن من القبض على شعبها. وليس سرد الأحداث في المجالس العامة و الخاصة و “نظم” أناشيد البطولات التي تحيي الخرافات إلا ميكانزمات لسجن الشعب في ماضٍ “مجهول” وغير مفهوم بالنسبة إليه.

بمعنى آخر، تحاصر هذه السلطة شعبها، فيصبح كالفأر الذي يتخبّط لينقذ نفسه من مصيدة ، ويعجز عن ذلك. و من هذا المنطلق، يمكن القول أن الشعب يعاني ، مثلما يعاني العصابي “المسجون” في ماضيه المجهول، من ازمات نفسية تهدّد استقراره النفسي. و في هذه الحال، يصبح في الإمكان التحدث عن عصاب “جماعي”، إن صحّ التعبير، نتيجة ما تمّ كبته من أحداث جماعية وهمية كرّستها السلطة في حياته عبر الكثير من السنوات.

الفرق بين الفرد العصابي والشعب” العصابي” هو أن الأول عندما يعي سبب اضطرابه، أي ماهو مكبوت، يصل إلى العلاج ، أما بالنسبة إلى الثاني، أي الشعب العصابي، فإن العلاج لا يتمثّل فقط في وعيه لسبب اضطرابه ، أي الماضي المجهول و المكبوت، و إنما يكمن في “تطهير” عملية التنشئة من الأساطير والأحداث الخرافية


وهنا تتبدّى أوالية النكوص، وتتمثّل في كون الفرد يعيش ماضيه بالرغم من وجوده في حاضره. وكأنه مثبّت في ماضيه مهما مرّ الوقت. و يأتي هذا الماضي المشبع بالأحداث والمآثر الوهمية التي تمّ تلقينها للشعب، و التي أصبحت تشكّل جزءاً من لا وعيه، ليعود ويظهر في سلوكياته عبر أعراض مرضية و أبرزها هوس العظمة أو الهستيريا الجماعية…وهذا ما يدفعنا إلى التحدّث عن عصاب جماعيّ. إلا أن الفرق بين الفرد العصابي والشعب” العصابي” هو أن الأول عندما يعي سبب اضطرابه، أي ماهو مكبوت، يصل إلى العلاج . أما بالنسبة إلى الثاني، أي الشعب العصابي، فإن العلاج لا يتمثّل فقط في وعيه لسبب اضطرابه ، أي الماضي المجهول و المكبوت، و إنما يكمن في “تطهير” عملية التنشئة من الأساطير والأحداث الخرافية و كل ما يمكن أن يسلخها عن هويتها الوطنية.

مهما حاولت السلطة الإستبدادية قمع شعبها من خلال سجنه في ماضٍ مزيّف و”مشحون” بالمآثر الوهمية والبطولات المفبركة لتحويله إلى “عاجز” إلا أن ذلك سيرتدّ عليها في النهاية

إذاً، تسجن السلطة الاستبدادية شعبها في الماضي، و تجعل منه عبداً لأمجاده، فتحاصره في حاضره. و إذا أرادت أن تموّه ديكتاتوريتها بزي من الديمقراطية، فهي تترك لشعبها فقط حرية العودة الى الماضي التي نسجته على قياس مصلحتها. و تمنع عنه كل ما يساعده في الانطلاق نحو المستقبل باعتباره يحرّره من ماضيه و مآثره الوهمية. وهنا، لا نعمد إلى اتهام الماضي الذي لا يحق لنا إنكار دوره المهم في تكوين ذاكرة نتعلم منها، و تؤسس لانطلاقنا نحو المستقبل. لكن ما نعنيه هنا هو هذا الماضي الذي تخطّه السلطة الاستبدادية على مقاسها، وتحوّله إلى أغلال تلتف حول أعناق مواطنيها لتضمن تماسكها و وحدتها.

خلاصة القول، مهما حاولت السلطة الإستبدادية قمع شعبها من خلال سجنه في ماضٍ مزيّف و”مشحون” بالمآثر الوهمية والبطولات المفبركة لتحويله إلى “عاجز”. إلا أن ذلك سيرتدّ عليها ، في النهاية، و خصوصاً بعد “عودة المكبوت” الذي سيسعى إلى الإنتقام منها، أي من السلطة، عبر سلوكيات مرضية لن تستطيع ضبطها و التخلص منها.

إقرأ أيضاً : من حرية المعتقد إلى نهضة الإسلام..قراءة في فكر العلامة الأمين التنويريّ

السابق
إنخفاض بإصابات بكورونا.. ماذا عن الوفيات؟
التالي
التداول على « صيرفة».. كم سجّل؟