وجيه قانصو يكتب لـ«جنوبية»: نعيد طرح السؤال على «حزب الله».. من كلَّفك؟

وجيه قانصو
يخص الدكتور وجيه قانصو «جنوبية» بمقال أسبوعي ينشر حصرياً على صفحات الموقع ومنصاته.

ما أعلنه أمين حزب الله حسن نصر الله في سياق خطبه العاشورائية بقوله: “إذا قال لي أحد: مين مكلفك؟ حل عني .. أصلا أنت إنسان؟ أنا الله مكلفني، أنت مين مكلفك. نحن أناس الله مكلفنا، لأننا أناس نخاف يوم الحساب..”.

ويتحول التعدد الديني داخل المجتمع إلى جبهة حق مقابل جبهة باطل، وصراع بين معسكرات دينية

  هذا الإعلان أثار حجماً هائلاً من ردود الأفعال.  جميع الردود تشترك في خطورة هذا الادعاء، والأذى الذي يلحقه داخل مجتمع كثيف في التنوع وفائض في التعدد، والتدمير الذي يتسببه داخل مجال سياسي يتسم بالاختلاف والتباين الشديدين بين قواه ورموزه.  هي جميعها محقة في مخاوفها وقلقها،  إذ يأخذ الاختلاف والتنافس السياسيين، إثر الادعاء بالتكليف الإلهي لجهة دون جهة، شكل مواجهة مفتوحة بين فصطاطي الخير والشر، بدل أن يكون مجالاً مفتوحاً للاختلاف وإطاراً ناظماً للتنافس والتباين.  ويتحول التعدد الديني داخل المجتمع إلى جبهة حق مقابل جبهة باطل، وصراع بين معسكرات دينية مدججة بكامل عدة الاصطفاء الذاتي وموجبات تحقير الآخر وتحطيمه وحتى إلغائه.      

ما صدر عن نصر الله ليس إعلاناً مفاجئاً عن مرحلة سياسية جديدة، قرر فيها إضفاء شرعية ذاتية-مقدسة مستمدة من الله على نشاط حزبه ومواقفه، لغرض ترسيخ ندية بين حزبه ومؤسسات الدولة، وتأكيد سيادته “الإلهية” فوق سيادة الدولة “الوضعية”.  فهذا وضع بات فعلياً وتحصيل حاصل قبل كلام نصر الله وبعده، بحكم أن فائض قوة سلاح الحزب أنجز مهمة ابتلاع الدولة وإحكام الوصاية عليها منذ زمن بعيد.

كذلك، فإن ما صدر عن نصر الله ليس هفوة أو زلة لسان، وليس أيضاً رد فعل متهور أو انفعالاً غاضباً ضد سؤال يستفزه ويستفز حزبه: “من كلفك؟”.  فنصر الله يختار كلماته بدقة ويحرص على جاذبية الصورة وقوتها التي يخلقها في ذهن رواده ومتلقي كلامه.

ما صدر عن نصر الله هو كشف عفوي وإفصاح شفاف، عن بنية تفكير ونظام قيمي يؤطران الشخصية الحزب اللهية، ويحددا نظرته إلى نفسه وإلى الآخر وإلى العالم، ويوجها موقفه ونشاطه السياسيين

ما صدر عن نصر الله هو كشف عفوي وإفصاح شفاف، عن بنية تفكير ونظام قيمي يؤطران الشخصية الحزب اللهية، ويحددا نظرته إلى نفسه وإلى الآخر وإلى العالم، ويوجها موقفه ونشاطه السياسيين.  هو إظهار للذات في كل وضوحها وصراحتها، وإبانة عن مكنون عميق متوار، حرص حزب الله منذ أن دخل معترك السياسية على إخفائه والتستر عليه. إلا أن نشوة القوة وزهو الثقة الفائضة، دفعا نصر الله إلى التخفف من ثقل الأقنعة وإعياءات التورية والمواربة، وأفضيا به إلى البوح الصريح، مظهراً مستوى استخفاف غير مسبوق بالآخر، وعدم مبالاة بتساؤلاته وهواجسه المشروعة، التي باتت محل تداول عام بقوله له: “حل عني”، بل مبدياً درجة احتقار الآخر المختلف، إلى حد سلخ الإنسانية عنه: “أصلاً إنت إنسان”. بالتالي لا يعود هنالك آخر خارج أنا شديدة التركيز وشاملة الاتساع، فالعالم ساحتي وحدي، والحقيقة تدور في فلكي.

   ازدراء السائل وتحقيره لا يلغيان مشروعية سؤال: “من كلفك؟”،  ولا ينقضا منطق السؤال أو يظهرا تهافته وعيوبه.  فالسؤال لا يجاب عنه بسؤال مضاد: “أنت مين كلفك؟”، لأن القضية ليست قضية جدال شخصي بين طرفين، أو حلبة تباه وتفاخر ومناظرة، بل هو سؤال مُحِقٌ حول ادعاءٍ يدعيه حزب الله، ومهمة يوكلها لنفسه تتجاوز ذاته وشخصه وتتصل أثارها ومفاعيلها بمصالح ومصائر الآخرين، كل الآخرين في لبنان.  قَفَزَ نصر الله فوق السؤال ليعيب السائل ويهينه ويصب غصبه عليه، من دون أن يجيب عن السؤال أو يعالجه. قمع السائل وترك السؤال معلقاً في الهواء.  

المتهم عند نصر الله هو سؤال “من كلفك؟” نفسه. هو سؤال بات مستفزاً له ولحزبه، ويصوره على أنه إثارة هكذا سؤال يمثل ذروة السقوط الأخلاقي والدنس الإنساني

ليس سؤال: “من كلفك؟” شتيمة أو إهانة كي يجاب عليه بشتم السائل أو إهانته: “حل عني.. أصلا إنت إنسان”.  عندما يكون السائل مجهولاً ويكون السؤال عاماً، أي سؤال لا ينسب إلى شخص أو جهة بعينها، حينها تكون ردة الفعل الغاضبة والمنفعلة والمتوترة منصبة على السؤال نفسه لا على سائل بعينه.  أي إن المتهم عند نصر الله هو سؤال “من كلفك؟” نفسه. هو سؤال بات مستفزاً له ولحزبه، ويصوره على أنه إثارة هكذا سؤال يمثل ذروة السقوط الأخلاقي والدنس الإنساني. بالتالي، فإن المشكلة ليست، بحسب عبارة نصر الله، نابعة من شبهة في السائل أو خسة فيه، بل نابعة من ورود هكذا سؤال في خاطر أحد أو الجرأة على طرحه في العلن.      

أما إجابة نصر الله بقوله: “أنا الله كلفني.. نحن أناس الله مكلفنا، لأننا أناس نخاف يوم الحساب..”، فهذا ليس جواباً عن السؤال الموجه إليه: “من كلفك؟” بل هو تحوير للسؤال وأخذ الكلام إلى موضع لا يمت إلى السؤال بصلة. فلو افترضنا أن نصر الله قَصَدَ، وفق ما يوحي به سياق كلامه، بأن الباعث الأخلاقي والوازع الديني هما الدافع لتحمل المسؤولية وتقديم التضحيات في سبيل حماية الحقوق العامة وانتزاع ما اغتصب منها.  فهذا لا يجيب عن سؤال السلطة التي يدعيها حزب الله لنفسه، بل هو جواب عن سؤال البواعث الباطنية والمقاصد الذاتية، التي ينطلق منها للقيام بمهامه أو استجابته لواجب. هو جواب عن سؤال النوايا والخلفية الأخلاقية التي تقف وراء عمله ونشاطه ومواقفه، وليس جواباً عن السلطة والحق اللذين تدعيهما لنفسك.

هذا مع العلم أن الله لا يكلف في مسائل المصالح العامة شخصاً أو حزباً بعينه، بل يكلف جميع الناس. أي إن القيام بمسؤولية التكاليف الدينية والمسؤوليات الأخلاقية ملقية على الجميع، ولا يستطع شخص أو حزب الادعاء بأنها مختصة به وحده.  إضافة إلى أن التفاخر بالتقوى والمجاهرة بالورع والمبالغة في صلاح الذات، فضلا عن الثقة المفرطة بالصواب إلى حد ادعاء العصمة، كل ذلك مخالف لنصوص الإسلام وأدبياته: “فلا تزكوا أنفسكم، هو أعلم بمن اتقى”(سورة النجم)، و “قل أتخذتم عند الله عهدا.. أم تقولون عن الله مالا تعلمون”(سورة البقرة)، و”أهُم يقسمون رحمة ربك..”(سورة الزخرف)، و “أفضل الزهد إخفاء الزهد”(نهج البلاغة)، و “رحم الله من أهدى إلي عيوبي” (نهج البلاغة) و”ربي لا تخرجني من التقصير”(حديث نبوي)، …

كلام يوحي بأن لله رجال خاصون وجماعته الخاصة، أي حزبه الخاص، وكل من هو خارج هذا الحزب محروم من عناية الله ورحمته

يصل التباهي في كلام نصر الله ذروته حين يعلن أن “الله كلَّفني” ثم يعقب ذلك بسؤال استخفاف بالسائل يستبطن الإدانة والتحقير: “أنت مين كلَّفك”. كلام يوحي بأن لله رجال خاصون وجماعته الخاصة، أي حزبه الخاص، وكل من هو خارج هذا الحزب محروم من عناية الله ورحمته. كلام يقول بصريح العبارة لمن يساءله: الله في صفي وحدي، أنت من في صفك؟ الله معي وحدي، أنت من معك؟ الله يكلفني وحدي أنت من يكلفك؟ من جديد نحن أمام قسمة عامودية بين أهل حق وأهل باطل، بين مصطفين وملعونين، بين مفوضين التحدث بإسم الله ومن لا يعبأ بهم الله ولا ينظر إليهم.  من جديد فإن السائل لا يسأل عما إذا كان الله في صف أحد، ومن يصطفيه الله ومن يعرض عنه، فهذا شأن يخصك، بل يسأل عن الحق الذي منحته لنفسك من دون تفويض أو موافقة مني، في الخوض في أمر وتقرير مسائل تتعلق بمصيري ووجودي. 

نعود إلى السؤال المركزي: “من كلفك؟” هو سؤال لا يطلب شهادة حسن سلوك، أو الاطلاع على النوايا وحقيقة المقاصد ودوافع العمل وحوافزه.  سؤال لا يتوقع في الإجابة عليه المستوى الأخلاقي العالي في تحمل المسؤولية، ولا برهاناً على التقوى، أو إثبات الخوف من يوم الحساب، أو تحديد مساحة القرب والبعد من الله، ومن هو في ظل عناية الله ومن هو خارجها، من هو المصطفى ومن هو المُبعد والمَقصي. فهذه جميعاً لا يستدعيها السؤال ولا يتوقعها السائل أو يبحث عنها بسؤاله.   

إذا كانت الدولة تملك حصراً صفة تمثيل الشعب اللبناني في كل ما يتعلق بحقه أو سيادة وطنه، فما هي صفتك وماذا تمثل؟

 سؤال “من كلفك؟” يسائل حزب الله وسيده: من أعطاك الحق أن تتكلم بإسمنا إذا لم نكن صرحنا لك ذلك؟ من أعطاك سلطة تقرير أمر أو إدارة صراع أو شن حرب أو إنهاء صراع في أمر يتعلق بنا جميعاً ويطال مصالحنا ومصائرنا إذا لم نكن نحن قد فوضناك ذلك؟  إذا كانت الدولة تملك حصراً صفة تمثيل الشعب اللبناني في كل ما يتعلق بحقه أو سيادة وطنه، فما هي صفتك وماذا تمثل؟ إذا كانت المقاومة هي مقاومة شعب بأسره ضد مستبد ومحتل، فكيف يصادر حزب خاص ذو عقيدة خاصة هذه المقاومة ويدعيها حصراً لنفسه بل ويحولها خصماً لجزء كبير من الشعب اللبناني؟ كيف يدعي أن سلاحه لحماية اللبنانيين ولم يتردد في استعماله ضد طرف داخلي، أو التلويح به لمواجهة طرف آخر، ومسارعته إلى قمع حراك عفوي وثورة محقة لحماية منظومة سلطة جائرة؟  كيف يمكن لحزب أن يدافع عن حق اللبنانيين في الخارج ضد كل المؤمرات وهو متورط في الداخل بمنظومة الفساد والتغطية على الفاسدين؟ كيف يطالب بتحرير الشعوب وهو حليف أسوأ نظم الاستبداد والاستعباد في تاريخ البشرية؟…

هي أسئلة تَجنَّبَ نصرُ الله الخوض فيها أو الإجابة عنها، ورمى في وجه الجميع ادعاء التكليف الإلهي.  أي آثر: الاستعلاء بدل التواضع، القمع بدل المحاورة والشفافية، التحقير بدل تفهم مخاوف الناس وهواجسها، الاستخفاف بالناس بدل احترام عقولها، ادعاء حق النطق بإسم الجميع بدل تلمس موافقتهم وتأييدهم، إعتماد سلطة التنصيب الذاتي أي السلطة التي تفرض نفسها على الآخرين من دون موافقتهم بدل السعي إلى تأسيس شرعية تحظى بالاعتراف والتأييد الشعبي العامين، أي بدل التحول من قوة قبال الدولة إلى قوة داخل الدولة وللدولة. 

“من كلفك” يعيد حزب الله إلى المربع الأول. سؤال يسبق أي سؤال، وقابع خلف أي   نصر أو خطة أو نشاط أو استراتيجية أو موقف أو حرب أو معركة

سؤال: “من كلفك” يعيد حزب الله إلى المربع الأول. سؤال يسبق أي سؤال، وقابع خلف أي   نصر أو خطة أو نشاط أو استراتيجية أو موقف أو حرب أو معركة. سؤال لا تلغيه التهم أو التهاويل، ولا تسقطه المشاريع الكبرى والإنجازات الضخمة، بل هو سؤال يقوض أي إنجاز ويهدد صلاحية أي مشروع مهما كانت ضخامته وصحته الدينية وفضيلته الأخلاقية.

إنه سؤال الشرعية والحق اللذين لا يُكتسبا بفهم أو تأويل ديني أو بدافع المسؤولية الأخلاقية، بل من جهتهما الصحيحة ومصدرهما الأصلي وهو عموم أفراد الشعب اللبناني.  سؤال يفك بل يفضح زيف ثلاثية الشعب والجيش والمقاومة، الثلاثية التي نصَّبت حزب الله، وصياً على أمن ومصالح الشعب اللبناني رغما عنهم ومن خارج سلطة الدولة.  سؤال يستعيد الترتيب التفاضلي والأسبقية المنطقية لكل مصادر السلطة وأسس الشرعية: الشعب أولاً ثم الدولة ثانياً، ومن أراد شرعية أو سلطة فليلتحق بأحد هذين، لا أن يكون موازياً أو منافساً لهما.  

لأن نصر الله لم يقدم أجوبة عن السؤال، فإننا نعيد طرح السؤال عليه وعلى حزبه من جديد: من كلفك؟

السابق
«نفي قاطع» من باسيل.. ما علاقة اسرائيل؟!
التالي
بالفيديو: علامة لـ«جنوبية»: هذه رسالة المصارف من الإضراب.. والدولار الى ارتفاع!