حارث سليمان يكتب لـ«جنوبية»: أعداء البكالوريا!

حارث سليمان
يخص الناشط السياسي والأكاديمي الدكتور حارث سليمان "جنوبية" بمقال أسبوعي ينشر حصرياً على صفحات الموقع و منصاته الإلكترونية.

بداية ماذا يعني الامتحان، الا ان يكون اداة و “وسيلة قياس” لكفاءة من يخضع له ويشترك في التقدم اليه،  والامتحان الجيد هو الامتحان الذي يستطيع تصنيف المتقدمين اليه، وترتيب مستوياتهم وفرزهم من الدرجة الاولى حتى الدرجات الاخيرة، والامتحان الذي يسقط فيه كل المرشحين او معظمهم ليس امتحانا جيدا، لأنه لم يؤد الى النتيجة المتوخاة منه بالمفاضلة والفرز والتصنيف، كذلك الامتحان الذي ينجح به كل المرشحين اليه ليس امتحانا جيدا، فالامتحان الذي يجتازه كل الناس او جلهم، ليس اداة انتقائية وتصنيفية،  ولذلك فامتحانات البكالوريا اللبنانية التي اعلنت نتائجها منذ ايام، والتي كانت نسبة النجاح فيها تتخطى 94 % لا يعول عليها. 

وشهادات هذه السنة ليست إلا افادات تشير الى انتساب الطلاب الى صفوفهم ومدارسهم، وتحصي من حضر منهم الى الامتحانات وقدموا أجوبةً على اسئلة في كافة المواد التعليمية.قصة شهادة البكالوريا بقسميها في لبنان قصة طويلة وشائكة.في ستينات القرن الماضي كان يستند النظام التعليمي قبل الجامعي في لبنان الى اربع شهادات رسمية هي الابتدائية  اي السرتيفيكا ثم المتوسطة او التكميلية اي البريفيه، ثم البكالوريا قسم اول و أخيرا الثانوية او البكالوريا القسم الثاني. في تلك السنوات واثناء الولايتين الشهابيتين ؛ عهدي فؤاد شهاب وشارل حلو، قامت السلطة بتعزير التعليم الرسمي في المرحلة الثانوية وزادت عدد الثانويات الرسمية في كل مراكز المحافظات و أغلبية مراكز الاقضية، وهو أمر لم يكن متاحا او رائجا في العقد السابق من حياة لبنان، مما زاد عدد الطلاب المنخرطين في المرحلة الثانوية بشكل ملموس.شكلت البكالوريا القسم الأول محطة مفصلية وآلية اصطفاء متشددة تفترض بمن يتجاوزها كفاءة عالية في مختلف المواد ومعرفة مقبولة باللغات والعلوم الرياضية والطبيعية والفيزيائية والكيميائية.

لم يكن مناصرو  ديموقراطية التعليم واتاحة فرص متساوية لكل مواطن للتعليم يريدون ان تصبح الشهادة الرسمية اللبنانية لا موضع تزوير ولا صندوقة اعاشة

وقد كانت البكالوريا هذه تفترض ثقافة عامة شاملة واجادة للغة والآداب العربية والفرنسية، وكانت الحاجة الى اصلاح ما، يعمق المعرفة بالاختصاص ويوجهه الى الاختيار الاضيق، ويخفف من اعباء المواد التي لا تشكل جزءا من اختصاص منشود…بمواجهة هذا الواقع خاضت الحركة الطلابية معاركها ضد شهادة البكالوريا القسم الاول لسنوات عدة، وكانت نسب النجاح في هذه الشهادة لا تتعدى ال 25% في احسن الاحوال، فيما تتعدى نسبة النجاح في البكالوريا قسم ثاني نسبة ٤٠% ، وكان هذا الواقع يعني أن نسبة الطلاب الذين يصلون الى المرحلة  الجامعية، بعد حصولهم على الشهادة المتوسطة التكميلية، لا يتعدى نسبة 10%  من مجموعهم.اما مسارب الالتفاف على البكالوريا كعقبة كأداء في وجه الترقي الاجتماعي فكانت تجري ضمن مسارب عدة ؛ اولها الانتساب الى شهادة الموحدة السورية، او الذهاب الى التوجيهية المصرية، او الانخراط في مسار التعليم المهني والتقني، او خوض مباراة الانتساب لدور المعلمين والمعلمات للتخرج كمدرسين في المرحلة الابتدائية في المدارس الرسمية، أما ابناء البيئات المتدينة الاسلامية فكانت طريقتهم لتلافي احتجازهم على ابواب البكالوريا القسم الاول، انتسابهم للحوزات الدينية في النجف الاشرف في العراق او الازهر في مصر.

لا حل مع المنظومة الا اسقاطها من اجل الرغيف كما من أجل الحرية من اجل الحق بالعمل والإنتاج كما من أجل الثقافة والمعرفة والعلم والتقدم من عدالة الاجور ومستوى العيش الكريم

و في البيئات المسيحية لعبت الرهبانيات المختلفة دورا مركزيا في تعليم ابناء الفقراء وتأهيلهم للترقي الاجتماعي او الديني والروحي. 

إقرأ أيضاً: حارث سليمان يكتب لـ«جنوبية»: الضحالة السياسية…

وانخرطت في هذا الصراع نقابات المهن الحرة كالأطباء والمحامون والمهندسون، التي فرضت في قانون الانتساب الى نقاباتهم، ونيل اذونات مزاولة مهنهم، حيازة البكالوريا اللبنانية القسم الثاني وحدها، وليس ما يعادلها.كانت جموع المتضررين من البكالوريا تكبر يوما بعد يوم، وتتسع لتطال شرائح جديدة، لذلك تشكل حزب اعداء البكالوريا، ونزل الى الشارع وكانت هتافات آلاف الطلاب تصدح في مواجهة حكومة المرحوم صائب سلام هاتفة؛ ” ما بدنا ما بدنا بكالوريا ما بدنا… الغائي (ها) إلغائي ( ها) هلق هلق إلغائها!.قام وزير التربية في ذلك الوقت المرحوم غسان تويني بحوار طويل ومضني مع الحركة الطلابية وقيادتها الشبابية وتم تعديل المناهج التربوية بين سنتي ١٩٦٨ و ١٩٧١ .

ثنائية الصراع في تلك الفترة كانت ميلا شعبيا، يمينا ويسارا باتجاه تأمين ديموقراطية التعليم، وجعله متاحا لأوسع شرائح المجتمع وطبقاته، بدعوى العدالة وإتاحة فرص متساوية لمختلف الطبقات الاجتماعية، وميلا سلطويا يدافع بشدة عن نخبوية التعليم الثانوي و الجامعي بدعوى الحفاظ على جودة التعليم ومستوى عال من الكفاءة للخريجين، وتقليص اعداد المنتسبين الى مؤسساته والوافدين الى سوق العمل.

المناهج التربوية الجديدة التي بدأ العمل بها سنة ١٩٦٩ اتاحت بكالوريا قسم اول جديدة جرى من خلالها تحديث مناهج الرياضيات والعلوم وتخفيف اعباء اللغات والآداب في البكالوريا العلمية، كما جرى تعديل برامج البكالوريا الأدبية فتم تخفيف أعباء الرياضيات والعلوم فيها، أما الشهادة الثانوية العامة او البكالوريا قسم الثاني، فجرى فيها اعتماد ثلاثة فروع واحد للرياضيات واخر للعلوم وثالث ل الفلسفة.

وتم من خلال هذا التعديل أيضا الغاء الشهادة الابتدائية اي السرتيفيكا، وطبقا للمناهج الجديدة حصل تخفيف بسيط لنخبوية النظام التعليمي واصبح اقل تشددا.خلال الحرب وما تلاها حتى سنة ١٩٩٠ حدثت احداث تعليمية مفصلية؛ الاول احلال الافادات بدل الشهادات الرسمية، الثاني تقسيم الجامعة اللبنانية الى فروع مناطقية وسيطرة الميليشيات الطائفية على اداراتها، تعديل وظيفة كلية التربية في الجامعة اللبنانية، التي كانت دارا عليا للأساتذة، يتخرج منها حكما حسب كفاءاتهم، اساتذة التعليم الرسمي الذي عاش فترة نهوضه الذهبية. 

في تلك الفترة وانطلاقا من سنة ١٩٨٥ اجتاح المنتظرين على ابواب البكالوريا مقاعد الجامعات وشهاداتها، وقام زعماء الزواريب والمحاور وغيرهم، بإضافة شهادات جامعية من مختلف القياسات الى جبخانة اسلحتهم وتجهيزاتهم الحربية، عبر امتحانات صورية كانت تجتمع فيها على طاولة الامتحان، ورقة الاسئلة مع مسدس الميليشيا وسطوة حامله. كان المجازون الجدد هؤلاء هم بعض نواب ووزراء المرحلة الجديدة الآتية بعد انتهاء الحرب واستتباب الوفاق.

مع استتباب الامر للسلطة المنبثقة عن الطائف جرى تعديل ثالث للمناهج التربوية سنة ١٩٩٧  وأصبحت مساقات التعليم تبدأ بالتعليم الاساسي على مدى ست سنوات، ثم المتوسط ثلاثة سنوات تتوج بشهادة البريفيه، وتنتهي المرحلة الثانوية بعد ثلاثة سنوات اخرى بشهادة ثانوية صنفت بأربع خيارات، ؛ العلوم العامة، علوم الحياة، اقتصاد وإجتماع، والرابعة آداب وانسانيات، وتم تهميش البكالوريا القسم الاول لتقتصر على فحص ادب عربي و ادب اجنبي، تحتسب نتائجها من ضمن الشهادة الثانوية اللاحقة.لم تكن هزيمة البكالوريا هذه الا نقطة من مسار طويل دأبت عليه القوى الحزبية الطائفية لاستباحة منظومة المعايير بكل ابعادها، فمن ضرب الجامعة اللبنانية وحرمانها من استقلاليتها المالية والادارية، الى انتهاك قوانينها والتقاليد الاكاديمية فيها لتعيين وترفيع اساتذتها، الى تفريعها خدمة لأهداف سياسية وتحاصصية، الى تفريخ عشرات الجامعات الخاصة وانفلات اعداد الاختصاصات فيها، وتعدد الكليات في جامعات لا تخضع لمعايير العلم والكفاءة والاختصاص، وتأخذ مبرر  وحيدا لوجودها واستمرارها، فقط من اعتبارات حزبية او طائفية او مذهبية…ينظم قانون التعليم العالي في لبنان شؤون الجامعات الخاصة وشروط فتح الكليات واعتماد الاختصاصات، ويربطها بسلسلة من الضوابط والشروط والتجهيزات الواجب توفرها، لحيازة رخصة فتح الجامعة او فتح كلية او فتح اختصاص، لكن سياسة الخروج عن الدستور والقانون سائدة وفاعلة في هذا المجال أيضا، تماما كما ممارسة الخروج عن القانون كل قانون، هي السائدة في كل قطاع في لبنان وفي مختلف المؤسسات.

لكل مرجعية طائفية جامعة، ولكل حزب سياسي فاعل  جامعة، ولكل زعامة سياسية جامعة، ولكل رهبانية مسيحية جامعة، ولكل قطب سياسي جامعة، ولكل هيئة دينية جامعة، ولكل ثانوية تاريخية قديمة جامعة، وقد بلغت الفوضى حد الفضيحة حين اعلن  ان قسما من هذه الجامعات قد تحولت الى دكاكين تصدر شهادات مزورة، يستعملها اصحاب النفوذ في لبنان والخارج، وان جامعات اخرى قد جعلت نفسها غطاءً لتبييض الاموال وغسلها.

لم يكن مناصرو  ديموقراطية التعليم واتاحة فرص متساوية لكل مواطن للتعليم، يريدون ان تصبح الشهادة الرسمية اللبنانية، لا موضع تزوير، ولا صندوقة اعاشة توزع صدقة على كل محتاج، ولا موسم حج لكل من نوى ان يقوم بعمرة ينالها، فديموقراطية التعليم لا تعني توزيع شهادات على الجميع، بل اتاحة الفرصة امام الجميع لكي يتعلموا ويتنافسوا ويخضعوا لغربال الكفاءة وامتلاك المهارات واختبار المواهب وقياس الذكاء والخبرات ليتم امتحانهم.

من استباح الادارة وأجهزة الامن وجعلها مأوى لمحاسيبه وازلامه يستكمل اليوم استباحة السلطة الخامسة وهي سلطة المعرفة

والامتحان ليس محنة ولم يكن كذلك، ولا تكون اهداف تعديلات المناهج عادة، اللعب بنتائج الامتحانات ونسب النجاح فيها، بل تبغي تحديثها وتكييفها مع الثورات العلمية والاكتشافات الجديدة وتطوير طرائق التربية ونقل المهارات، لكن من استباح القضاء كسلطة ثالثة والاعلام كسلطة رابعة وتقاسم شاشاته وجعلها متاريس حزبية وطائفية ومن استباح الادارة وأجهزة الامن وجعلها مأوى لمحاسيبه وازلامه، يستكمل اليوم استباحة السلطة الخامسة وهي سلطة المعرفة، وينشر جهلا وتجهيلا، يجعل من وزير خارجية طاووسا يريد تعليم منتدى دافوس ادارة وطن دون موازنة، ومن نائب لا يفهم معنى السلوك البطريركي الابوي ويعتبر الامر اشارة الى مرجعيته الدينية، الجهل ثمرة من ثمار المنظومة بانتهاكها المعايير كل المعايير، حتى اصبح الزواج المدني حلا لتحسين الميزانية المصرفية!؟

لا حل مع المنظومة الا اسقاطها، من اجل الرغيف كما من أجل الحرية، من اجل الحق بالعمل والإنتاج كما من أجل الثقافة والمعرفة والعلم والتقدم، من عدالة الاجور ومستوى العيش الكريم كما من أجل ارساء نظام المساءلة والمحاسبة واقامة سلطة قضائية مستقلة، من اجل استرجاع ودائع المصارف وجنى اعمار المواطنين، كما من اجل اعلام حديث مهني ومتطور، من أجل السيادة الوطنية الناجزة كما من أجل تمكين الكفاءات الشبابية من بناء وطن نستحقه، ميزته الريادة، نعم الريادة في كل مجال.

السابق
عاشوراء في عيون «حزب الله »..«يبكي على الهريسة لا على الحسين»!
التالي
«عاشوراء» إيران تمتد إلى شارع الحمراء..وحزب الله «يلطم» مسرح المدينة!