بين تمّوزين.. هزائم العدوّ ونِعَم «انتصاراتكم»

حرب تموز 2006

بعد أشهر من انتهاء حرب تموز 2006 ضدّ لبنان، شكّلت إسرائيل في أيلول لجنةً لتقصّي الحقائق المتعلّقة بالأداء العسكري والسياسي الإسرائيلي خلال هذه الحرب. رأس اللجنة إلياهو فينوغراد، وهو قاضٍ متقاعد، فعُرفت اللجنة باسم “لجنة فينوغراد”. في آخر كانون الثاني 2008 أصدرت اللجنة تقريرها النهائي الذي برّأت فيه وقيّمت واتّهمت واستخلصت العبر من أجل حروب أخرى. هكذا تصرّفت الدولة التي قيل عنها إنّها “مهزومة”، فماذا فعل المنتصرون؟

انتهت حرب تموز إلى كارثة حقيقية بحيث لا مجال للمقارنة بين حجم الخسائر البشرية في لبنان وتلك التي سقطت في إسرائيل، ولا مجال طبعاً للمقارنة بين حجم الخسائر الماديّة التي لا تُذكر في إسرائيل وتلك التي لحقت بأحياء وقرى ومنازل وبنى تحتية في كلّ مناطق لبنان. 

اقرأ أيضاً: أنواع الموت التي اختارها لنا نصرالله وخيارنا الوحيد المتبقّي

نقلت إحدى فضائيات لبنان بعد ساعات من وقف إطلاق النار شهادة أحد المسنّين في إحدى قرى الجنوب. كان الرجل يبكي بيته المدمّر شاكياً ما فعلته الحرب، فأتاه صوت من بعيد يقول: “بس نحنا انتصرنا يا حجّ”. تنبّه المسنّ إلى الرجس الذي يرتكبه فهزّ برأسه متمتماً: “نعم انتصرنا”.

تنقل حكايات حرب تحرير الكويت أنّ الرئيس العراقي صدام حسين كان يراقب بقلق في أوائل 1991 تقدّم القوات المتعدّدة الجنسيات بقيادة الولايات المتحدة من داخل الكويت باتجاه الحدود العراقية بعدما أبادت تماماً القوات العراقية هناك. وحين وصله أنّ القوات الأميركية أعلنت وقف إطلاق النار وإنهاء العمليات العسكرية ولم تخترق الحدود، قال: “لقد انتصرنا”.

قبل أيام هنا في موقع “أساس” كتب الزميل قاسم قصير مقالاً استذكر في بداياته “حرب تموز”. قال في سياقه: “لكنّ الحرب انتهت بهزيمة إسرائيل على الرغم من حجم الدمار الذي أوقعه على الأراضي اللبنانية وعدد الضحايا المدنيين”. ولفتني أن أتأمّل في هذه “البديهية” أن يكون سقوط الضحايا ودمار البلد تفصيلاً هامشيّاً، على الرغم من حقيقته، مقابل “انتصار”، هو وجهة نظر انقسم اللبنانيون حول وجاهته. 

تباعد اللبنانيون عموماً في تفسير النصر وتحليل الهزيمة، خصوصاً أنّ أهل البلد استفاقوا غداة الحرب على كارثة تفاقمت مراحلها حتى يومنا هذا، فيما إسرائيل أقفلت الجدل بانتهاء أعمال “فينوغراد”.

انتصار 7 أيّار

في العام نفسه الذي صدر تقرير لجنة التحقيق الإسرائيلية، كانت إسرائيل قد تجاوزت آثار تلك الحرب وتداعياتها، فيما ذهب لبنان إلى شفير الحرب الأهلية. شكّل “7 أيار 2008” من ذلك العام المعنى الحقيقي للانتصار الذي تمّ تسويقه “إلهيّاً”، ووجب أن ينتج غلبة مذهبية وحزبية على نصف اللبنانيين تتناسل منها نكسة وراء نكسة إلى حدّ الانهيار الكبير.

لا مشكلة في فهم تمسّك حزب الله وزعيمه بأسطورة الانتصار، فهما أصحاب مصلحة في تسويق المناسبة لفرض شرعية وجود وسطوة على البلد. لا ينتج الحزب من أجل البلد إلا التكرار البليد لمسألة الانتصار بصفتها يقيناً لا جدال فيه، ولا أهمية أساساً لآراء الشركاء في البلد ولا “لإعراضِهم” عن هذا الانتصار، وهم الذين لم يستنتجوا منه إلا مذلّة ما وصل إليه البلد وراء انكسار.

ثمّ كيف تستقيم نظرية الانتصار التي يقوم عليها فائض قوّة الحزب مع مقولة “لو كنت أعلم” التي أقرّ بها زعيمه. فكيف لمقولة “الندم” أن تدافع عن وهم الانتصار المزعوم. وإذا ما كان الانتصار على إسرائيل وجهة نظر لا تُقنع عاقلاً ويسخر منها العدوّ، فإنّ إجماعاً لبنانياً يتمتّع به الحزب يستسلم لحقيقة انتصاره على لبنان واللبنانيين، وتمكّنه من الدولة والمؤسّسات جميعها، وهيمنته على قرار الحرب والسلم ووجهة السياسة الخارجية والداخلية لبيروت وحكوماتها.
وإذا كان من الصعب هزيمة إسرائيل بما تملكه من قوة عسكرية هائلة ودعم دولي واسع، فإنّ هزيمة لبنان واللبنانيين سهلة تمرّ بسلسلة اغتيالات وهزّات أمنيّة متقطّعة بين “غزوة 7 أيار” واحتلال وسط العاصمة ومرور القمصان السود تحت رعاية تلفيق صفقة “مار مخايل” التي اكتفى الفرقاء بها “تفاهماً” يسطون به على البلد.

لبنان يدفع ثمن «الانتصار»

نعم خرج حزب الله من “حرب تموز” أكثر قوّة وجرأة. ما زال الحزب يدفّع لبنان واللبنانيين ثمن ذلك “الانتصار”، فيقرّر أمنهم ومواقيت سلمهم ويحدّد علاقاتهم بالعالم ووجهات تماسهم مع المحيطَيْن العربي والدولي. بيروت باتت، بفضل ذلك الانتصار المزعوم، إحدى العواصم الأربع التي تتباهى طهران بالسيطرة عليها. وبفضل ذلك “الانتصار” بات لبنان ومسائله، من تشكيل حكوماته واختيار رؤسائه وترسيم حدوده وحتى لقمة عيشه، جزءاً من سياسة إيران الخارجية وأداة من أدوات مداولات طهران مع العالم.

أن يُدمَّر البلد مقابل خسائر مادية وبشرية هامشية في إسرائيل وامتيازات عسكرية وأمنيّة تضمن حدودها، فتلك هزيمة في علوم العقل. إسرائيل في حالة ازدهار ونموّ متصاعد، تحظى بحماية الدول الكبرى، بما في ذلك روسيا والصين، ويعمل نظامها السياسي بشكل سليم على نحو يتيح تنظيم انتخابات تلو الانتخابات من دون أن يؤدّي الأمر إلى شلل على مستوى الدولة والبلد وقطاعات العيش والاقتصاد والتقدّم. يكفي تأمّل أين صارت إسرائيل في المنطقة وأين أصبح لبنان في علاقاته مع المنطقة والعالم.

تجري تحوّلات لافتة في المنطقة لمناسبة زيارة بايدن. إيران خارج هذا الضجيج وتخشى مفاعيل هذه الزيارة، فلا بأس من تهويل يُطلَق من بيروت للتذكير برقمها الإقليمي الصعب. لكن لا أحد في لبنان، حتى داخل ما يُطلَق عليه اسم “جمهور” أو “بيئة” المقاومة، يريد حروباً جديدة يتوعّد بها الحزب وزعيمه. لا أحد يُمنّي النفس بتذوّق طعم “انتصارات” جديدة كتلك التي خرجت بها كارثة صيف 2006. ولئن تخرج منابر البلد مندّدةً بما يُطلَق في هذه الأيام من تموز من تهديدات مستنكَرة تفرض خيارات الحرب على البلد، فإنّ العالم يتأمّل مشدوهاً صمت بيروت أو تحفّظها الخجول على دعوات الذهاب إلى قاع الهاوية توسّلاً لانتصارات لا تنتهي. 

السابق
الموت يخطف العلامة الرزين السيد علي عبداللطيف فضل الله!
التالي
بمشاركة حاشدة.. الوردانية تودّع القاضي جميل بيرم