وجيه قانصو يكتب لـ«جنوبية»: سلام فرمنده.. لكم عالمكم ولنا عالمنا

وجيه قانصو
يخص الدكتور وجيه قانصو «جنوبية» بمقال أسبوعي ينشر حصرياً على صفحات الموقع ومنصاته.

لا يمكن بأي حال تصوير أغنية “سلام فرمنده” أغنية دينية مثل باقي الأدعية والتراتيل الدينية التي تمارسها الأديان والمذاهب في شعائرها ومناسباتها.  نعم هي تتضمن عناوين ذات صلة بالمضمون العقائدي للشيعة الإمامية، بخاصة عقيدة المهدي الغائب المنتظر، لكن الأغنية في حبكتها وسياقها الداخلي، إضافة إلى أسلوب تنفيذها وإخراجها وطريقة ترويجها وتسويقها والجهات التي تبنتها ونفذتها، يجعلها أبعد من أن تكون دينية أو تمجيد لرمز اعتقادي. هي سياسية بوضوح، ودعاية مؤكدة للنظام الإيراني وأذرعه المتعددة خارج إيران.   رغم ذلك، هي أكثر من ذلك بكثير،  هي أكثر من أغنية نطرب لها أو ننتشي بمضامينها، وأكثر من رسالة يريد أصحابها توجيهها إلى الآخرين أو إلى أنفسهم.

الأغنية سياسية بوضوح، ودعاية مؤكدة للنظام الإيراني وأذرعه المتعددة خارج إيران

  إنها صورة ذات كلية مسطحة وثابتة لا تتغير، لا ذوات فيها ولا أفراد ولا فرادات.  صورة ذات نقيه مثالية، متفردة واستثنائية، معتدة بنفسها تغمرها فكرة الإصطفاء، لا تخطىء ولا تتعثر ولا تنكسر، وكل أفعالها فضيلة، وحتى خبثها وشرها طهارة ونقاء.  كل شيء بنظرها لصالحها: فموتها انتصار وهزيمتها غنيمة وفشلها اختبار.  صورة لها تراتبيتها الداخلية وقيمها الخاصة، لها إيقاعها الذاتي، ولها زمنها الخاص الذي يتنكر لمتغيرات الزمن وجديده ومفاجآته، ويتربص بالتاريخ للانقضاض عليه وإنهاء سيرورته وتناقضاته ولايقينه وتعدد مساراته. صورة تتعالى على هذا العالم وتزدريه بل تحقد عليه، تفصل نفسها عنه، تُدين مساره، وتتطلع إلى دماره ونهايته،  لتنهي ناسوته وطبيعيته وغرائزيته، وتحيله باعتقادها عالماً “إلهياً” نقياً لا تباينات فيه ولا اختلاف، لا إرادات فيه ولا مبادرات، عالماً متخماً بالانصياع والطاعات والضرورات والحتميات.  

لا تحث الإغنية على عبادة أو ممارسة شعيرة، فللأغنية نغمة أيديولوجية متقنة وإيقاع سياسي مبرمج

لا تحث الإغنية على عبادة أو ممارسة شعيرة، فللأغنية نغمة أيديولوجية متقنة وإيقاع سياسي مبرمج، تبدأ ب “إمام الزمان” وتنتهي بإمامي العصر روح الله الخميني وعلي الخامنئي. مختزلة بذلك اللامتناهي بتناه زمني ومكاني، ومحولة المقدس إلى دنيوي وسلطوي، ومُسخرة كل قداسات المذهب الإمامي وعصارته لصالح نظام سياسي وسلطة مشخصنة، وجاعلة من فكرة المهدي المنتظر مجرد مقدمة ومدخلاً لخاتمة وغاية كبرى هي سلطة الولي الفقيه.  أي إن معقد الشوق والعشق في الأغنية هو الولي الفقيه، وأساس الولاء والبيعة ليس للإمام الغائب بل للإمام الحاضر رأس النظام الإيراني، الذي تكثفت فيه كل قداسات ومقامات الإمام الغائب. 

اقرأ أيضاً: الأنشودة المهدوية وبيئة حزب الله وأطفالها

توحي الأغنية بأن عصر الظهور، الذي هو عصر “الله”، قد بدأ،   ليس مع الإمام الغائب، بل مع من ينوب عنه ويقرر بإسمه في زماننا

توحي الأغنية بأن عصر الظهور، الذي هو عصر “الله”، قد بدأ،   ليس مع الإمام الغائب، بل مع من ينوب عنه ويقرر بإسمه في زماننا.  فالدولة التي تمثله وتنوب عنه لم تعد دولة سياسية أو دولة مجتمع وقومية خاصين، بل دولة الله،  دولة العصمة والقداسة والطهر الكاملين.  دولة الفسطاط التي تضع باقي الدول في مصاف دول الكفر والضلال والزيغ.  فالذي حصل في إيران منذ أكثر من أربعين عاماً لم يكن مجرد ثورة، بل بداية زمن الله ووحيه وشريعته وطريق استقامته. إنها دولة خاتمة التاريخ وبداية نهاية العالم. 

تعميم الأغنية في كل أماكن تواجد الشيعة الإمامية مقصود ومتعمد. لا تترك الأغنية للشيعي الإمامي في إيران وخارجه، حيز اجتهاد خاص، أو تفكير متريث، أو حتى مساحة روابط سياسية أو خصوصية اجتماعية. فالمذهب ودولة الولي الفقيه شيء واحد لا تمايز بينهما، فلا انتماء إلا لعصبة أهل الولاية، ولا دولة إلا دولة الولي الفقيه، ولا ولاء وطاعة إلا لجهازها، ولا عبادة إلا داخل هياكلها وضمن  كتائبها.  رسالة الأغنية: لا تشيع خارج سلطة الولي الفقيه، ولا خلاص إلا بطاعته.  تعمم الأغنية   نموذج الشيعي المعلق في الهواء والمعزول عن محيطه، الذي يرتاب بمن حوله ومن معه، يرصد اختلافه قبل مشتركاته مع الآخرين، يتقوى بتمايزه ويتغذى بعزلته ويقتات بما له وحده وينتعش بخصوصياته التي تفصله عن باقي البشر وتوهمه بتفوقه عليهم.   

الإغنية ينشدها أطفال لا يعرفون معانيها أو حقائقها، لأن مضامينها جاءت من عالم لا يمت إلى طفولتهم بصلة

 الإغنية ينشدها أطفال لا يعرفون معانيها أو حقائقها، لأن مضامينها جاءت من عالم لا يمت إلى طفولتهم بصلة. اغنية تقتل روح اللعب والمرح في الأطفال، تتلف كل ما هو بريء فيهم وتعطب خيالهم الحر وعفويتهم الساذجة،  ويحولهم ذرات مصطفة اصطفاف العسكر الممتد كالبحر، لتردد عبارات وجملاً وضعت بالتلقين والاصطناع والمونتاج على شفاههم.

أغنية تقيم ربطاً قبيحاً بين براءة الأطفال وسلطة نظام لا يعترف بحدود لسلطته. ربط يوهم بأن  النظام ممتد ومستمر عبر الأجيال القادمة. لكنها أجيال مصطنعة أو صناعية، أي أجيال لا تتشكل من تلقاء نفسها لتكون امتداداً لطفولة بريئة وفطرة نقية، بل تنتجها أجهزة تعبئة وصياغة وأدلجة وقمع، ليست مهمتها تنمية القابليات وتوسيع مدى الإمكانات البشرية، أو تحفيز التفكر المستقل أو التدبر الحر أو الابتكار الخلاق او حرية الاختيار، بل مهمتها التلاعب المدروس بقدرات الكائن الإنساني الطبيعية وتحويل وتعطيل مبرمجين لنزوعاته الفطرية.  هو ربط سبق أن مارسته أعتى أنظمة الاستبداد والدكتاتورية في العالم ابتداء بهتلر وستالين وكاسترو وصدام حسين، وصولاً إلى حاكم كوريا الشمالية كيم جون أونج، في محاولة منها للتستر على فشل نظمها وتغليف شناعة إجرامها بطفولة مفبركة ومزيفة.

الأغنية اختزال محزن وتسييس بشع لعقيدة تشيع

الأغنية اختزال محزن وتسييس بشع لعقيدة تشيع، وَجدَ فيها أتباعها ومعتنقوها الكثير من الحصانة  الأخلاقية والأمان الروحي من ظلم السلطات الجائرة في التاريخ.  هي تحويل بل قلب لكل قيم التشيع، من أخلاقيات “كونوا للظالم خصما وللمظلوم عونا”، إلى تراتبيات الطاعة والولاء والانصياع، وعبادة الأشخاص وتأليههم.

لغة الأغنية، على الرغم من البراءة والطفولة الظاهرتين فيها، هي في صميمها لغة حرب ضد العالم ومنطق قطيعة معه

لا يعني الأغنية ولا يهمها أن تقدم للعالم نموذج حياة أو طريقة وجود أو بدائل معنى أو بشرى انفراج. فلغة الأغنية، على الرغم من البراءة والطفولة الظاهرتين فيها، هي في صميمها لغة حرب ضد العالم ومنطق قطيعة معه، جاءت لتقول للعالم على لسان أصحابها ومموليها ومروجيها: لا شيء تغير منذ بداية الثورة وإقامة دولة الولي الفقيه، نحن لا نشبهكم ولا تشبهوننا في شيء، لكم دنياكم ولنا دنيانا، لكم حقيقتكم ولنا حقيقتنا، وحربنا معكم مستمرة. 

السابق
«المتاريس» تَرتفع بين عون وميقاتي..والراعي يُحدّد مواصفات الرئيس!
التالي
أسرار الصحف الصادرة اليوم الاثنين 11 تموز 2022