المسيحيون «وموسم الهجرة إلى الشمال»

عبد الحسين شعبان

أستعير جزءًا من عنوان هذه المقالة من الروائي الراحل الصديق الطيّب صالح وروايته الذائعة الصيت “موسم الهجرة إلى الشمال“، وهو ما كان أساسًا لمحاضرة ألقيتها في قضاء عنكاوا (إربيل) في المركز الأكاديمي الاجتماعي والموسومة “لماذا يستهدف مسيحيو الشرق؟” وأقتبس بعض ما قلته كاستهلال لها، حيث “لا يُفتى ومالك في المدينة”، خصوصاً وأنا أخاطب جمهورًا قسمه الأكبر من المسيحين، ولم يكن الأمر بالنسبة لي مجاملة أو محاباة، وإنما هو نوع من المشاركة الوجدانية والتضامن الإنساني للمعاناة المزدوجة والمركبة للمسيحين بشكل خاص وللمجموعات الثقافية بشكل عام، ناهيك عن عموم السكان، لأن المسألة تتعلّق بالمواطنة المتكافئة والمتساوية في المجتمعات المتعدّدة الثقافات.

اقرا ايضا: سلام مقابل ميقاتي في «ثاني معارك» التغييريين و«حزب الله»..ورئيس الحكومة يَسترضي الأسد في ملف النازحين!

       ما أصاب المسيحيون لا يخصّهم وحدهم، بل يعني كل ذي ضمير حي لأنه يمسّ النسيج الاجتماعي والمشترك الإنساني ومبادئ المساواة والعدل والإنصاف وحقوق الانسان، ولم يعد خافيًا أن تفجير كنائسهم ومحاولة اقتلاعهم من أماكن سكنهم وتجمعاتهم هدفه تغيير الطبيعة الديموغرافية للمجتمع العراقي، سواء من جانب القوى الإسلاموية التي ترفض قبول الآخر وتتلفّح بالشريعة السمحاء وهي براء منها، مثلما حصل في البصرة وبغداد وكركوك والموصل بعد الاحتلال الأمريكي للعراق العام 2003، أم من جانب تنظيمي القاعدة وداعش الإرهابيين، لاسيّما إثر الاستيلاء على الموصل (حزيران / يونيو 2014)، وهو الأمر الذي شمل الإزيديين وجميع أتباع الأديان الأخرى، وامتدّ إلى عموم المسلمين ممن يختلفون مع التوجهات المتعصّبة والمتطرّفة والعنفية الارهابية.

       وبالطبع فإن السعي إلى قطع الجذور الأصلية للمجموعات الثقافية، وللمسيحيين بشكل خاص سيؤدي إلى القضاء على صورة التعايش الإنساني والاجتماعي التي عُرفت بها مجتمعاتنا، ويكرّس الواحدية والإطلاقية وعدم الاعتراف بالآخر والحق بالاختلاف. ومثل تلك الصورة تريد الجهات والدوائر المناوئة لتطلعات شعوبنا تكريسها بالسعي لتوجيه الصراع في منطقتنا: من صراع في الأرض وعليها لنيل الحقوق وتحقيق العدالة، إلى صراع بين الأديان حول قيم السماء. وأي صراع ديني سيكون إلغائيًا وإقصائيًا وتعصبيًّا وينتقص من مبادئ المساواة والمواطنة المتكافئة.

       وأستطيع القول أنه لا يوجد دين جيّد وآخر سيء، فالعقائد تقوم على الإيمان وعلى قناعات لا مجال للتفاضل بينها لمن يؤمنون بها كعقائد، بل يوجد من يستغلون هذا الدين أو ذاك لأغراض لا علاقة لها بجوهر الدين، الذي يهدف إسعاد البشر بتجسيد الفضائل الإنسانية ومبادئ الأخلاق وقيم السلام والحق والعدل.

       ولعلّ من الأخطاء الشائعة التي تنتقص من المسيحيين هي اعتبارهم “أقلية” فغالبيتهم “عرب” ولذلك لا يمكن فصلهم عن العروبة أو استصغار دورهم في نظرة دونية موروثة. ويذهب البعض لاعتبارهم “طابورًا خامسًا” أو النظر إلى دعواتهم التنويرية – التحديثية بمنظار الشك باعتبارها دعوات “خادعة” هدفها خدمة الغرب. ويتناسى هؤلاء ما لعبه مسيحيو الشرق من دور ريادي على مرّ التاريخ، علماً بأن المسيحية أسبق من الإسلام.

       تقلّص مسيحيو الشرق فقد كان عددهم أوائل القرن العشرين يقارب 20 %، أما اليوم فإن عددهم أقل من 5 % وفي القدس وحدها كان عدد المسيحيين العام 1948 يزيد عن 50 ألفاً، أما اليوم فإن عددهم يقل عن 5 آلاف، وثمة رسائل عديدة لهذا الاستهداف، خصوصًا بعد الفوضى التي حلّت بالعراق وسوريا:

       أولها – دفعهم للهجرة، وهي رسالة ملغومة هدفها تأليب المجتمع الدولي على بلداننا وضدّ المسلمين بشكل عام بزعم أنهم لا يريدون العيش مع المسيحيين في دول الشرق، فكيف سيتعايشون مع المسيحيين في الغرب، حيث يوجد ما يزيد عن 15 مليون مسلم. وينعكس الأمر على استهداف الأديان الأخرى وهو ما حصل في عملية تهجير اليهود المريبة في خمسينيات القرن الماضي، وهو ما استغلّته “إسرائيل” أحسن استغلال بزعم أن المسلمين يستهدفون اليهود والديانة اليهودية.

وثانيها – العزف على سمفونية أن التعايش بين أتباع الأديان في الشرق يكاد يكون مستحيلاً، خصوصاً في ظلّ أجواء التعصّب والتطرّف والغلو التي تنتج عنفًا ويتغذّى عليها الإرهاب وأن استهداف المسيحيين يعني انحسار رقعة الديمقراطية وشح مساحة الحريات وهي رسالة سلبية أخرى إلى المجتمع الدولي.

       وثالثها – إن استهداف المسيحيين هو سلاح ذو حدّين أحدهما هدفه تفريغ مجتمعاتنا من طاقات علمية وفكرية وفنية وأدبية واقتصادية ، وثانيهما إضعاف تضامن مسيحيي العالم مع حقوقنا، علماً بأن مسيحيي الشرق دافعوا عن فلسطين ضدّ حروب الفرنجة  وكان للفاتيكان موقفًا مناصرًا لحقوقها وهو ما أثر حينها على موقف إسبانيا والبرتغال وإيرلندا وبعض دول أمريكا اللّاتينية.

وإذا كان السيد المسيح ولد في بيت لحم فالمسيحيون ليسوا أغرابًا، والمسيحية بنت المنطقة العربية وأن الكتب المسيحية كتبت منذ أكثر من 1000 عام باللغة العربية، ومن الشرق انتشرت المسيحية في أصقاع المعمورة.

 المسيحيون كما قال السيد المسيح “أغصان الكرمة” و”ملح العرب” وهما عنوانان لكتابين كنت قد أصدرتهما خلال العقد المنصرم.  

السابق
وفاة الممثل خضر حسن علاء الدين إبن «شوشو»!
التالي
خضر علاء الدين ابن «شوشو» ينسحب من الحياة.. فجأة!