«قبل أربعين سنة».. احمد بيضون في يروي ما حصل معه في بنت جبيل خلال الاحتلال الاسرائيلي

احمد بيضون

كتب الباحث والمؤرخ الدكتور أحمد بيضون حلقة ثانية من مذكراته خلال الاحتلال الاسرائيلي وذلك عبر صفحته على “الفيسبوك” قائلاً: “قَبْلَ أربعينَ سنةً، يوماً بيومٍ، وضَعت شراذمُ سعد حدّاد يدها عليّ في بلدتي بنت جبيل فتجوّلتُ، في أربعةِ أيّام، مع رفاقي (وكنًا عشرة) بينَ أربعةِ أماكنَ للاعتقال كان آخرها معسكَرُ أنصار الذي أمضينا فيه يوماً وليلةً بعدَ انتقالِنا إلى عهدةِ العسكرِ الإسرائيلي”.

اضاف: “كنّا قد صمدْنا في بيروت مدّةَ أسبوعينِ رهيبينِ بعدَ بَدْءِ الاجتياح: أنا وزوجتي وابنتانا التوأم اللتان كانتا في العاشرة في منزلنا في الطابق السادس من بنايةٍ في حيّ رأسِ النبعِ وأخي الذي كانَ مصاباً بالتصلّبِ اللويحي وأختي المقيمان في منزلِ أهلي القريبِ من مستشفى البربير. صمدنا نداري ذعرَ ابنتينا من دويّ القصف المهولِ في الليلِ والنَهارِ والخطرَ المترتّبَ على أيِّ تجوُّلٍ في الحيًِ أو في خارجهِ وبؤسَ شروطِ العيشِ بماءٍ متزايدِ الشُحِّ وكهرباءٍ تفوقُه بخلاً وخُبْزٍ صعبِ المَنال… صمّدنا إلى أن عايَنًا سقوطَ بنايتينِِ متجاورتينِ في حيِّ النويري المحاذي لحيّنا وتحوّلهما إلى كومتَي تُرابٍ ورُكامٍ ضئيلَتّينِ بعدَ استهدافِهِما من الجوّ.

… إذ ذاكَ قَرّرنا الرحيلَ إلى بنت جبيل المحتلّة. لم أكُنْ زرتُ البلدةَ منذُ سنةِ ١٩٧٧. كنتُ أقولُ: لا أعودُ إليها إلّا مُحَرَّرة! ولكنّ هذا النذرَ بدا سخيفاً فجأةً إذ أصبَحّ نصفُ البلادِ محتلًاً وعاصمتُها محاصرة. وكنتُ عالِماً أنّني أجازفُ إذ أعودُ ولكنًني قبلتُ المجازفة.

عليهِ قصدْنا الجنوبَ مغادرينَ بيروتّ من طريقِ فرن الشبًاكِ الحدَث، في رحلةٍ شاقّةٍ طالت عشْرَ ساعات (عوضاً عن اثنتين) على طُرقٍ مقصوفةٍ وشوارعَ مفروشةٍ بالأنقاض.
وصلنا إلى بيتِ أختي في البلدةِ لأنّ بيت أهلي كان مهدوماً جزئيًاً من جرّاءِ القصفِ في ١٩٧٧-١٩٧٨ ثمً من جرًاءِ النسفِ الذي أودي بمبنّيينِ كبيرينِ مجاورّينِ لهِ في أيًامِ الاحتلالِ الأولى. وكانَ ما تبقًى من الطابقِ السُفْلْيِّ فيه محتاجاً إلى إصلاحٍ ليعودَ صالحاً للسَكّن”.

وتابع: “على الفورِ كانَ عليّ أن أذهبَ إلى مركزِ المليشيا في السوقِ لتسجيلِ أسمائنا في سجلٍّ مفتوحٍ هناكَ إعلاماً بوصولِنا. على أنّ المدعو فوزي الصغير بادرني بالقولِ أن لا ضرورةَ للتسجيل لأنّ “تشريفي” البلدة أصبّحّ معلوماً!
عدتُ إلى المنزلِ إذن ولم أكُنْ غسلتُ وجهي من غبارِ الرحلةِ حين جاءّ من أخبرَ صهري بأنّني مطلوبٌ إلى المركَزِ نفسه حالاً.
في المركزِ، كانّ التسعةُ الذين سيصبحونَ رفاقَ الأيّام المقبلةِ (ولم أكن أعرِفُ إلّا اثنينِ من بينِهم) قد اجتمعوا قبلّ وصولي، وكانَ عقل هاشم هناكَ يأمُرُ وينهى. لم يتوجّه إلينا أحدٌ بكلامٍ تقريباً بل جرى زَجُّنا، على وجهِ السرعةِ، في سيًارتين عسكريّتين توجّهتا بنا، في أوّلِ الليلِ، إلى عيناثا القريبة.

كان سجنُ عيناثا منزلاً عادِيًاً صغيراً وقعنا فيهِ على سجًانٍ وعلى سجينٍ واحد. وكان السجينُ خالَ السجًانِ فكانَ لا يُناديهِ إلًا بِ”وْلاه”! عليهِ صاحَ السجينُ بالسَجّانِ ما إن جرى التعارُفُ بيننا: “وْلاه! روح عالبيت جيب فرش للشباب!”. وهو ما كان! رتّبنا منامَتّنا على نحوٍ مقبول. وكُنّا حينّ نستعمِلُ بيتَ الخلاءِ الوحيدَ نصُبُّ فيه شيئاً من الكازِ المتوفّرِ في إبريقٍ لأنّ الماءَ كان مقطوعاً عن المقعد “العربيّ”.

نمنا بلا عشاءٍ ولَكِنْ فوجئنا في الصباحِ بإفطارٍ ملوكيّ جاء بهِ أهلُ أحدِنا إليه: قصبة سوداء وملاحق لها. وقد راحَ صاحبُنا هذا يروي، ونحنُ نأكُلُ مَريئاً، أنّهُ حُبِسّ أيًاماً في سجنٍ ملحقٍ بمركز بنت جبيل وتعَرّضّ هناكَ للضرب. وهو ما أثارّ ريبَتي فأخذتُ أتَحفًظِ في الكلامِ خشيةَ أن يكونَ المشارُ إلبهِ “مزروعاً” للتجسُّسِ علينا… ولكن تبيّّنّ لاحقاً أنّ هذا التوجّسَ كانَ في غيرِ محَلِّه.
وفي الضحى، حضَرتْ شاحنةٌ سلَكّت بنا طريقَ عين إبل- رميش، فخشيتُ أن نكونَ متوجّهينَ إلى معتقَلٍ إسرائيليٍّ نقبَعُ فيهِ أعواماً. وقد عبرنا الحدودّ فعلاً إلى مستعمرةٍ محاذيةٍ لرُميش عَلِمْتُ لاحقاً أنّها تُدعى بيرانيت. هناكَ حُشِرْنا في مُسْتَوْعِبٍ ملقىً على أرضِ باحةٍ فسيحةٍ تحتَ الشمسِ وأمضَيْنا فيهِ النَهارّ كلّه في ضيقٍ ردّّ إلى ذاكرتي روايةّ غسًان كنفاني “رجالٌ في الشمس”. كنّا نتداولُ الوقوفَ أمامَ شبكِ الطاقةِ المفتوحةِ في بابِ المستوعبِ لنتنفّسَ. وكانَ من يرغبُ في التبَوُّلِ يلجأُ إلى نّرْبيشٍ مثبّتٍ في زاويةِ المستوعِبِ ينتّهي إلى حفرةَ في الخارج. وزادَ طينَنا بلّةً معتَقّلٌ فلسطينيٌّ جيءَ بهِ وهو مدمّىً لا تعرّفُ ملامحُه من الكدماتِ ولكنّ حالّهُ المعنويّةَ كانت جيّدةً وطلبَ منّا سيجارةً دَخَّنَها وأخرِجَ من بينِنا بعدّ حين. وقد فهِمنا أنّهُ أطلقّ النارَ على جنودٍ دَخّلوا أحّدّ مخيّماتِ صور وأصابَ بعضّهم”.

وقال: “في آخرِ النَهارِ، أُبْلِغْنا أنّ مُحَقِّقاً كانّ سيحضُرُ لاستجوابِنا وقَعَ لهُ حادِثُ سير… ثمّ عبّرت بنا الشاحنةُ الحدودّ واتّجَهَت إلى عيثا الشِعبِ القريبةِ فكانَ ذلك فرَجاً.
أمضينا يومينِ في سجنِ عيثا (وهو، في الأصلِ، مستوصّفٌ أنشّأهُ السيّد موسى الصدر) ووجدنا هذا السجنَ طريفاً ووجدنا أنفُسّنا معتَقّلينَ طريفين. في الليلةِ الأولى خضعنا لتَحقيقٍ سخيفٍ توّلًاهُ المدعو أحمد شبلي مسؤولُ المليشيا في البلدة. كنًا في الطابقِ السفليّ وكانَ يخاطبُ كلًاً منًا بدورهِ من حيثُ لا نراهُ في أعلى الدرَجِ المفضي إلى الأرضيّ سائلاً المعتّقَلَ عن السبّب الذي يقّدًرُ أنّه أوصّلّهُ إلى حيثُ هو. وهذا سؤالٌ أدرَكتُ لاحقاً أنّهُ مدْرَجٌ في برنامجِ استِحْوابٍ إذ سيطرحُهُ المحقّقُ الإسرائيليُّ بحروفهِ أيضاً، وهو يرمي، على الأرجحِ، إلى استدْراجِ المعتَقّلِ إلى نوعٍ من الاعترافِ بالتُهْمةِ قَبْلَ التصريحِ لهُ بها من جانبِ المحقّق. بعدَ ذلكّ جيءّ لنا بعشاءٍ أسخَفّ من الاستجوابِ ولم نلبث أن نِمنا، بعدّ نهارِنا المضني، سعداءَ باعتدالِ حرارةِ الليلِ وغافلينَ عمّا سيتَكّشّفُ عنه الصباح.

في الصباحِ اكتشفنا أنً أحداً لا يمانعُ في خروجِنا إلى باحةِ المستوصفِ ولا في ذهابِنا إلى المسجدِ القريب. وكان المسجدُ نعمةً كبرى لوفرةِ الماءِ فيه وكنّا قد أصبحنا محتاجينَ إلى غسلٍ كبير! على أنّ التحوّلَ الأهّمَّ كانَ انتشارَ خبرِ وجودِنا في السجنِ في البلدة كلًها ومنها في قرىً أخرى. فلم يلبث أعيانُ عيثا من الشيخِ إلى المختارِ إلى مديرِ المدرسة. وبعدَ أن كنًا نُراوِحُ (باستثناءِ إفطارِ عيناثا بين الجوعِ وتفاهةِ الزادِ وقلّتِهِ، غمرّنا الكرَمُ العيثاويّ بالأطايب: من مجدّرة حمراء مقرونةٍ بالبطًيخِ إلى أرُزًٍ بالدجاجِ مشفوعٍ بالكرز، إلخ. إلى ذلك، زارني في الصباحِ قريبٌ لي كان قد جاء عيثا لبعضِ شؤونهِ وعلمَ بوجودنا في سجنها. فعهدْتُ إليهِ بمعظمِ المالِ الوفيرِ الذي كنتُ حملتُه في جيوبي من بيروتٍ ومعهُ مجوهَراتٌ عائليّةٌ ليسلّمها إلى زوجتي ويخبِرّها أنّنا في عيثا. وكانَ مدهِشاً أنّنا، في يومين من الاعتِقالِ، لم نكن خضّعْنا لأيّ تفتيش! ولم تلبث عزّة وشقيقتي بديعة أن حضرَتا إلى السجن ومعهما منشفة وغيارٌ وفرشاةُ أسنانٍ وصابونة وبدا مستقبلُنا الحبسيّ زاهِراً وكانت معنويّاتي شخصيّاً في عنانِ السَماء. زارني أيضاً معارفُ لوالدي من عين إبل ويارون أبدوا أسَفَهُم لمًا هو جارٍ آمِلينَ ألّا يطولَ بنا هذا المقام”.

وختم: “في المساءِ حاصَرّ نفَرٌ من وحهاءِ البلدة أحمد شبلي (وبينَهم والدُ المذكور) وأبلغوهُ أنّ شبابَ بنت جبيل هؤلاء لا يجوزُ أن يبيتوا ليلةً أخرى في السجن!هكذا توزّعّتنا بيوتٌ عدّةٌ في البلدةِ أمضينا فيها ليلتنا كراماً أعزّاء وحظينا ، في الصباحِ، بالإفطارِ البلديِّ المَعْلومِ في أكثرِ حالاتِهِ سخاءً وأبّهة ثمّ درَجنا في طُرُقاتِ البلدة عائدينَ على أقدامِنا إلى السجن!
(يَتْبَع غداً)”.

السابق
«وعي المرأة السيكولوجي»: ورشة عمل في بعلبك.. بلوط لـ«جنوبية»: مجتمعنا يعاني من تراجع الديمقراطية
التالي
أسرار الصحف المحلية الصادرة يوم الثلثاء في 21 حزيران 2022