«النواب التغييريّون» كقماشة راقية في البرلمان: حذار الكمائن

النواب التغييريون

لا شك أن كتلة “ال#نواب التغييريّين” أحدثت ليس فقط صدمة سياسية لنمط البيئة البرلمانية التقليدية بل أحدثت أيضا نقلة في المستوى الشخصي للنواب. أعني بالمستوى الشخصي أن عددا كبيرا من النواب ال13 إن لم تكن غالبيتهم العظمى يشكّل ارتقاءً في المستوى السائد برلمانيا . تترافق في هذا الرقي كلا النسبة العمرية والتأهيل التربوي والاجتماعي.

إنهم جيل جديد في العمل العام بكل ما تعنيه الكلمة وهم لذلك ممثلون أمينون لجيل الطبقة الوسطى الشبابية التي قادت وصنعت ثورة 17 تشرين. ولم يكن عندي أدنى وَهْمٍ منذ انطلاقة هذه الثورة، التي أثارت إعجاب وتعاطف أرفع المحافل الدولية وأكثرها حداثةً، أنها ثورة نخبوية . لكنّ اتساعَ قاعدتها الاجتماعية الشبابية والجامعية لا يجعل منها ثورة شعبية. لقد ثارت نخبة شباب الطبقة الوسطى اللبنانية. جيل جديد من الشباب اللبنانيين الذين اختزنوا في تأهيلهم أفضل ما أنتجته الجامعات اللبنانية الكبرى مدعومين من نخب الدياسبورا الواسعة،وغطوا التشويه البالغ الذي طبع انتفاضة “ثورة الأرز” عام 2005 وجعل منها ثورة معاقة تكوينيا، رغم أهميتها الفائقة، من حيث أنها أي ثورة2005، لم تطرح إسقاط النظام اللبناني بل كانت موجهة فقط ضد نظام آخر خارج لبنان. وهي بهذا المعنى تختلف عميقا عن ثورات “الربيع العربي” التي تميّزت كلٌ منها بالدعوة إلى إسقاط نظام بلدها قبل أي طرح آخر. جاءت ثورة 17 تشرين لتصلح هذا التشوّه وتوجّه مطالب التغيير نحو النظام اللبناني نفسه بعد الانتهاء من حالة الوصاية.

اقرأ أيضاً: البحث عن «مرشح تغييري» للإستشارات..وحمادة يدفع إلى توقيف عياش وعنيسي ومرعي!

لقد جعلت القماشةُ الشخصية التي مثّلها معظم “النواب التغييريين” القماشاتِ أو النماذجَ السائدة تحت قبة البرلمان نماذجَ عتيقة ولا أريدأن أقول مستهلَكة تفوح موديلات موضة سياسية قديمة منها مع الاحترام لأشخاصهم كما مع تقدير العديد من الاستثناءات التي قد يظلمها التعميم.

فهؤلاء النواب الآتون فعلا من ثورة 17 تشرين ليسوا شبيهين:

1- ليسوا شبيهين بنموذج النائب “القواتي” الحالي الآتي عموما من حنكةِ وقسوةِ وميليشياويةِ تجربةِ الحرب الأهلية لاسيما من جيل قيادة سمير جعجع بعد العام 1982. رغم تغيرات قاعدة “القوات” من المقاتلين الريفيين “الأجلاف” إلى شباب مسيحي متعلّم باحث خبط عشواءعن نموذج في المدارس والجامعات.

2- وليسوا النموذج “الأمَلي” الحالي الآتي من مطحنة “صعود” الثمانينات وثقافة وممارسة “تطويع” القانون داخل وخارج الدولة والحامل لخبرة باتت طويلة في العمل الميليشياوي السياسي الشعبي والشعبوي في قيادة العصبوية الشيعية ومحاولات التحاق مبكرة ببعض اللغات الاجنبية والشهادات الجامعية “المتاحة”.

3- وليسوا النموذج الحزبي الحالي لفترة قيادة الحزب التقدمي الاشتراكي والطائفة الدرزية بعد عام 1977 وخصوصا بعد عام 1982 والحامل لتجارب وذاكرة حرب الجبل الطاحنة ومكر التوفيق بين السيطرة السورية والسيطرة على الأرض والدخول المتكافئ في تحاصص الميليشيات بعد العام 1990 ثم الانقضاض على السيطرة السورية.

4- وليسوا النموذج “الحزب إلهي” الحالي للنائب ذي الوقار الشكلي مع بعض الإتقان المقعَّر للغة العربية كما تقتضي المظاهر الدينية والحامل لخبرة التحاصص الصامت داخل الدولة وخارجها وخبرات فيها الكثير من دهاء الإعداد الإيراني ذي النموذج الأصولي، العنفيف عندما تقتضي براغماتية الحاجة والأولوية الأمنية السرية.

5 – وليسوا النموذج الحالي للنائب العوني (التيار الوطني الحر) الذي يأتي من أشلاء الطبقة الوسطى الدولتية والعسكرية بين المسيحيين والذي يعاني عقدة حساسية من اغترابه عن الانتفاضة النخبوية البادئة عام 2015 والمتحولة إلى ثورة ضد “كِلُّن يعني كِلُّن” عام 2019. هذاالجيل العوني المرتبك بين تعبيره عن حركة إنهاء الخلل في التمثيل المسيحي الذي ساد بين 1990 و2005 وبين تحمّلِه ومشاركته حتى الثمالة في وزر سلطة أوصلت إلى الانهيار الكامل عام 2019

هؤلاء “النواب التغييريون” الشباب هم أرقى من كل من سبقوهم من النماذج الخمسة المشار إليها كما يكون أبناؤنا أرقى منا أو كما يجب ان يكون الأبناء أرقى من آبائهم. (ولو كان بعضهم في أعمار أكبر من أعمار أبنائنا!)

لذلك وبصمت وبمعزل عما يمكن أن ينتج عن تجربة النواب ال13، أرسل ال13 أو عددٌ كبيرٌ منهم موجةَ كهرباء صادمة في محيطهم على المقاعد الأخرى لا يستهان بها لو أحسنوا إدارتها بالنضج والكفاءة والوعي السياسي الذي ظهر في 17 تشرين وما بعدها وخلق عقدة نقص عميقة لدى كل قوى المنظومة الحاكمة والتي لا تزال سارية، خصوصا “حزب الله”، في بعض سلوكياته الشارعية. أحد النواب العونيين المزمنين عبر عن هذه الحالة “الدونية” التي يشعر بها حين قال لنائب من “التغييريين” في برنامج تلفزيوني مؤخَّراً: “نحن أيضا نواب مثلكم. يجب أنت تعترفوا بذلك”. كان الأقوى في السلطة يخاطب القادم الجديد ويطالبه ب”الاعتراف” به من موقع الضعف المعنوي الذي خلقته كتلة ال 13،آليةَ نجاحٍ وأشخاصاً، في أوساط الكثرة من زملائهم النواب رغم أن ال 13 لم يستطيعوا الحصول على رئاسة لجنة برلمانية واحدة والآتي اعظم بالمعنى السلبي للكلمة أي الآتي من التهميش إذا لم تخلق هذه الكتلة معيارا للنجاح يقوم على استمرار الكشف والإحراج والتعرية.

لذلك وكمراقب منذ أمد طويل لمحترفي الحروب اللبنانية أنصح بتواضع أن:

1- تتحاشى كتلة ال13 أي تحالف أو تقارب دائم (دائم)مع أي كتلة من الكتل النيابية الأخرى سوى،كما ذكروا هم أنفسهم مرارا، سوى”على القطعة” حسب تعبيرهم.

2- أن تضع كتلة ال13 استراتيجية صدمات للمنظومة مدروسة وشجاعة.

3- يجب أن لا يسقط النواب ال13 في وهم إمكان صناعة تغيير النظام، فهذه عملية مقفلة في الظرف اللبناني الراهن ، ولذلك يصبح المطلوب ان يستبدلوا ضمنا ذلك في تصعيد سياسة الكشف والإحراج خوفا من تورِّطهم التدريجي في عملية تبهيت لهم لاشك ستلجأ إليها المنظومة.

4- ننتظر برنامج كتلة ال13 في تحريك الشارع بحيث يتصرّف أعضاؤها كما لو أنهم لم يصلوا إلى عضوية البرلمان.إنها الإزدواجيةالضرورية وأظن أنه كلما تصاعدت استراتيجية الكشف كلما على النواب ال13 أن يضعوا في حسابهم إمكان تعرضهم للعنف الذي لا يقل عن العنف الذي تعرّض له بعضهم وغيرهم في الشارع أيام 17 تشرين وما تلاها.

كلما سارت الأمور بهدوء داخل البرلمان كلما كان على نواب “الكتلة التغييرية” أن يسألوا أنفسَهم ونسأل معهم: مالذي يحدث خطأً؟ أو أين يكمن الخطأ؟ لأن ذلك، أي الهدوء، هو تعبير عن استيعاب ال13 داخل “اللعبة”. عن احتمال موت هادئ لهذه التجربة لا يجب أن يحصل.
لقد أنتج الوضع اللبناني المعقّد انهياراً معقّدا إذا جاز التعبير. المواءمة الدقيقة واليومية بين شعار إنهاء حالة السلاح خارج الدولة، السلاح الذي تعارضه أكثرية الطوائف اللبنانية من مسيحيين ودروز وسُنّة لصالح وحدانية السلاح الشرعي و بين شعار إسقاط نظام الفسادوالمحاصصة وكل مستتبعاته وبينها الدعوة إلى استعادة الأموال المنهوبة بما فيها أموال أصحاب المصارف المحوّلة إلى الخارج. وللإنصاف يظهر من تصريحات بعض النواب التغييريين هاجسُ المواءمة هذه، ووعيُ مدى صعوبتها. غير أنه لا مفر من التنكّب لحمل صليبها.

على المستوى الشخصي لم أكن أتوقّع وصول هذا العدد من النواب الممثلين لثورة 17 تشرين، وحتى اللحظة الأخيرة التي سبقت إعلان النتائج كنت متشائما من إمكانية اختراق حتى بهذا الحجم المحدود(وخصوصا في البيئة الشيعية حيث لم تجرِ انتخابات فعلية منذ العام1992 خلافا للبيئة المسيحية بعد 2005 وللبيئة السنية بعد 2018 حيث الانتخابات صارت فعلية) ولكن بالنتيجة أراه اختراقا كبيرا وكنت على اختلاف في التقييم والمزاج التقييمي مع العديدين من الشباب المتفائلين.

حصل الذي حصل والتحدي الآن، هو تقديم ال13 والبيئة الشبابية الواسعة الحاضنة لهم من شمال لبنان إلى جنوبه نموذجا جديدا ونظيفاً للعمل السياسي وليس السقوط في وهم تغيير النظام، التغيير المستحيل لأن النظام الطائفي قوي جدا حتى وهو يدير دولة أصبحت منهارةوتافهة.

تبقى ملاحظة أخيرة وهي أن على النواب ال 13 مسؤولية كبيرة في الحفاظ على القيمة المعنوية الفائقة لما يمثلون فلا يطلق أحدهم أوإحداهن أي تصريح يُفهم منه إعطاء براءة ذمة أو إعجاب حيال أي رمز من رموز الفساد كما فعل قبل أيام عضو منهم، وهي سيدة. إن مايمثل النواب ال13 حتى الآن شديد الأهمية المعنوية بمعزل عن النتائج السياسية لحصيلة 17 تشرين باعتبارها أهم حركة اعتراض شبابي ونخبوي في تاريخ الجمهورية اللبنانية.

السابق
كيف سيكون طقس الـ«weekend»؟
التالي
فضيحة مدوية: وثيقة تثبت ملاحقة ميقاتي من القضاء الفرنسي بشبهة تبييض أموال.. ومحاولة تنصّل «فاشلة»!