وجيه قانصو يكتب لـ«جنوبية»: حفظ الثروة النفطية يحتاج أولاً إلى دولة!

وجيه قانصو
يخص الدكتور وجيه قانصو «جنوبية» بمقال أسبوعي ينشر حصرياً على صفحات الموقع ومنصاته.

 مشكلة الترسيم البحري بين لبنان وإسرائيل، تفضح نوايا إسرائيل التي يقوم كيانها على إبقاء حدود غير واضحة المعالم بينها وبين جيرانها، للاحتفاظ بقدرتها على المناورة والتلاعب أو تغيير هذه المعالم كلما اقتضت حاجتها أو توسعت أطماعها. هي دولة أثبتت التجارب أنها ليست جاهزة لحسن الجوار مع أية دولة مجاورة، وليست جاهرة لسلام عادل مع شعوب المنطقة العربية. 

بالمقابل فإن إسرائيل دولة، تعرف كيف توظف كل إمكاناتها وطاقاتها لصالح قضية وطنية لها. أي استعاضت إسرائيل ضعفها الأخلاقي بدولة مقتدرة، حيث السياسي والأمني والدبلوماسي والإداري، كلها أجهزة لكيان واحد، تتوزع الأدوار بينها لكنها تتناسق وتتكامل لتحقق غرضاً وهدفاً واحداً.

تعرف كيف تشن حملتها الدبلوماسية، وكيف تستقطب تأييداً ودعماً دوليين، وكيف تصور اعتداءها حقاً مكتسباً أو فعلاً دفاعياً واحترازياً.  خطابها متنوع الإيقاع ومتعدد الأدوات، لكن يجمعها استراتيجية واحدة بمايسترو واحد هي الدولة التي تدير شؤونها سلطة منتخبة.  قلما تجد مزايدة طرف ضد طرف، وإذا وجد فهو مصطنع ومفبرك، هنالك سقف للخلاف مهما اشتد وهو الدولة، ولن تجد أحداً ينتزع زمام المبادرة من الدولة بحجة ضعفها أو تخاذلها، فالسبيل الوحيد لتحقيق أي مشروع سياسي أو حملة حربية  هو أن يمر عبر القنوات القانونية والشرعية لممارسة السلطة. 

أخطر مقترح أن توكل معالجة الملف البحري إلى حزب الله والرهان على قوته في حفظ الموارد الوطنية وهذا يعني استقالة الدولة من مهمتها

الإمكانات المتعددة فيها تعني تعدد الأدوار والمهام، ولكنها لا تعني التعدد في المرجعيات وصناعة القرار، بل تعني التناغم والتآلف بين وجوه النشاطات المتعددة، فلا يعود الفعل الحربي منفصلا عن الفعل الدبلوماسي، ولا يعود القطاع الاقتصادي والإنتاجي خارج صناعة القرار السياسي.  هنالك دولة تخطط وهنالك جهة واحدة تدير وهنالك أجهزة متعددة تنفذ.

هذا هو الكيان الذي نعمل على فض النزاع معه لاثبات حقوقنا البرية والبحرية. هذا الكيان الذي أوقعنا في فخه، لا لذكائه بل لضعفنا وعدم جهوزيتنا. فاوضنا على الخط 23، وأدلينا باعتراف دولي بهذه الحدود، ولم نعلم أن حقنا يتجاوز ذلك بكثير، بل لم نبذل جهدا كافياً لتقصي الأمر، والعودة إلى الوثائق البريطانية المتوفرة التي تثبت ذلك. 

تأخرنا في إصدار تشريعات ومراسيم لتنظيم عملية الحفر والتوزيع والاستثمار في المجال النفطي، وتجادلنا كثيرا حول من يمسك بالملف، لتضمن الاطراف المتنفذة حصتها في المغانم المتوقعة. 

تصدت عدة قيادات لملف التفاوض، ولم يكن الوسيط الأمريكي يفاوض جهة واحدة بل عدة جهات وعدة قيادات، وكان لكل جهة حساباتها الخاصة، وقناة اتصالها وتفاوضها الخاصين مع المفاوض الأمريكي، الأمر الذي خلق ضبابية بل هشاشة وضعفاً وتضارباً، في الموقف اللبناني الرسمي تجاه المقترحات الأمريكية. لذلك لم يتم التعامل مع الثروة النفطية بصفتها ثروة وطنية، بل مغانم ومكاسب حرب يجنيها القادة والمسؤولين، الذين يقوموا بدورهم بالتفضل على أتباعهم، بتوزيع أسهم وحصص من هذه الغنائم.

عمدت اسرائيل في الزمن الضائع إلى خلق معطيات أمر واقع من خلال تثبيت نقاط حفر واستخراج ثابتة خارج حدود المنطقة المتنازع عليها

استفادت إسرائيل من غموض الموقف اللبناني على المستوى الدولي، ومن تشتت القيادات واستحالة اجتماعهم على خطة واحدة أو استراتيجية موحدة، أو حتى على موقف واحد، فعمدت في الزمن الضائع إلى خلق معطيات أمر واقع، من خلال تثبيت نقاط حفر واستخراج ثابتة، خارج حدود المنطقة المتنازع عليها، لكن قادرة على امتصاص الآبار الداخلة ضمن الخط 29 الذي يطالب به لبنان. هي مبادرة لكسب الوقت من خلال خلق معطيات قوة في الوقت الضائع، وجنى الارباح الهائلة جراء الارتفاع الجنوني في أسعار النفط.

إقرأ ايضاً: خاص «جنوبية»: «الفريش» دولار «يُفقر» المُغترِب الجنوبي..«لا صيف ولا من يُصّيفون»!

ما فعلته إسرائيل أنها استفادت من الفراغ اللبناني، وعمدت إلى خلق معطيات جديدة، لم يعد بإمكان الطرف اللبناني إزالتها أو تغييرها، سواء أكان بالعمل الدبلوماسي أو بالعمل العسكري. فالدبلوماسية اللبنانية تأتي دائما متأخرة ومضطربة وضعيفة وحتى متناقضة، والعمل العسكري لا يقبل التوظيف في هكذا حالات، لأنه بمثابة إعلان حرب، لا أعتقد أن احدا في لبنان جاهز لها أو قادر على تحمل تبعاتها. هذا فضلا عن أن الحرب قد تحقق انتصارات معنوية، لكنها بالتأكيد لن تحقق انتصارات سياسية ولن تغير من المعطيات الميدانية، وستؤدي في أحسن حالاتها إلى هدنة، تبقي الأمور على ما هي عليه، أي إبقاء الأوضاع الجديدة التي خلقتها إسرائيل وعجز لبنان عن إزالتها أو تغييرها.

حين تفاوض إسرائيل كدولة، فإن لبنان يفاوض بصفته أكثر من دولة بحكم وجود أكثر من مفاوض، أي يفاوض  كسلطات متجاورة ومرجعيات مستقلة. وحين برزت أزمة التنقيب الأخيرة، سارع الجميع إلى إعلان الشجب والرفض والتهديد والوعيد، وأخذ البعض يعد إمكانات لبنان وقدراته الردعية ضد العدو الإسرائيلي، من دون أن يبين كيف يمكن لهذه القدرات والإمكانات الردعية، أن تتكامل وتتناغم وفق خطة موحدة، وكيف بإمكان لبنان الاستفادة منها في مسعاه التفاوضي. 

فالجميع لم  يتفقوا حتى الساعة على استراتيجية موحدة، أو خطة أداء متناغمة الإيقاع، حيث لكل طرف سياسي أو أمني حساباته، بعضهم يُظهر غير ما يبطن، وبعضهم يكتفي بالمزايدة ورفع السقف، والبعض الآخر يريد لعب دور المنقذ والقائد، والبعض الآخر (حزب الله) يريد استثمار لحظة ضعف الدولة لانتزاع المبادرة منها، وحصر الملف البحري بيده وتأكيد وصايته عليه، لغرض توظيفه في تسويات أو صراعات إقليمية. 

علينا قبل إعلان النفير العام أن نثبت أن لدينا دولة بالمعنى الفعلي لا الشعاراتي أو الافتراضي 

كان رد الفعل اللبناني ضد القرار الإسرائيلي بالحفر والاستخراج، أشبه بسيرك سياسي، الكل يزايد على الكل والكل يتهم الكل، والكل يظهر بهلوانياته ويمارس شتى الخدع السمعية والبصرية، ليوحي للبنانيين بأن لبنان في موقع القوي، وصاحب اليد العليا في مسار التفاوض مع إسرائيل. تجده يعدد عناصر القوة، يعددها منفردة ومنعزلة، ولا يعددها داخل إيقاع موحد واستراتيجية متناغمة، فضلا عن أن هذه العناصر هي بحد ذاتها متنافرة ومتناقضة ولا يمكنها التساكن أو التآلف فيما بينها لتحقيق غايات موحدة.

أخطر مقترح قيل في هذا المجال هو أن توكل معالجة الملف البحري إلى حزب الله، والرهان على قوته في حفظ الموارد الوطنية. هو رهان يعني استقالة الدولة من مهمتها، فبدلاً من اصطفاف الحزب خلف الدولة والتزامه بسياستها ومرجعيتها واستراتيجيتها المفترضة في حفظ الحق الوطني، سواء أكان في التصعيد أو التهدئة، تكون الدولة قد اصطفت خلف الحزب، ووضعت قرار الحرب والسلم بيده، وباتت مرتهنة لطريقة إدارته لهذا الملف. ويعني أيضاً تحويل الملف البحري ملفاً أمنياً وعسكرياً، بالتالي اغلاق الباب الدبلوماسي والسياسي الذي يمثل ضماناً أقوى وسبيلاً أكثر فعالية لتأكيد ثروة لبنان الوطنية.

من جديد، فإن مشكلة لبنان في ملف النفط والغاز، أنه يحتاج إلى دولة ذات سيادة داخلية ومرجعية حصرية، قادرة على توظيف طاقاتها الداخلية وتشغيل إمكاناتها المتعددة تحت سقف واحد، واستراتيجية أداء مبتكرة.  علينا قبل إعلان النفير العام، أن نثبت أن لدينا دولة بالمعنى الفعلي لا الشعاراتي أو الافتراضي. 

السابق
منخفض جوي سريع..طقس متقلب وماطر من اليوم وحتى الثلاثاء!
التالي
احمد بيضون ينعى شوارع العاصمة المُفلِسة..الحمرا ومحالها ومصارفها يعلوها الغبار!