تأمّلات في اللّاعنف

عبد الحسين شعبان
"يحمل العصفور الأزرق السماء على ظهره" هذا ما كتبه أحد أهم فلاسفة اللّاعنف الأمريكيين هنري ديفيد ثورو، في لحظة عزلة وتأمّل في معنى الحياة وفلسفتها وفي الدعوة إلى القطيعة مع العنف، وهي قطيعة مكلفة لأنها تخالف السائد والشائع والغالب التاريخي والفعلي، ولكن كيف يمكن تحقيق ذلك؟ وأيّة قوّة قادرة على مثل هذا الاختيار؟

“خطوة واحدة لن تعبّد طريقًا على الأرض، كما أن فكرة واحدة لن تغيّر شيئًا في العقل، تتابع الخطوات ستعبّد الطريق، كما أن الكثير من التفكير سيصنع المستحيل الذي يغيّر حياتنا”، وهو خلاصة ما توصّل إيه ثورو من تجربة حرب الاستقلال الأمريكية، بل أحد دروسها المهمة، حيث ازدهر يومها الأدب الأمريكي متخذًا قيمًا جديدة تقوم على الاعتماد على الذات واحترام الطبيعة ومقاومة الاسترقاق، فضلًا عن التحلّي بحس الفكاهة التي ألهمت الكثير من المثقفين.

واعتبر الروائي والدو إمرسون أن الوصول إلى حالة روحية سامية هو الذي يمنح الإنسان مثل هذه القوة، وقد نشر كتابًا في العام 1863 بهذا الخصوص مستقطبًا عددًا من الكتّاب حوله لتشكيل ما أطلق عليه “الحركة المتعالية” التي وصل تأثيرها إلى بعض العامة من الناس، وأشار إمرسون إلى أن بصيرة الإنسان وحواسه تسمو على المعرفة التي تأتي عن طريق المنطق والاستنتاجات، وبالتالي فهي الأهم والتي يمكن أن تُستكمل بالمعلومات والمعارف والعلوم.

ومن بين الذين تأثروا بالحركة المتعالية ثورو فانخرط فيها، وحاول اتخاذ العزلة سبيلاً لتطبيقها، وقد دوّن تجربته في كتابه “والدن“، حيث عاش في كوخ على الشاطئ الشمالي لبحيرة والدن محاولًا  إدماج اللّاعنف بالطبيعة والعكس أيضًا، كان ذلك في إطار الإيمان بأن الله موجود في كلّ شيء في الإنسان والطبيعة، وهو الأمر الذي مثّله أصحاب الفلسفة المتعالية الذين انقسموا إلى قسمين:

 الأول – اهتمّ بالإصلاحات الاجتماعية. أما الثاني – فاهتم بالفرد ويعتبر كتاب ثورو “العصيان المدني” الصادر في 1849 تجسيدًا للتحوّل في داخل الانسان واستعداده للمقاومة اللّاعنفية. وتقوم فكرة العصيان المدني على المقاومة السلبية، خصوصًا رفض تطبيق القوانين غير العادلة، أي الاحتجاج على الظلم بالامتناع عن تطبيق القانون، ومن خلال التحوّل الفرداني يمكن قيادة تحوّل مجتمعي للتغيير بالسلم وليس بالعنف.

إقرأ أيضاً: سليمان نعمة.. الشاعر الجنوبي اللبناني الفرنسي السويدي «الغائب المُتغيب»!

واعتمد صديقنا الفيلسوف اللّاعنفي جان ماري مولر هذا المنهج برفضه الانخراط في الجيش الفرنسي لمحاربة الشعب الجزائري العام 1960، وسُجن على أثر ذلك ليكرّس حياته منذ ذلك التاريخ وحتى وفاته العام 2021 لفلسفة اللّاعنف.

شهدنا في فترة ما أطلق عليه الربيع العربي تنازع وسيلتين تراوحت بين العنف واللّاعنف

جدير بالذكر أن ثورو يُعتبر من أوائل الفلاسفة اللّاعنفيين الذين تأثّر بهم الروائي الروسي الشهير تولستوي والمهاتما غاندي قائد المقاومة اللّاعنفية في الهند ومارتن لوثر كينغ زعيم حركة الحقوق المدنية الأمريكية. واستمدّ ذلك من قراءاته لفلسفة القرن السادس عشر الأوروبية، علمًا بأن الثقافات القديمة الصينية والهندية واليونانية والرومانية والعربية – الإسلامية، وحتى قبل الإسلام احتوت على شذرات لاعنفية، حيث يوجد في التاريخ البشري ومضات لاعنفية لم تكتمل أو أنها انقطعت في غلبة العنف وهيمنته باعتباره القاعدة السائدة.

والحديث عن العنف واللّاعنف ذو شجون، فقد شهدنا في فترة ما أطلق عليه الربيع العربي تنازع وسيلتين، تراوحت بين العنف واللّاعنف ففي حين اتخذت تونس ومصر طريق اللّاعنف سارت بلدان أخرى في طريق العنف والعنف المضاد مخلّفة فوضى وخرابًا ودمارًا،  وهو ما عاشته أوروبا الشرقية أيضاً في مواجهة الأنظمة الشمولية، مع ملاحظة أن البلدان التي انتقلت من طور إلى طور باللّاعنف ظلّت متماسكة على الرغم من التحديات التي واجهتها، وستكون التغييرات أكثر سلاسة وأمنًا لمن يلتجأ إلى اللّاعنف حتى وإن كان قادرًا على استخدام العنف على الرغم من طول الطريق وتعقيداته.

لقد بدأ الأمريكيون في مقاومة الاستعمار البريطاني باللّاعنف قبل الاستقلال، وذلك بالامتناع عن دفع الضرائب ورفض الرّق، وقد تعمّق هذا التوجّه في عشرينيات وثلاثينيات القرن التاسع عشر عندما ارتفعت وتيرة المطالبة بإلغاء الاسترقاق، وذلك بعد أن ألغى باي تونس المشير أحمد باشا الرق في 23 يناير / كانون الثاني 1846، وهي أول دولة في العالم تلغي الرق، وبعدها بنحو عقدين ألغت الولايات المتحدة الرق في 1865، علمًا بأن الذين تبنّوا فكرة إلغاء الرق كانوا يؤمنون بالطريق اللّاعنفي لاعتبارات دينية تتعلّق بانحداراتهم المسيحية، ومن وجهات نظرهم أنه لا يجوز مطلقاً لأي إنسان أن يمارس سلطة على إنسان آخر، وطريق العنف هو طريق السلطة، لذلك انقاد هؤلاء إلى نبذ العنف لأنهم ضدّ السلطة.

الذين تبنّوا فكرة إلغاء الرق كانوا يؤمنون بالطريق اللّاعنفي لاعتبارات دينية تتعلّق بانحداراتهم المسيحية

اللّاعنف مفهوم جديد لأنه يدخل قطيعة أبستمولوجيّة بينه وبين ثقافة العنف الموروثة من التقاليد والعادات بفعل تواتر الاستعمال، حيث تزداد القطيعة صعوبة حين تتعلّق بالدين أو الأيديولوجيا، فما بالك حين تكون المفاهيم والتعاليم والممارسات مصحوبة بالعنف، الأمر الذي يعني أن القطيعة حفر في العمق وليست نقرًا في السطح، لأن اللّاعنف ليس أيديولوجيا وليس عقيدة وإنما هو حكمة، أي فلسفة والفلسفة تعني “حب الحكمة” و”الحكمة حقيقة” و”الحقيقة حياة”.

السابق
ميقاتي يمهد لتعويم حكومته..والاستشارات النيابية الأسبوع المقبل!
التالي
خاص «جنوبية»: منصة سلامة للمحظيين فقط..والدولارات داخل البنوك «فيها إيد وإجر»!