وجيه قانصو يكتب لـ«جنوبية»: المشهد السياسي لما بعد الإنتخابات النيابية

وجيه قانصو
يخص الدكتور وجيه قانصو «جنوبية» بمقال أسبوعي ينشر حصرياً على صفحات الموقع ومنصاته.

ناولتُ في المقالة السابقة توزيع القوى السياسية الجديد، الذي أفرزته نتائج الإنتخابات النيابية، والذي استقر على ثلاثة اتجاهات أساسية: تغييري، سيادي، وممانع.  وبعد إظهار سمات وتحديات الاتجاه التغييري، سأناقش في هذه المقالة راهن وتحديات الإتجاه السيادي.

اقرأ أيضاً: وجيه قانصو يكتب لـ«جنوبية»: مشهد ما بعد الانتخابات.. السياسي

هذا الإتجاه هو ما تبقى من قوى 14 آذار، الذي نما واكتسب شعبية عالية إثر مقتل رفيق الحريري، وإثر المطالبة بالإنسحاب السوري، ونزع سلاح حزب الله أو على الأقل وضعه تحت وصاية الدولة، واستعادة سيادة الدولة لتكون صاحبة الحق الحصري في حمل السلاح واستعماله،  وفي إعلان الحرب والسلم والهدنة مع أية دولة، صديقة كانت أم معادية. 

الذي حصل أن تجربة السيادة التي خاضها الاتجاه السيادي، على مدى أكثر من سبعة عشر عاماً كانت فاشلة، لا لجهة فائض القوة (السلاح) الذي يتمتع به حزب الله، أو الموانع الخارجية من إقليمية ودولية، ولكن لجهة تكوين قوى 14 آذار الذاتية، الذي سرعان ما تفككت لحمته بعد الانسحاب السوري من لبنان، وصار لكل حزب أو تيار داخل قوى 14 آذار خطابه واستراتيجية عمله ومواقفه المنفصلة. فلم نعد أمام جبهة موحدة بل أمام شعار عريض، ينضوي تحته قوى متنافرة ومتناقضة في آدائها ومواقفها، مقابل القدرة اللافتة من الطرف الآخر، أي قوى 8 آذار في توحيد المواقف وتنسيق الأداء، في لحظات المواجهة والمحطات المفصلية، على الرغم من غياب المبدأ الجامع أو القضية المشتركة بينهما.

تجربة السيادة التي خاضها الاتجاه السيادي على مدى أكثر من سبعة عشر عاماً كانت فاشلة

كان شعارا بناء الدولة القوية واستعادة سيادة الدولة، هما صلب خطاب قوى 14 آذار وأساس استقطابها وتعبئتها الشعبية. إلا أن بنية هذه القوى كانت على النقيض من مفهوم الدولة بمعناها الحديث، سواء أكان في تكوينها الطائفي، أو زعامتها التقليدية، أو المركزية الحادة لقياداتها، أو كون أكثرها امتداداً لقيادات وتنظيمات الحرب الأهلية. في حين إن الدولة كائن معنوي حقيقي وفعلي، هو من جهة منبثق من المجتمع بصفته الشكل الأعلى لانتظام المجتمع لنفسه، أي كائن كلي غير مشخصن صاحب سيادة عليا فوق جميع المكونات الفرعية، وهذا يفرض أن تكون الديمقراطية الفعلية سبيلا إلى نشوئها واستمرارها لتكون الدولة ثمرة تفاعل جميع أفرادها ومكوناتها، أي تبقى منبثقة من المجتمع، لا من شخص بعينه أو مجموعة أحزاب.  وهو من جهة أخرى منفصل عن المجتمع في تكوينه وإجراءاته ومؤسساته، أي كائن ينتظم على قواعد كلية ومعقلنة عابرة لأية خصوصية مذهبية أو هوية خاصة. فالدولة الحديثة قوامها الديمقراطية والعقلانية، وهما سمتان تفتقدهما قوى 14 آذار، سواء أكان في بنيتها التنظيمية، أم الخلل في توزيع القوة وصناعة القرار في داخلها، أم في خصوصيتها الطائفية.

عادت الانتخابات النيابية الاعتبار المعنوي والشعبي لما تبقى من قوى 14 آذار القوات والكتائب والإشتراكي بل أنهت الانتخابات النيابية مبدأ تحالف الأقليات

 التفارق بين هدف قوى 14 آذار وتكوينها الذاتي، إضافة إلى التباينات الشديدة بين قواها المتعددة، غيب بالكامل برنامج واستراتيجية استعادة السيادة، أو مشروع الدولة القوية طوال الفترة الماضية، كان فيها أداء قوى 14 آذار على مدى أكثر من خمسة عشر عاماً، أداء متضارباً ومشتتاً، إتهام واتهام مضاد بين قواها، سجالات شخصية بين قياداتها، تنافس على السلطة، تورط في ملفات فساد، تهافت على استغلال موارد الدولة، تنازلات بالجملة والمجان من دون مقابل لحزب الله. هو أداء كارثي تسبب بانسحاب طوعي غير مفهوم ومستهجن، بالتالي نهاية سياسية لأهم مكون فيه وهو تيار المستقبل، ونهاية شبه رسمية لمشروع 14 آذار.

أعادت الانتخابات النيابية الاعتبار المعنوي والشعبي لما تبقى من قوى 14 آذار، القوات والكتائب والإشتراكي، بل أنهت الانتخابات النيابية مبدأ تحالف الأقليات، وفكرة الرئيس القوي، وشعار التمثيل الأعلى للمسيحيين، وأجهزت على فلول النظام السوري الموزعة داخل المجال السني والدرزي والمسيحي. بل أظهرت عمقاً مجتمعياً وامتدادا شعبياً لهذه القوى داخل طوائفها، بالأخص حزبي القوات والإشتراكي.  إلا أن أهم محصلة للانتخابات هو صعود ممثليات سنية جديدة، بالأخص في بيروت وطرابلس وصيدا، تنسجم مع الطرح السيادي، ومرشحة أن تكون قيادات فاعلة وبديلة لقيادة البيت الحريري.  

هي نتائج ستعدل الكثير من برنامج عمل المجلس، وستفرض عليه نقاش وتشريع عناوين جديدة غير مسبوقة. كما إنها سلبت من حزب الله الكثير من عناصر القوة التي كان يستند إليها، وقلص مساحة امتداده داخل الطوائف غير الشيعية، وحوله إلى قوة معزولة داخل المجال الشيعي، الأمر الذي عزز الطابع المذهبي لسلاحه، بعد أن تلقى رسائل رفض واضحة من باقي المكونات اللبنانية ضد هوية سلاحه ووضعيته وطريقة إدارته واستعماله. 

نجحت القوى السيادية في إثبات أصالتها التمثيلية وفي توسيع مداها الشعبي

نجحت القوى السيادية في إثبات أصالتها التمثيلية، وفي توسيع مداها الشعبي، بالتالي فرضت نفسها قوة مكافئة لقوى 8 آذار من حيث القوة الشعبية والنيابية، لكن هذا النجاح لا يكفي ليحقق نجاحاً سياسياً،  بخاصة بعد تاريخ الهزائم السياسية التي منيت بها قوى 14 آذار، التي كان أهم مظاهرها اتفاق الدوحة، الذي منح سلاح حزب الله شرعية سياسية من خلال ثالوث الجيش والشعب والمقاومة،  وأنشأ عرفاً سياسياً رديفاً بل مناقضاً لاتفاق الطائف، بالإضافة إلى بدعة الثلث المعطل. 

أمام قوى الطرح السيادي مهام كبرى، أهمها، بعد التعلم من أخطاء وثغرات الأداء السابق: إعادة هيكلة بناها التنظيمية لتكون أكثر ديمقراطية، إنتاج خطاب عابر للطوائف، الخروج من عقدة الخوف والتخويف، العودة إلى دستور الطائف والعمل على إحياء جميع بنوده بخاصة إلغاء الطائفية السياسية، التي تبين أنها المانع الأول لقيام الدولة الحديثة، فضلا عن كونها الحصن الحصين الذي يتمترس خلفه سلاح حزب الله، نزع الشرعية عن أي سلاح خارج سلطة الدولة، استكمال قدرات المؤسسات الأمنية بالأخص الجيش، استكمال معالم الدولة المدنية التي أهمها شرعنة الزواج المدني (الاختياري)، وإنشاء قوانين مدنية للأحوال الشخصية لكي تعود الطوائف تدريجيا مجرد مكونات دينية أو اجتماعية، لا مؤسسات سياسية وتشريعية تنافس الدولة على سيادتها.

أما معضلة سلاح حزب الله، وباقي مظاهر السلاح المتفلت في لبنان، فهذه معضلة ذات تعقيدات إقليمية ودولية، تتجاوز قدرة القوى السياسية في لبنان أو مؤسسات الدولة اللبنانية على حسمه،  لكن الذي يمكن حسمه هو نزع شرعية هذا السلاح، أي جعله سلاحاً مكشوف الظهر، عبر إظهاره سلاح الأمر الواقع الذي يفرض نفسه بالقوة خارج أية شرعية، أي تحويله بنظر الداخل والخارج إلى سلاح يقوم على شرعية القوة لا قوة الشرعية.

معضلة سلاح حزب الله وباقي مظاهر السلاح المتفلت في لبنان، فهذه معضلة ذات تعقيدات إقليمية ودولية تتجاوز قدرة القوى السياسية في لبنان أو مؤسسات الدولة اللبنانية على حسمه

التحدي الذي يواجه التيار السيادي هو لمُّ شملِ قواه المتفرقة، وتأسيس جبهة موحدة تتطابق في الأولويات والعناوين الكبرى، للحد من تناقضاتها من جهة، وتكون ذات مرونة عالية في علاقة القوى ببعضها تحفظ لكل قوة في داخلها إرثها الثقافي وخصوصيتها التنظيمية. لعل التحدي الأكبر هو القدرة على بناء جسور تفاهم وتوافق مع الشخصيات التغييرية، حول سمات الحياة السياسية القادمة، والعمل على التطابق في الرؤى حول حقيقة الكيان ومسلمات الدولة التي لا يمكن التنازل عنها أو التساهل فيها.

لم تعد معركة ما بعد الانتخابات سياسية، بل معركة كيانية وسيادية بامتياز. بالتالي ليست أولوية المرحلة القادمة هي ملء الفراغات في المؤسسات الدستورية على الرغم من ضرورتها، بل حسم الأرضية التي تمارس على أساسها السياسة، والمبادرء الذي تتخذ وفقها القرارات.  

السابق
كيف افتتح دولار السوق السوداء صباح اليوم؟
التالي
في ذكرى احتلال القدس الشرقية : هل يمنع «الشيعة» هدم الأقصى؟!