حارث سليمان يكتب لـ«جنوبية»: العُنفُ خَيارٌ مُرٌ

حارث سليمان
يخص الناشط السياسي والأكاديمي الدكتور حارث سليمان "جنوبية" بمقال أسبوعي ينشر حصرياً على صفحات الموقع و منصاته الإلكترونية.

يستعيد اللبنانيون في منتصف نيسان من كل عام، ذكرى اندلاع حرب دامت طويلا، ويتبادلون الاتهامات بتفجيرها، كما يتبادلون تقاذف المسؤوليات عن عدم استخلاص عبرها والاستفادة من دروسها.

يتكرر هذا على الرغم من انه ليس ثابتا ان بداية الحرب، كانت حادثة بوسطة عين الرمانة، فقد سبق ذلك حوادث تأسيسية شكلت مفاصل حربية وسياسية هامة، أدت الى اندلاع الحرب وتوسعها وانفلاشها لتصبح حربا اقليمية على ارض لبنان. 

ولعل ابرز تلك المحطات الأمنية واشدها اثرا على لبنان، هو قيام اسرائيل بقيادة ايهود باراك، باغتيال القادة الفلسطينيين الثلاثة كمال عدوان وكمال ناصر وابو يوسف النجار في فردان في ١٠ نيسان ١٩٧٣، وما اثار ذلك من انتشار مسلح فلسطيني لبناني على مداخل المخيمات الفلسطينية، ترافق مع ازمة سياسية طالت دور الجيش اللبناني والاجهزة الامنية اللبنانية، ثم اعقب ذلك صدامات مسلحة، في شهر ايار من السنة ذاتها، بين الجيش اللبناني الذي حاول اقتحام المخيمات الفلسطينية واستلام الامن فيها، وادى فشل الجيش في انجاز هذه المهمة، الى موجة تسليح وتدريب شاملة وتشكيل ميليشيات مسلحة، طالت مختلف الاحزاب التي تشكلت لاحقا تحت عباءة الجبهة اللبنانية.

اما ابرز المحطات السياسية التي شكلت فعلا تأسيسيا للحرب اللبنانية، فقد كانت تطابق زمنين في نهاية سنة١٩٧٠، هما زمن استلام الرئيس حافظ الاسد مقاليد السلطة في سوريا، بشكل كلي، بعد حركته التصحيحية، وزمن انتخاب الرئيس سليمان فرنجية الجد رئيسا للجمهورية في لبنان..

ورغم مرور ما يقارب الثلاثين سنة على الاقفال الرسمي لمجريات الحرب وفصولها، فإن لكل طرف في لبنان  روايته عنها

 ورغم مرور ما يقارب الثلاثين سنة على الاقفال الرسمي لمجريات الحرب وفصولها، فإن لكل طرف في لبنان  روايته عنها، ولكل طرف سردية مظلوميته وتبريرات انخراطه فيها، وذرائع الانقطاع عن المشاركة فيها، حتى يخال اي مراقب بعيد، ان امكانية اعادة اندلاعها، ينتظر ظرفا اقليميا او دوليا حتى تنصب المتاريس ويسمع ازيز الرصاص وصوت المدافع يعلو ويتفجر.

ويغيب عن ساحة الاعلام والفضاء العام، افكار تأسيسية تنبذ العنف وممارسته قولا وفعلا، وتحصن الاجيال الناشئة من الحماسة لاعتماد العنف، والى انتهاج رفض الآخر والى الانزلاق الى تبني ثقافة الالغاء والتخوين واستعمال لغة الكراهية والنبذ والاقصاء.

ما لا يُدْرَكُ كُلُّه، لا يُتْرَكُ جُلُّه” و”جلّه”  هنا هي تسوية تم انجازها واعتمادها واقرارها

والمسألة تتحدد بتبني أحد سلوكين: الاول يقول نحن مختلفون هيا نتقاتل ومن يكون له الغلبة ينتصر. اما السلوك الاخر فيقول : نحن مختلفون هيا نتحاور لنجد تسوية نبيلة تحقق لكل طرف جزءا مما يطلب، ف “ما لا يُدْرَكُ كُلُّه، لا يُتْرَكُ جُلُّه” و”جلّه”  هنا هي تسوية تم انجازها واعتمادها واقرارها، هي وثيقة الوفاق الوطني في الطائف وهي تسوية كلفت دما وخرابا وعرقا، واسقطت مغامرات ورهانات وسيناريوهات، وكانت نتيجة مفاوضات ومناورات، وتخللتها انتفاضات وانقلابات وعذابات وجراحات. ثم اعتمدت دستورا يجري الخروج عن احكامه والتنكر لالتزاماته بشكل يومي ومنهجي ومستمر. 

الاجيال التي عاشت الحرب تعرف ذلك، ولعلها بغالبيتها لا تستطيب العودة الى نارها، لكن الاجيال الجديدة قد تذهب الى الحرب مجددا، وأكثر ما يزعجني شعور مستجد ينتابني، ان الحرب تنتظرنا  واننا نسير اليها بخطى نشيطة،  وشعوري هذا يأتي من طبيعة خطاب الاجيال الشابة ومن حواراتهم في الفضاء الاعلامي، واطلاقهم كلاما يشبه كلاما تبادلناه يوم كنا في اعمارهم، والحرب على ما تقول التجارب اولها كلام ووقود نارها ولظى لهيبها اوهام، من يفتحها لا يملك قرار اقفالها، ومن يستدرج اليها يدخل متاهة لا يجد سبيلا للفكاك منها.

لا تشبه كارثة لبنان اليوم اي كارثة في العالم، ففي الكوارث الطبيعية، المتأتية من اعصار او زلزال او ارتطام بنيزك، او دمار حلَّ، نتيجة فوران بركان، او طوفان مائي او حادث مأساوي، تلجأ سلطات الدول الى لملمة اثار الكارثة وغوث ضحاياها، وتخفيف أوزارها والحد من مآسيها،  ويستقيل من قصر او اهمل من تلقاء نفسه، التزاما ادبيا واخلاقيا بمسؤولية طالته ولو معنويا…

الكوارث التي تحصل نتيجة الحروب واجتياح الدول وهزيمة جيوشها، فان نتائج الهزيمة تفضي الى اسقاط قيادات البلد المهزوم

اما الكوارث التي تحصل نتيجة الحروب واجتياح الدول وهزيمة جيوشها، فان نتائج الهزيمة تفضي الى اسقاط قيادات البلد المهزوم وولادة قيادات جديدة لتنهض بالبلاد الى حقبة جديدة.

كارثة لبنان مثلثة المآسي، فهي لم تنتج عن فعل الطبيعة او غضبها، بل حدثت كفعل جرمي تسببت به منظومة حاكمة ظالمة وفاجرة، وهي مضاعفة الاتساع، فلم تكتف بانهيار مالي ومصرفي، بدد ودائع شعب بأكمله ومدخرات اجياله، وتسبب بتدن مريع في سعر العملة الوطنية، مما افقد ٨٥% من اللبنانيين القدرة على تأمين حاجات عيشهم اليومية، واهدر ضماناتهم الصحية والاستشفائية وقدرات مداخيلهم الشرائية، والكارثة ايضا إضافة لذلك، طالت تفجير عاصمتهم وتشريد عائلاتهم بأكبر انفجار غير نووي في التاريخ. 

الكارثة المتشعبة هذه، تصل الى حدود اللامعقول واللامنطق، حين ندرك ان كل المسؤولين عن صناعة الكارثة يخرجون الى الناس، وبراءة الاطفال في عيونهم، ودموع التماسيح في مآقيهم،  يتلبسون ادوار من يريد قيادة مسيرة الانقاذ، واستعادة عافية لبنان واجراء كل اصلاح مطلوب أو مرتجى وتأمين ازدهار موعود.

لا توجد في التاريخ مهانة اشد ايلاما من وقاحة المنظومة التي تحكمنا، فكيف السبيل الى اسقاطها دون اللجوء الى العنف، كيف السبيل الى انقاذ شعب، لم يعد متاحا له ان يتابع حياته ويمضي الى مستقبله؟.

 كيف يمكن ان تزاح عن صدور شعبنا منظومة صنعت الكارثة، وتصر على ان تتابع صناعتها واستدامتها وتعميق مآسيها؟

 كيف نجد طريقا ثالثا، يقينا الخيار المر الذي يَمْثُلُ أمامنا: إمّا استدامة المنظومة حاكمة تسرقنا، تبتزنا، تفجرنا، تستبيح قوت عيالنا، تهجر شبابنا، تقمعنا وتطلق علينا بلطجيتها واجهزتها واوباشها وابواقها، ينالون من كل حر وشريف. او الخيار المر الآخر في اللجوء الى العنف المسلح لاسقاطها، والدخول في متاهة الحرب التي لن نقوى على الخروج منها.

ماهي معالم الطريق الثالث الذي علينا ان نبتدعه؟ بعيدا عن خيار استدامة حكم المنظومة

ماهي معالم الطريق الثالث الذي علينا ان نبتدعه؟ بعيدا عن خيار استدامة حكم المنظومة وتأبيد سلطتها من جهة اولى وبعيدا عن اللجوء الى العنف والحرب الاهلية من جهة ثانية، الطريق الثالث الذي يؤدي الى اسقاط المنظومة وفتح طريق استعادة العافية الى وطننا المثخن بالجراح؟!

هل هو مؤتمر دولي؟! أم حوار داخلي، أم ترتيبات إقليمية تطبخ في دوائر صنع القرار، ام قيام نصاب داخلي سياسي وشعبي، قد تساهم الانتخابات بتظهيره، يفرض قيام لبنان ويحاكي رغبة عربية ودولية لاستعادة دوره وازدهاره؟ ام ان الامر يحتاج الى بعض من كل هذه الامور معا وفي نفس الوجهة والاتجاه.

السابق
انخفاض طفيف للدولار صباحاً.. كيف افتتح السوق السوداء؟
التالي
نائب لبناني في ذمة الله.. «صاحب مواقف وطنية في فترة الاحتلال السوري»