على عتبة الحرب الأهلية وفي مدارها: فصول من حياة عايشها يساري ما بين هزيمتين

الحرب الاهلية

استذكر الاعلامي حسين حرب عبر صفحته الخاصة على فيسبوك، فصول الحرب الأهلية، وكتب تحت عنوان “على عتبة الحرب الأهلية وفي مدارها: فصول من حياة عايشها يساري ما بين هزيمتين”، التالي:

كانت سنته الثانية في دار المعلمين والمعلمات لا تشبه السنوات الدراسية السابقة.منذ مطلع ذلك العام كانت أجواء الطلبة محمومة ،وقد اكتشف ان الكثير من حلقة زملائه المقربين على صلات أو صار لهم صلات الى هذا الحد اوذاك بالأحزاب القومية واليسارية وبالمنظمات الفلسطينية .لم يكونوا يظهرون خياراتهم الحزبية أمامه ،وقد ولد ذلك احساسا لديه بالدونية ،مع أنه كان يتقدمهم في المقررات الدراسية.كا ن وحيدا بينما شلة رفاقه يجتمعون، يتداولون ضمن أطر حزبية بمصير لبنان ومصير الأمة العربية.وهو إن ينسَ ، فلن ينسى صورة زميله محمد بشعره القصير المسرّح بطبيعته الى الأمام وعينيه المتقدتين حماساً وترنشكوته الكحلي يعتلي ،مطلع العام الدراسي ١٩٦٧-١٩٦٨، إسوارة من الرخام ذات فرزة عريضة تحيط بعمود ينتصب أمام مكتب مدير الدار الأستاذ نزيه الخطيب ،ويعلن بصوت واثقٍ أنه قرر الإضراب عن الطعام حتى الموت! إذا لم تتحقق المطالب.أضف الى كل ذلك ان توزيع البيانات بين الطلاب وتنظيم الاحتجاجات كانت جميعها تثير اهتمامه، مما ولد لديه حافزا قويا للعمل الحزبي ،وهذا ما جعله عرضة لقبول الانتساب الى أول من “يتصل به”. وقد راجت مفردة “الإتصال” فيما بعد بين الحزبيين وخاصة منهم الذين يهتمون بالعمل التنظيمي لأنها تشكل عتبة السلم التنظيمي من ناحية ومقياساً لمدى قدرة التنظيم على التوسع والنمومن ناحية أخرى.

كان كمعظم زملائه الوافدين إلى دار صيدا من القرى المجاورة أومن أقصى الجنوب من مدن وقرى أقضية بنت جبيل وصور والنبطية وحاصبيا ومرجعيون ، من منابت فلاحية وشرائح اجتماعية متوسطة ، يخصص قسماً من المنحة لأمور سكنه ومعيشته في المدينة ،ويخصص قسما لمساعدة أهله.كان يقبض تسعة وتسعين ليرة وربع الليرة ،أما الثلاثة أرباع الليرة فتذهب مساهمة في موازنة اللجنة الثقافية وإلى الحاجب “أبو عمر” . يخصص منها لعائلته خمسين ليرة ، ويحتفظ بالباقي لبدل ايجار الغرفة وللمعيشة.فضلاً عن أن زوادته، كما زوادة شقيقيه علي ومحمد من قبله وعبدالله من بعده ،كانت تصله يوميا وبدون انقطاع ،خلال سنواته الدراسية الثمانية في صيدا،في بوسطة الضيعة ،يستلمها طازجة ظهر كل يوم من محل قريبه السيد علي الكائن في محلة البوابة التحتا قرب القشلة .وهو اذ يفكر في موضوع الزوادة هذه لا ينفك يفكر بوالدته التي دأبت وبانتظام على مدى عشرين عاما،منذ نزول علي إلى المدينة حتى تخرج عبدالله من دار المعلمين عام ١٩٧٤،تحضر وتعد زوادة غنية ،منظمة ومصنفة ، وبوالده الذي دأب وبانتظام على الانتظار صباح كل يوم على مدخل الساحة لتسليم الزوادة إلى معاون البوسطة يوسف الحاج يعقوب ومن بعده أحمد عبدالله والتأكد من وضعها في مكان آمن .

وكانت الدار أول عهده بالإختلاط مع الفتيات في مدرسة واحدة وبالجلوس إلى جوارهن على مقاعد الدراسة.إذ إن دور المعلمين والمعلمات كما يظهر من إسمها أول مراكز مختلطة يشهدها التعليم الرسمي على المستوى الثانوي ، فباستثناء المدارس الإبتدائية في القرى ،كانت المدارس الإبتدائية والتكميلية والثانويات الرسمية في المدن تحمل أسماء للبنين أو للبنات.كان آتيا من بيئة محافظة ،بل مغالية بالمحافظة ،تسود فيها قيم الحلال والحرام ويثقل كاهل كل فرد منها أوزان من الممنوعات والمحرمات كفيلة بكبت أزرار الرغبات وأزهارالشهوات وهي في أوائل تفتحها.ومع أنه كان ومنذ دخوله الدار يهتم بمظهره وهندامه ، ُيصفّف شعره ،ُيلمّع حذاءه وينتقي ملابسه، على ندرة تنوعها ،بحيث يبدوعلى قدر من الأناقة ،إلا أن ثِقل بيئته العائلية رافقه إلى المدينة ورافقه طوال حياته ،وجعل منه شخصاً حَييّاً،يكبت أحاسيسه وأشواقه مهما تكن جياشة ،غير مقدامٍ ويحسب الف حساب للمغامرات مع الفتيات.

لم تكن الإضرابات التي شهدتها الثانويات ودور المعلمين والمعلمات ومعاهد وكليات الجامعة اللبنانية التي توالت فصولا في العام الدراسي ٦٧-٦٨ تقتصر على مطالب خاصة أو عامة تتعلق بالقطاع التربوي ،من نوع زيادة قيمة المنحة في الدور ،وإلغاء العلامة اللاغية في البكالوريا قسم أول،تعزيز الجامعة اللبنانية وتوحيد كلياتها ،تعزيز التعليم الرسمي وتعريب المناهج، أو مطالب مشتركة مع بقية فئات الشعب تتعلق بسياسات النظام الإقتصادية والإجتماعية والسياسية ،بل تعدتها إلى ةالمطالبة بحماية الفدائيين الفلسطينيين الذين يناوشون العدو الإسرائيلي عبر الحدود اللبنانية الفلسطينية وإلى السماح بحرية العمل الفدائي إنطلاقا من الأراضي اللبنانية وإلى تحمل لبنان تبعات المواجهة مع إسرائيل كغيره من دول الطوق .

دخل العامل الفلسطيني بقوة الساحة اللبنانية منذ مطلع العام ١٩٦٨،وكان لفتانا أن يشهد من العاصمة بيروت أولى حلقاته ،والتي ستتالى فصولاً على مدى رقعة الأرض اللبنانية مدة خمسة عشر عاماً.لم يكن الإعلان في الخامس عشر من شهر نيسان عن استشهاد الفتى اللبناني خليل عزالدين الجمل أثناء تصديه مع مجموعة من حركة فتح لقوة من الجيش الإسرائيلي في غور الأردن،هو الحدث.بل إن الحدث حصل لاحقا في السابع والعشرين من الشهر نفسه في قلب العاصمة بيروت.سبقت الحدث حملة إعلامية واسعة تولاها إعلام الاحزاب والمنظمات القومية واليسارية والإسلامية والمنظمات الفلسطينية وإذاعات الدول العربية وخاصة سوريا ومصر بالدعوة لتشييع جنازة أول فدائي لبناني يسقط إلى جانب رفاقه من الفدائيين الفلسطينيين ،والذين كانوا قد استولوا خلال أقل من سنة على قلوب الجماهير العربية الكسيرة بفعل انهزام جيوش مصر وسوريا والأردن والعراق أمام جيش العدوالإسرائيلي .

لم يزل لا يعرف ، وهوحتى ذلك الوقت لم يكن ينتمي إلى أيّ حزب أو منظمة ،لماذا قرر الذهاب إلى بيروت والإشتراك في التشييع .كل ما يعرفه وما يذكره أن الشارع من ساحة البربير حتى تمثال رياض الصلح كان نهراً من البشر. وكم كان فخوراً يومها بأنه نقطة تسبح في هذا النهر وأنه شارك في جنازة من اجتمعت على الإشادة بشهادته كل أركان الدولة وأحزابها وكتلها يمينية ويسارية ،مسلمة ومسيحية، وأفردت الصحف اللبنانية مانشتاتيها للحدث الذي جمع ١٥٠ الف شخص حسب تقديرات الصحافة المناصرة للفلسطينيين،وهو بالطبع رقم مبالغ فيه قصداً إلى أقصى الحدود.خص غسان تويني الشهيد بافتتاحية ومنحه رئيس الجمهورية شارل الحلو وساماً، وتجاوزت سيرته لبنان إلى أرجاء الوطن العربي، واتخذه عبد الناصر مثالاً للشباب العربي.كان فخورا بالمشاركة ،وازداد فخره عندما طبقت شهرة هذا الحدث الآفاق.وكم كانت خيبته كبيرة عندما علم بأن صديق والده شاعر البلدة وقوالها والمتكلم باسمها في الأفراح والأحزان قال لإبنه عندما علم بأنه شارك في تشييع خليل الجمل،”طول عمره الجحش بجر الجمل ،هلأ هالجمل جارر كل هالجحاش!”. لم يكن ابو محمد يقصد بالطبع لا إهانة ابنه ولا كل هذه الجماهير ، ولكنه بسرعة بديهته غرف مثلاً من حواضر البيئة ،وما أكثر حضور الحيوانات في أمثال البيئات الفلاحية،وهي صريحة ومعبرة على قدر ما هي قاسية وفجة وكأنها قُدّت من صوان .
ولم يكن تعليق والد محمود على الحدث عبثياً،آتٍ من خارج السياق ومنفلتاً من عقاله،بل كان بما يمثله من حافظ للتراث الشعبي المحلي وراوٍله، بما له من مكانة “المثقف البلدي”والمعبر والمدافع عن قيم المجتمع القروي وكذلك بما لصالونه المتواضع من مكانه في قلب الساحة العامة كمركز تداول وتوجيه إعلامي،كان بقولته هذه يعبر عن العقل الجمعي للطائفة الشيعية في الجنوب اللبناني،كان يستشعر باسم الطائفة الخطر الزاحف نحو بيئتها وأرضها .اذ لم تكن لا زعامات الجنوب التقليدية( وفي المقدمة منها الأسعدية والعسيرانية والزينية والخليلية )ولا غالبية الجنوبيين تنظر بعين الرضى لتوافد الفدائيين عبر سوريا إلى أرض الجنوب ولا إلى العمليات التي حاولت فتح فيها دق الجدار من الجانب اللبناني،رغم ثقل الهزيمة في الوجدان الشيعي ورغم بطولات الفدائيين الفردية في غور الأردن والتي سبقتهم حكاياتها إلى لبنان ورغم التأييد الجماهيري العارم لهم في العالم العربي وفي الأوساط الإسلامية السنية في لبنان زعامات وجماهير ،وتعليق الآمال عليهم بعدما خاب أملهم بالجيوش العربية. كانت موجة التأييد عارمة بقدر ما كانت الهزيمة قاسية.

متخوفة من المصائب التي يمكن أن تقع على لبنان بوجه عام وعلى الطائفة بوجه خاص، والتي بدأت نذرها تطل ،تعاطت زعامات وجماهير الطائفة الشيعية منذ البدء مع تمركز الفدائيين الفلسطينيين على الحدود اللبنانية الفلسطينية بتوجس وحذر ، ولم يكن احساسهم خادعاً كما هو حاله وحال جيله من الذين جرفهم التيار وركبوا مركب تحرير فلسطين من جنوب لبنان. وقد كانت المفارقة كبيرة في المجتمع الجنوبي، فبينما كان الإتجاه الغالب في الوسط الشيعي حذرا تجاه النشاط الفلسطيني من الأرض اللبنانية ،كانت الأحزاب والمنظمات والفصائل اليسارية والقومية اللبنانية والفلسطينية تستقطب الجيل الشاب المتحمس للدفاع عن المقاومة الفلسطينية ولفتح الحدود أمام فدائييها تحت عنوان تحمّلْ لبنان لحصته من كلفة مقارعة العدو الإسرائلي إسوة بسائر الدول العربية.

أشّرَت ٥ حزيران إلى نهاية الناصرية ،ونهاية العمل من فوق وانقضاء خمسة عشر عاما من الآمال والآحلام الوردية بتحرير فلسطين ، بالوحدة وبالإشتراكية، كما دلت على وهن قبضة أنظمة العسكريتاريا العربية على القضية الفلسطينية وبدء تفلت الفلسطينيين من هذه القبضة .وآذنت بافتتاح مرحلة جديدة عنوانها العمل من تحت،من فوهة بندقية الفدائي. ولم يكن هناك من تعبير رمزي عن هذا التحول أكثر من قصيدة “أصبح عندي الآن بندقية” التي اجتمع عليها ثلاثة من رموز العمل الثقافي والفني للمرحلة السابقة الشاعر نزارقباني ،المطربة أم كلثوم والموسيقار محمد عبد الوهاب و من الآن فصاعداً«..إلى فلسطين طريق واحد يمر من فوهة بندقية»

السابق
ترقب دولي للانتخابات: ربط نزاع مفتوح على المتغيّرات
التالي
بالفيديو والصور: اشتباكات فلسطينية – إسرائيلية في المسجد الأقصى.. وسقوط عشرات الجرحى!