الصراع الإسرائيلي – الإيراني داخل سورية وخارجها: الاتجاهات المحتملة في ظل الحرب الأوكرانية والمفاوضات النووية

غارات

استأنفت إسرائيلُ ضرباتها العسكرية في سورية ضد أهداف إيرانية في السابع من مارس 2022، عقب توقف الهجمات لمدة عشرة أيام بعد بدء العمليات العسكرية الروسية في أوكرانيا، والتساؤلات التي ثارت في الأوساط الإسرائيلية عما إذا كانت التفاهمات الروسية – الإسرائيلية في سورية مستمرة بعد توتر العلاقات بين الغرب وروسيا وموقف إسرائيل الحيادي في الأزمة الأوكرانية. ولم يتأخر الرد الإيراني بدوره، حيث تبنّت إيران في 13 مارس الجاري قصفَ ما زعمت أنه “مركز استراتيجي إسرائيلي” في مدينة أربيل العراقية باستخدام صورايخ باليستية. 

تُسلِّط هذه الورقة الضوء على خيارات ردود الفعل الإيرانية المحتملة على المديين القريب والمتوسط في ظل الحرب الأوكرانية والمفاوضات النووية في فيينا، والضوابط السياسية بين الأطراف الفاعلة في سورية، وعلى رأسها روسيا وإيران وإسرائيل.

اقرأ أيضاً: «قطار التسويات» يصل إلى معقل «حزب الله» غرب دمشق!

ضربات مستمرة وتعقيدات متزايدة

شنّت إسرائيل مئات الغارات الجوية العسكرية في سورية خلال السنوات الماضية. وشهدت العلاقات الروسية-الإسرائيلية والتنسيق المشترك في سورية متغيرات متعددة خلال السنوات الماضية، إلّا أن التفاهمات التي توصّل إليها بوتين وبينيت في سوتشي في أكتوبر 2021 أدت إلى تجديد التنسيق الروسي-الإسرائيلي حول العمليات العسكرية في سورية بعد فترة من توتر العلاقات بين الطرفين بسبب التغيير الحكومي في إسرائيل. أعقب هذا التفاهم تصعيداً كبيراً في الضربات العسكرية الإسرائيلية داخل الأراضي السورية، حيث شملت الضربات معظم الأراضي السورية مع تركّزها في المنطقتين الساحلية والوسطى ومحيط مدينة دمشق. كما تزايد بوضوح تكرار الضربات وحجمها واتساعها الجغرافي لتشمل أهدافاً جديدة في إشارة إسرائيلية إلى قدراتها في الرصد الاستخباري للمواقع التي يتم استهدافها والغطاء الروسي لهذه الهجمات.

وظّفت روسيا الهجمات الإسرائيلية المتكررة في سورية لإدارة النفوذ الإيراني في سورية والحدّ منه، حيث ظهرت روسيا في موقف المستفيد من إبقاء المليشيات الإيرانية تحت عدسة الاستهداف الإسرائيلي، وقامت روسيا بتوسعة نفوذها على الأرض وضمن المؤسسات الأمنية والعسكرية السورية. تجلّت هذه الاستفادة عبر السيطرة الروسية على ميناء اللاذقية بعد الغارات الإسرائيلية في أواخر ديسمبر الماضي، والتي سعت موسكو إلى السيطرة عليه خلال السنوات الماضية. إلّا أن استهداف ميناء اللاذقية أدى أيضاً إلى توتر العلاقات الروسية-الإيرانية بسبب تغاضي روسيا عن الهجمات الإسرائيلية المستمرة، والتي حدثت في حالة قصف ميناء اللاذقية بالقرب من قاعدة حميميم الروسية. واتخذت روسيا مجموعةً من الخطوات الميدانية والإعلامية لطمأنة القوات الإيرانية والنظام السوري، إلّا أن الضربات الإسرائيلية المتتالية أثبتت أن اتفاق بوتين وبينيت لا يزال ساري المفعول ويخدم المصالح الروسية في سورية والمصالح الدولية أيضاً. 

على الصعيد الدولي، جاءت العمليات العسكرية الروسية في أوكرانيا والمستمرة منذ 24 فبراير الماضي، لتزعزع استقرار النظام الدولي والتوازنات القائمة بين القوى الدولية، مما أدى إلى حالة من عدم الوضوح (uncertainty) في ساحات الصراع الدولية الأخرى، ومنها الساحة السورية. في الوقت الذي أعلنت فيه الدول الغربية فرض عقوبات واسعة على روسيا بسبب تدخلها العسكري في أوكرانيا، اتخذت إسرائيل موقفاً حذراً في انتقاد الهجوم الروسي بسبب شبكة المصالح الكبيرة التي تربط الطرفين. سادت الشكوك الأوساط الإسرائيلية في ما إذا كانت روسيا سوف تستمر بمنح إسرائيل الحرية في استهداف إيران داخل الأراضي السورية، إلّا أن زيارة رئيس الوزراء الإسرائيلي نفتالي بينيت إلى موسكو في الخامس من مارس الجاري، والتي أتت في سياق الوساطة الإسرائيلية بين روسيا وأوكرانيا، جاءت لتؤكد عمق العلاقة بين بوتين وبينيت، ولتؤكد أيضاً أن التفاهمات في الملف السوري مازالت مستمرة.

تم ترجمة هذه التفاهمات عبر استهداف إسرائيل ضابطين رفيعين من الحرس الثوري الإيراني بالقرب من دمشق بعد يومين من زيارة بينيت إلى موسكو، أي في 7 مارس الجاري. وجاء الرد الإيراني سريعاً على الهجمات الإسرائيلية، حيث قامت إيران في 13 مارس باستهداف ما زعمت أنه مركز استراتيجي تابع لإسرائيل في مدينة أربيل العراقية باستخدام 12 صاروخاً باليستياً انطلقت من إيران. تبنَّى الحرس الثوري الضربات الصاروخية في أربيل، وتوعّد إسرائيل بالرد على أي هجمات مستقبلية ضد القوات الإيرانية. 

نادراً ما تقوم إيران بالرد بهذا الحجم والشكل على الهجمات الإسرائيلية أو الأمريكية، إلّا في حالات استثنائية عند استهداف شخصيات بارزة كما حدث في اغتيال القيادي في الحرس الثوري قاسم سليماني والرد الإيراني باستهداف قاعدة عين الأسد الأمريكية في العراق. يُضاف إلى هذا الرد الهجوم الذي قامت به مليشيات إيرانية بخمس طائرات مسيرة مفخخة على قاعدة التَّنف الأمريكية في جنوب سورية في أكتوبر 2021، رداً إيرانياً على القصف الإسرائيلي لمواقع إيرانية في سورية. 

شكّل الرد الإيراني على الهجمات الإسرائيلية في سورية، من خلال استهداف موقع إسرائيلي في أربيل، سابقةً من حيث نوعية الهدف الذي تم قصفه، ومن حيث الشكل أيضاً وذلك بتبنّي الحرس الثوري العلني للعملية وانطلاق الضربات الصاروخية من الأراضي الإيرانية مباشرة. ومع استمرار وتزايد الضربات الإسرائيلية في سورية، فمن الممكن أن يكون الرد الإيراني العسكري والعلني على هذه الضربات أوضح، إلّا أن حسابات إيران سوف تكون معقدة أيضاً من حيث اختيار المكان والزمان المناسبين. 

خيارات الرد الإيراني على الضربات الإسرائيلية

تخضع حسابات إيران السياسية للرد على أي ضربات عسكرية إسرائيلية للعديد من المعطيات المتعلقة بالظروف الدولية وعلاقة إيران باللاعبين في الملف السوري، إضافةً إلى علاقة إيران بالقوى الغربية في ضوء المفاوضات النووية. يُضاف إلى ذلك تعقيدات العلاقات الروسية-الأمريكية في الملف السوري، وارتباط هذه العلاقات بسير الحرب الأوكرانية، كما ترتبط حسابات الرد الإيراني بالعلاقات الروسية-الإيرانية نفسها. 

 ترتبط حسابات الرد الإيراني بشكل أساسي بملف المفاوضات النووية مع القوى الغربية لما لها من أولوية على المستوى الإيراني، حيث تشير تسريبات الأطراف الغربية إلى أن المفاوضات في مراحلها الأخيرة وقريبة من الوصول إلى اتفاق شامل بين الطرفين يؤدي إلى رفع العقوبات الدولية عن إيران. ليس من مصلحة إيران القيام بأي رد عسكري كبير وغير محسوب على الهجمات الإسرائيلية، بحيث قد يؤدي إلى تأخير المفاوضات أو زعزعة الثقة بين الطرفين. من الصحيح أن الضربات الصاروخية الإيرانية قد استهدفت القنصلية الأمريكية في أربيل، إلّا أن تصريح وزارة الخارجية الأمريكية الذي أكد أنه “لا توجد مؤشرات على أن الهجوم كان موجهاً ضد الولايات المتحدة” يعزز فرضية أن الولايات المتحدة غير راغبة في ربط الهجمات الإيرانية بالمفاوضات النووية. 

من ناحية ثانية، شكّلت الأزمةُ الأوكرانية نقطةَ تحول كبيرة في علاقات روسيا مع الدول الغربية. وليس من الواضح ما إذا كان التوتر الروسي-الأمريكي سوف ينعكس في ساحات الصراع الدولية الأخرى، ومنها الساحة السورية. توجد القوات الأمريكية في المناطق الشرقية من سورية في إطار دعمها لقوات حماية الشعب الكردية ومحاربة “داعش”. استمرت الولايات المتحدة وروسيا في تنسيق عملياتها في سورية لتجنُّب الاصطدام بين قوات الدولتين، حيث تجلّى هذا التنسيق عبر عقد عدة اجتماعات عسكرية ودبلوماسية بين الطرفين. تخضع حسابات إيران في الرد على أي هجمات إسرائيلية تبعاً لتطورات العلاقة بين روسيا والولايات المتحدة في سورية، حيث لن تقوم إيران بشن هجمات على قواعد أمريكية دون تنسيق سياسي مع روسيا. 

إضافة إلى ما سبق، تُشكل العلاقات الإيرانية-الروسية عاملاً إضافياً في اعتبارات الرد الإيراني على الهجمات الإسرائيلية. شهدت الفترة الماضية بروداً وقتياً في العلاقة الروسية-الإيرانية على خلفية طلب روسيا ضمانات أمريكية بعدم تأثر إمكانية تعاونها مع إيران في إطار الاتفاق النووي بالعقوبات الأمريكية التي فُرضت بعد الحرب الأوكرانية، إضافةً إلى التلميحات الإيرانية بتعويض النقص في سوق الطاقة الذي سببته العقوبات الأمريكية على صادرات النفط الروسي. تم تجاوز عقبة الاتفاق النووي الإيراني عبر تأكيد وزير الخارجية الروسي سيرجي لافروف على هامش زيارة وزير الخارجية الإيراني حسين أمير عبداللهيان لموسكو في 15 مارس، أن بلاده تلقت تأكيدات أمريكية مكتوبة بأن العقوبات لن تمنع التعاون مع إيران في إطار الاتفاق النووي، كما أن العلاقات بين إيران وروسيا قد شهدت بعض التوتر بعد استهداف إسرائيل لميناء اللاذقية في ديسمبر الماضي والتغاضي الروسي عن الضربات الإسرائيلية المتكررة. تُشكّل ديناميكية العلاقة الروسية-الإيرانية عاملاً مهماً في حسابات الرد الإيراني على الهجمات الإسرائيلية من حيث المكان، إذ إن القوات الإيرانية والروسية تتقاسمان العديد من مناطق النفوذ في سورية وتتنافسان في الكثير من الأحيان على زيادة نفوذ كل منها، إلّا أن إيران في الوقت نفسه لن تقوم بخطوات استفزازية داخل سورية يمكن أن تُحرج من خلالها سيطرة روسيا على الوضع السوري.

 أين يمكن أن ترد إيران؟ في ضوء الحسابات الإيرانية لأي رد عسكري على الضربات في سورية، يمكن تلخيص احتماليات الرد الإيراني في ثلاثة خيارات: الأول، رد ضد مصالح أو مواقع إسرائيلية خارج الساحة السورية؛ والثاني، ردّ ضد المصالح الأمريكية داخل الساحة السورية؛ والثالث، رد مباشر في إسرائيل. 

يشكّل الرد خارج الساحة السورية الخيارَ الأقل تكلفة بالنسبة إلى طهران، إذ إن العراق يشكّل المكان الأسهل لأي رد عسكري إيراني نظراً للموقع الجغرافي القريب، والنفوذ السياسي والعسكري القوي الذي تتمتع به طهران في العراق. كما أن الرد في الساحة العراقية يُجنّب طهران تعقيدات الملف السوري والتوازنات والحسابات السياسية لروسيا مع الولايات المتحدة وإسرائيل. وكانت الضربات الإيرانية الأخيرة في أربيل مثالاً واضحاً بأن هذا الخيار أقل تكلفة ويحقق الأهداف السياسية المراد منه على الصعيد الخارجي وداخل إيران نفسها. والخيار الثاني للرد خارج الأراضي السورية هو الرد على إسرائيل عبر الساحة اللبنانية باستخدام “حزب الله” اللبناني لاستهداف إسرائيل، إلّا أن هذا الخيار مُكلف جداً لحزب الله على الصعيد الداخلي في ظل الأزمة الاقتصادية في لبنان وتراجع شعبية الحزب، ويهدد بتدهور الأمور في حال قيام إسرائيل بالرد عسكرياً داخل الأراضي اللبنانية. 

وفي حال قررت طهران الرد على الضربات الإسرائيلية داخل سورية، فإن ذلك الخيار سوف يستهدف بشكل أساسي القوات الأمريكية الموجودة في الجزء الشرقي من سورية، وذلك مرتبط بشكل أساسي بتطور العلاقات الأمريكية-الروسية في الملف السوري. ومازالت حالة عدم الوضوح سائدة في ما إذا كانت روسيا والولايات المتحدة سوف تتبعان مبدأ فصل الملفات الخلافية عن بعضها، أم أن التصعيد العسكري في أوكرانيا سوف ينعكس أيضاً على الملفات الأخرى. سوف يكون أي رد عسكري إيراني ضد الولايات المتحدة أو إسرائيل داخل سورية محفوفاً بالمخاطر ما لم يكن بموافقة روسية، حيث يمكن أن يؤدي أي رد عسكري إيراني من دون غطاء روسي إلى إحراج موسكو والإضرار بصورتها كمتحكم بالملف السوري. 

 ليس من المتوقع قيام طهران بأي ضربات عسكرية داخل الأراضي الإسرائيلية إلا في حال اندلاع حرب مباشرة بين الطرفين. وتشكل أي ضربات عسكرية مباشرة في إسرائيل تكلفةً سياسية وعسكرية واقتصادية هائلة على إيران، فقد تؤدي إلى اتخاذ إسرائيل حجة منها لشن هجوم عسكري عليها يستهدف منشآتها النووية، وبخاصة في ظل رفض إسرائيل للاتفاق النووي المزمع التوصل إليه في فيينا، أو قد تؤدي إلى تعطيل الإتفاق النووي وربما اندلاع مواجهة مع الولايات المتحدة. 

استنتاجات

شنّت إسرائيلُ المئات من الضربات العسكرية في سورية خلال السنوات الماضية بفضل الغطاء السياسي والعسكري الروسي لهذه العمليات، إذ إن التفاهمات الروسية-الإسرائيلية المستمرة قد ساهمت في تحقيق المصالح الروسية على صعيد الملف السوري والمصالح الدولية أيضاً في الحد من النفوذ الإيراني في سورية. وتُوضح هذه الضربات استمرار إسرائيل في إظهار قوتها على الرصد والملاحقة وتغذية بنك الأهداف داخل الأراضي السورية. وفي الوقت الذي يُرجَّح فيه استمرار الضربات الإسرائيلية ضد إيران و”حزب الله” في سورية على المديين القريب والمتوسط، فإن تعقيدات العمليات العسكرية لكل الأطراف الفاعلة في الملف السوري سوف تستمر أيضاً. 

تتمحور سياسة إيران تجاه الهجمات الإسرائيلية في الرد على الضربات الموجعة، مثل تلك التي تستهدف مسؤولين رفيعي المستوى أو الأراضي الإيرانية، وذلك تبعاً للحاجة إلى إيصال رسائل سياسية وعسكرية بأن إيران قوة إقليمية وقادرة على الدفاع عن مصالحها. وفي الوقت ذاته، تنظر إيران نظرة شمولية إلى منطقة الشرق الأوسط باعتبار أن هناك العديد من ساحات الصراع التي يمكن الرد من خلالها، سواء كان في العراق أو سورية أو لبنان. إلّا أنه في الوقت نفسه، تأخذ طهران في حساباتها الخصوصيةَ المحلية والدولية لكل ساحة، والتعقيدات المترافقة لأي رد على الهجمات الإسرائيلية. ويُمكن أيضاً لإيران استهداف المصالح الأمريكية في العراق أوسورية لتعقِّدَ حسابات الأطراف المعنية وتحقِّق أهدافاً متعددة في الوقت نفسه. 

شكّلت الحربُ في أوكرنيا نقطةَ تحول مهمّة في زيادة الاهتمام الغربي في الوصول إلى اتفاق نووي بسبب الحاجة الغربية إلى النفط والغاز الإيرانيَّين والحاجة الأمريكية تحديداً إلى تحييد الخطر النووي الإيراني ولو مؤقتاً، وبالتالي تقتضي المصلحة القومية الإيرانية تهيئة الظروف المناسبة لإتمام الاتفاق النووي لما له من أهمية شديدة. سوف تفرض هذه الأولوية نفسها على سياسات إيران في الملفات الأخرى، وقد تؤخّر أو تغير أولويات الرد على الهجمات الإسرائيلية إلى حين إتمام الاتفاق.

السابق
الحرب الروسية-الأوكرانية والانفتاح الأمريكي على فنزويلا
التالي
الأزمة الاقتصادية تتفاقم..وأسعار المواد الأولية تُحلّق!