وجيه قانصو يكتب لـ«جنوبية»: مبادرة السنيورة تصحيح أم انقلاب

وجيه قانصو
يخص الدكتور وجيه قانصو «جنوبية» بمقال أسبوعي ينشر حصرياً على صفحات الموقع ومنصاته.

دعوة رئيس الحكومة السابق فؤاد السنيورة إلى خوض الانتخابات النيابية، وعدم ترك الساحة فارغة أو ضعيفة وهشة، كي لا توفر لحزب الله فرصة ملء الفراغ، والاستفادة من الارتباك الحاصل في الساحة السنية عموماً، والشارع البيروتي خصوصاً، ليعزز كتلته النيابية ويوسع دائرة حلفاءه.  هي دعوة جريئة وضرورية لإعادة ترتيب البيت السني، وتصويب الأداء السياسي داخل تيار المستقبل، على الرغم من أنها جاءت متأخرة، وكان بالأجدى أن تحصل في وقت سابق، ليكون بالإمكان استكمال عناصر الجهوزية، والتماسك لتحقيق إنجازات انتخابية وازنة، وسد الفراغات ورأب التصدعات الداخلية، التي أحدثها إعلان سعد الحريري الامتناع عن خوض معركة الانتخابات القادمة.

لم يعد بالإمكان تفسير حركة السنيورة الناشطة، إلا كونها خروجاً عن مسار سياسي، كاد أن يصبح تقليداً ثابتاً في أداء تيار المستقبل وخطابه وسياساته.  قد يفسر هذا الخروج، بأنه مبادرة تصحيحية لاستعادة ركائز السياسة، التي رسخها رفيق الحريري، والتي تقوم على الاحتفاظ بالعمق الخليجي كغطاء ضروري، ومصدر قوة لأي اشتباك سياسي داخلي.

هي سياسة تفترض تكافؤاً مقبولاً في موازين القوى الداخلية، وتوازناً في المرجعيات الدولية النافذة في لبنان

وقد يفسرها البعض، بأنها انقلاب على السياسة الحريرية من أصلها، لجهة أنها كانت تقوم على التسويات، ولعبة تقاسم مناطق النفوذ والسلطة داخل مؤسسات الدولة.  هي سياسة تفترض تكافؤاً مقبولاً في موازين القوى الداخلية، وتوازناً في المرجعيات الدولية النافذة في لبنان، ومع تغير كلا العنصرين لصالح حزب الله، الذي تحول في تضخمه العسكري وتوسع دائرة استقلاله وسيادته الذاتية، من دويلة داخل الدولة، إلى كيان يهيمن على الدولة.  هي متغيرات تجعل السياسة الحريرية فاقدة الصلاحية، بحكم أن المشكلة انتقلت من تنافس بين مكونات الكيان اللبناني إلى جدل على  الكيان نفسه، ومن الصراع على السلطة داخل الدولة، إلى الصراع على الدولة وسيادتها. 

سواء أكانت المبادرة تصحيحاً أم خروجاً وانقلاباً، فإنها تعكس التململ والنفور داخل تيار المستقبل، على واقع الإخفاق والفشل والضعف، في أداء سعد الحريري على مر سنين طويلة، وعلى حالة الإرباك والهشاشة، التي ولدها إعلانه التمنع عن خوض الانتخابات النيابية المقبلة، وحث جميع وجوه وفاعليات الشارع السني أن يحذو حذوه.

إعلان الإنسحاب، قرأه حزب الله فرصة لإحداث اختراقات مهمة داخل الشارع السني

إعلان الإنسحاب، قرأه حزب الله فرصة لإحداث اختراقات مهمة داخل الشارع السني، بالتالي تحسين مواقع وزيادة نفوذ. وفسره الوعي السني بالهزيمة والاستسلام لهيمنة حزب الله، بل الشعور بالعجز عن استعادة زمام المبادرة، بحكم أن الخلل الكبير في ميزان القوى المحلي، إضافة إلى ندرة الموارد والانكفاء الخليجي عن لبنان، والتساهل الدولي تجاه حزب الله،  جعل أي مسعى انتخابي أو سياسي عقيماً وبلا جدوى.   

أعلن الحريري الإنسحاب من الانتخابات، لكن ما لم يقله، لكنه كامن في منطق الإعلان وتركيب أو بنية خطابه، هو أن واقع السلطة الحالي هو ثمرة اللحظة، التي قرر فيها الحريري إبرام تسوية مع أعدائه السياسيين، حزب الله وميشال عون، مكشوف الظهر وأعزلاً من كل عناصر القوة، ظنا منه، وهو ظن ساذج بالطبع، أن رصيده الشعبي سيؤمن له الحماية الكافية، أو أن دعم الفرنسي عبر الرئيس إيمانويل ماكرون له، سيعوضان الحنق الخليجي عليه والريبة الأمريكية من صفقته.

تبين أن ما فعله الحريري لم يكن تسوية، فالتسوية لا تكون إلا بين المتكافئين والنظراء، في عناصر التأثير والفاعلية، بل كان بمثابة إلقاء السلاح والرهان على نوايا الخصم الحسنة، أي الارتماء تحت رحمته، ما يعني عملياً الدخول في فلكهم، أو بأحسن التقديرات الوقوع في فخهم.  فكان ذلك بمثابة نموذج مثالي لرئاسة  سنية ضعيفة يريده حزب الله، وبمثابة فرصة ذهبية لميشال عون، في تصفية حسابات قديمة مع السنية السياسية.

أغرب ما في خطاب انسحاب الحريري من الانتخابات: هو الفصل بين قيادته، وبين أداءه الكارثي في إدارة الأزمات منذ استشهاد والده

أغرب ما في خطاب انسحاب الحريري من الانتخابات: هو الفصل بين قيادته، وبين أداءه الكارثي في إدارة الأزمات منذ استشهاد والده. يريد الاحتفاظ بالمكانة من دون دفع ثمن الأخطاء، أو حتى الاعتراف بها، يريد أتباعاً وجماهير تهتف وتطيع، من دون أن تطالِب أو تحاسِب،  يريد ترسيخ إرث عائلي بلا حضور فعلي، وإضافة زعامة تقليدية ثابتة إلى رصيد الزعامات الطائفية الأخرى، بدلاً من ترسيخ إرث سياسي فاعل.  يريد الحريري الجمع بين نقيضين: الانسحاب من السياسية مع الاحتفاظ بزعامة ملهمة ومتوهجة.  

الجدل الحاصل داخل تيار المستقبل بقيادة السنيورة، هو جدل طبيعي، بخاصة لدى الكثيرين الذين انضموا إلى تيار المستقبل بصفته قوة نهضة ومشروع دولة، وأخفوا اختلافهم ومعارضتهم واستغرابهم، وحتى استنكارهم لأداء قيادتهم السياسية، انطلاقاً منهم في تقديم الأولى، وحرصاً منهم على وحدة الصف ومنع الانقسام والتشتت الداخليين.  أما الآن وبعد أن خسر تيار المستقبل أكثر أرصدته ومنابع قوته، لم يعد هنالك الكثير ليخسره من النقاش والجدل الداخليين.

لم تعد مشكلة تيار المستقبل الحالية، أزمة قيادة أو معضلة موقف سياسي، بل مشكلة وجهة وخيارات واستراتيجيات. أي مشكلة تكوين ومصير، يترتب على أساسها لا توزيع موارد السلطة بل أساس شرعيتها، لا موازين القوى بل معنى السياسة والسياسي، لا توزيع الموارد والمنافع بل حقيقة الدولة.

السابق
على ثبات مقلق.. كم سجّل الدولار في السوق السوداء مساءً؟
التالي
«عامية جبل عامل»: مرشحون ملتصقون بـ«حزب الله» قسموا «كلن يعني كلن»!