قاسم سليماني أفْسَد على بيروت الحنين لمجدها الثقافي!

معرض الكتاب

في الطريق إلى «البيال» على الواجهة البحرية لبيروت «المسكينة»، تدهمك الذكريات الجميلة عن معرض الكتاب الذي شكّل منذ خمسينات القرن الماضي حاضنةً لـ «فكرة لبنان» الثقافة والحرية والإبداع والدور والمنبر والعقل والكلمة والقصيدة والرواية وكل أشكال التعبير الحرّ.

لا بيروت هي بيروت ولا المعرض هو المعرض ولا الكتاب هو الكتاب.. تَغَيَّرَ الزمن، سقط الدور، إنتكس الكتاب وتَفَرَّقَ عشاقه. فالحدَث الثقافي الموسمي صار منذ أمدٍ يشبه أحوال المدينة وناسها… غاب مع «كورونا» ومدّد غيابه مع إنفجار المرفأ في جواره.

لم تحجب الضوضاءُ التي أثارها رفْع صورة كبيرة لقائد فيلق القدس في الحرس الثوري الإيراني قاسم سليماني في معرض الكتاب العربي – الدولي بيروت قبل أيام ومحاولة شبان تمزيقها وإزالتها على وقع صيحات «إيران برا برا، بيروت حرة حرة»، الاهتمامَ بهذا الحدث الثقافي الذي أصر المنظمون على إقامته في موعده التقليدي مع نهاية كل سنة.

التظاهرة الثقافية الأكثر حضوراً في بيروت انطلقت عام 1956 بإشراف النادي الثقافي العربي وإتحاد الناشرين اللبنانيين

لم يكن هذا الحدث على امتداد تاريخه مجرّد منصة عرْضٍ وعناوين كُتُب بقدر ما كان في إطلالته السنوية اختزالاً لدور بيروت… بين أول مطبعة في الشرق وأول معرض كتاب، وبين معرض الكتاب العربي – الدولي ومعرض الكتاب الفرنكفوني، تحوّلت بيروت خزّاناً للذاكرة اللبنانية والعربية والغربية.

آلاف العناوين مرت من هنا، وعشرات من دور النشر العربية والدولية حجزوا أمكنتهم فيها، ومئات الأدباء والشعراء والمفكرين والفلاسفة، صعدوا منابرها، وسط نقاشات لا تنتهي وندوات رفيعة المستوى، وآلاف الزوار من لبنان والعالم العربي سنوياً يحجّون إلى مَعارض بيروت التي تضرب لهم موعداً كل سنة، فتحولت تلك المواعيد مناسباتٍ إحتفاليةً لعشاق الكتب ورائحة الورق، قبل إزدهار الكتاب الإلكتروني، وبعده. وتحولت صالات العرض ومنصاته مناسبة للقاء أسماء لامعة في عوالم الأدب والتاريخ والشعر، مع أسماء جديدة وافدة إلى عالم الكتابة، تتطلع إلى احتلال موقع لها في مسيرة النشر والإبداع.

التظاهرة الثقافية الأكثر حضوراً في بيروت انطلقت عام 1956 بإشراف النادي الثقافي العربي وإتحاد الناشرين اللبنانيين، وتنقّل المعرض (وكان عنوانه المعرض العربي قبل أن يصبح العربي الدولي) في أنحاء عدة في وسط بيروت وشارع الحمرا قبل أن يستقرّ بعد إنتهاء الحرب في «البيال» عند الواجهة البحرية للعاصمة اللبنانية.

لم يتوقّف معرض الكتاب خلال الحرب، لا بل إن التظاهرة الثقافية تَفَرَّعَتْ في المناطق التي عزلتْها المتاريس.

وبسبب الظروف العسكرية والأمنية وتَشَتُّت الجغرافيا وتَباعُدها، نشأت حركاتٌ ثقافية في المناطق أسست تظاهراتٍ ثقافيةً محلية تحولت تدريجاً نواة معارض مستقلة، كما حصل في المهرجان اللبناني للكتاب الذي أطلقتْه الحركة الثقافية في أنطلياس، وانطلقت في أرجائه ندوات نقاشية وتكريمية لرواد في المجالات الأدبية والتاريخية والثقافية. ورغم انه كان معرضاً أقل حجماً من ناحية دور النشر وكثافة المشاركين فإنه أسس لحَدَث ثقافي موسمي جعله يتقاسم ومعرض الكتاب العربي والدولي المواعيد، فكان موعد بيروت في ديسمبر من كل عام، وموعد أنطلياس في مارس.

إقرأ أيضاً: هكذا «هندس» نعيم عباس تفجير حارة حريك: انحرفت بندقيتي عندما انحرف «حزب الله»!

ولاحقاً وبعد الحرب ومع ازدهار الحياة الثقافية واستتباب مرحلة السلم وإنفتاح لبنان مجدداً على العالم، إنطلق معرض الكتاب الفرنكفوني وصار مساحةَ للقاءٍ بين عالميْن شرقي وغربي. ولهذا المعرض الذي كان يقام في منطقة سن الفيل قبل أن ينتقل إلى الواجهة البحرية لبيروت، ويعود إلى منطقة فرن الشباك، خصوصية تجلت في أنه أسس لتبادل ثقافي للناطقين باللغة الفرنسية، وفتح أبوابه لكتّاب أوروبيين أو ناطقين بالفرنسية من أجل مزيد من التفاعل مع القراء اللبنانيين، وخصوصاً أن عدداً من المكتبات الفرنكوفونية في بيروت معروفة بنشاطها في إستيراد الكتاب باللغة الفرنسية، ولها روادها وجمهورها. وقد بلغ بحسب السفارة الفرنسية عدد زوار المعرض عام 2018 نحو 80 ألف شخص.

لكن معرض بيروت العربي الدولي نجح في فرض إيقاعه، أولاً للمساحة الكبيرة التي أُعطيت له، ولكثافة دور النشر، ولحجم الزوار الذين كانوا يقصدونه يومياً. علماً أنه تحوّل كما المعارض الأخرى مُناسَبَةً للمدارس، إذ كان يقصده آلاف الطلاب من كل مدراس لبنان، مع تخصيص أجنحة لكتب الأطفال ومسرحياتٍ ولقاءات للطلاب. أهمية المعرض أنه كان مناسبة للقاءٍ عربي مفتوح منذ تأسيسه على جميع المفكرين والشعراء والأدباء الذين كانوا يقصدون بيروت لإصدار كتبهم فيها. وساهمت مرحلة ما بعد الحرب في تعزيز هذا الجانب، رغم إنتشار معارض في الدول العربية، إلا أن بيروت بقيت تجتذب محبي الكتاب العربي والغربي، مع مساحة الحرية الكبيرة التي كان يتمتع بها المؤلفون ودور النشر على السواء. وهو شكل مناسبة للقاء دور نشر عربية فيه، ودور دينية، وثقافات جديدة أدت إلى إمتزاج كثير من الأفكار والنقاشات التي كانت تُغْني زائره.

كانت العجقة في المعرض، مشهداً من مشاهد الحياة الثقافية والإجتماعية وحيويتها. حتى ان إفتتاحه على مدى أعوام كان يتم في حضور رسميين ومرجعيات وسياسيين.

وكان يؤمه عشرات الآلاف، يحتشدون أمام أبوابه ولا سيما مساء، حيث كانت تقام الندوات، وتحفل منصات العرض بطلبات البيع، فيتسابق الزوار في حمل زوّادتهم من الكتب، في شكل شبه يومي. وفيه وُقّعت آلاف الكتب، وكان الكتّاب والشعراء والأدباء وحتى السياسيون الذين نشروا مذكراتهم يتريثون في نشر كتبهم حتى يقترب موعد المعرض السنوي، حيث تحفل القاعات بآلاف الزوار يصطفون للحصول على تواقيع الكتاب. وكان المعرض يُصْدِر يومياً لائحة بأكثر الكتب مبيعاً، في كل المجالات من الأدب والتاريخ والدين إلى الطبخ والأبراج.

ومما لا شك فيه ان دور نشر عرفت عزاً غير مسبوق في عالم الكتاب والنشر خلال الأعوام الأخيرة، وكان المؤلّفون يتسابقون للإنضمام إليها، كما تتسابق هي للحصول على مجموعة من الكتّاب لتعزيز صورتها، ولا سيما خلال المعرض الذي كان مناسبةً لتقدّم كل دار مجموعة من الأدباء والمتنافسين على الحصول على المرتبة الأكثر مبيعاً.

وهذه الصورة التي أبهرتْ اللبنانيين والعالم العربي، إهتزّت منذ أعوام. ولم يكن إنفجار مرفأ بيروت (4 اغسطس 2020) السبب الوحيد الذي أطاح بمعرض الكتاب. فهو متوقف منذ العام 2019، بسبب إحتجاجات 17 أكتوبر ومن ثم إنتشار وباء «كورونا»، وجاءت «بيروتشيما» لتهدم جزءاً أساسياً من المعرض.

وكل ذلك تَزامَنَ مع أزمة إقتصادية حادة ضربت اللبنانيين في معيشتهم اليومية، حيث أدى إنهيار الليرة إلى تراجع مستوى دخلهم، في الطعام والدواء والمحروقات والكهرباء، الأمر الذي حول الكتاب ترفاً لا قدرة لهم على تأمينه كما كانت العادة. إذ ليس الكتاب المستورَد هو الذي إرتفع سعره فقط بسبب إرتفاع سعر الدولار، بل ان الطباعة المحلية التي كانت تُعرف بأناقتها ونوعية الورق والأغلفة والألوان، صارت مُكْلِفة، وإرتفع سعر الكتاب المحلي الصنع إلى حد أصبح مُتَعَذِّراً شراؤه.

هذا الواقع كان أحد أسباب الخلاف الذي دار حول إقامة المعرض الذي إفتتح أبوابه قبل أيام، إذ ان عودته جاءت بعد إختلاف الرؤية بين النادي الثقافي العربي وإتحاد الناشرين، الأمر الذي إنعكس غياباً لدور نشرٍ عريقة بعدما فضّل الاتحاد إبقاء المعرض في ديسمبر المقبل لمزيد من التحضيرات، في ظل الضائقة الإقتصادية وإرتفاع سعر الدولار. وحجة الإتحاد ان إقامة المعرض مُكْلِفة لأصحاب الدور (ومنها ما أقفل أبوابه بسبب الوضع الراهن) ومن دون مردود في ظل عدم قدرة الناس على الشراء حالياً، وسط الهموم الإقتصادية. فيما كان النادي مصراً على تقديم المعرض كفعلٍ ثقافي علّه يحرّك المياه الراكدة ويشكل إشارةَ إستنهاضٍ لبيروت التي تُعانِدُ الإنكسار.

ورغم أن المعرض ناقِص بفعل غياب دور نشر عريقة كانت ترفده بأهم العناوين وسيفتقد لأدباء وأصحاب دور نشر رحلوا، إلا انه أراد أن يكون من أولى بشائر عودة بعض ملامح الحياة إلى العاصمة، وإشاعة جوّ من الحنين إلى عجقة المعرض واللقاءات الثقافية فيه.

قاسم سليماني… «قسم» المعرض

كان يفترض أن يكون معرض الكتاب العربي والدولي مناسبة ثقافية تعيد بعض الأمل ببيروت الثقافة والإبداع. لكنه تحول صراعاً سياسياً بين مؤيدي «حزب الله» وخصومه.

البداية إنطلقت من إرتفاع صورة عملاقة لقائد فيلق القدس قاسم سليماني مع أناشيد «حزب الله». وبدأت الحملة من معارضي إيران و«حزب الله» على وسائل التواصل الإجتماعي، قبل أن تتحول قضية رأي عام مع قيام الصحف ومحطات تلفزيون بكشف الصورة والتنديد برفع صورة لقائد إيراني في معرض لبناني، ودفاع مؤيدي «حزب الله» عن رفع الصورة وأهمية سليماني في تاريخ المقاومة.

كان يفترض أن يكون معرض الكتاب العربي والدولي مناسبة ثقافية لكنه تحول صراعاً سياسياً بين مؤيدي «حزب الله» وخصومه

وتطورت القضية عندما أقدم أحد الناشطين على محاولة تمزيق الصورة، رافعاً شعار «بيروت حرة حرة إيران طلعي برا» لكن مؤيدين لـ «حزب الله» اعتدوا على الشاب بالضرب المبرح، لتنطلق حملة على مواقع التواصل بين الفريقين كشفتْ عمق أزمة الهوية بينهما.

إدارةُ معرض الكتاب التي أكدت ان المشكلة انتهت، حصرت الموضوع بأن الجناح لبناني، وبأن العارضين لبنانيين، وأن غياب الدور العربية ساهم في الإضاءة على مشاركة الجناح المذكور، بسبب الأوضاع التي يمر بها لبنان.

ومعلوم أن إدارة المعرض، تابعة للنادي الثقافي العربي الواضحة هويته السياسية والبيروتية، وكان يفترض أن تتنبه إلى الحساسيات التي يمكن أن تتسبّب بها المعروضات والأناشيد.

السابق
«تهريبة» تعيينات في حكومة ميقاتي!
التالي
وزير الإعلام الجديد مهندس لم يمارس العمل الإعلامي