حارث سليمان يكتب لـ«جنوبية»: في مواجهة منطق الإقصاء وصناعة الشرذمة

حارث سليمان
يخص الناشط السياسي والأكاديمي الدكتور حارث سليمان "جنوبية" بمقال أسبوعي ينشر حصرياً على صفحات الموقع و منصاته الإلكترونية.

لا نملك ترف النقاء الثوري الذي يتبناه البعض، خلافا لكل آليات العمل الثوري، وتجارب التغيير في كل دول العالم؛ من ثورة ١٧ اكتوبر سنة ١٩١٧ التي قادها لينين، مستفيدا من كل القوى المتضررة من حكم القيصر، بما في ذلك حزب المانشافيك، الى ثورة ايران ضد الشاه التي ضمت تنوعا، احتوى حزب تودة الشيوعي، وحزب مجاهدي خلق،  وحركة فدائيي خلق، اضافة الى حركة تحرير ايران و الحزب الجمهوري الاسلامي، وتيار الخميني، لم يقم أحد بايران بنبذ احد حتى سقوط الشاه، بعد ذلك، وبعد ذلك فقط ،أقصى الخميني بقية الأطراف…

 في الصين، تعاون  ماوتسي تونغ  مع تشن كاي تشك في مواجهة اليابان، وبعد انتصارهما اختلفا؛ بين الصين الوطنية والصين الشعبية، وأسّسا وطنين وبلدين صينيين، يمكن ان يشعلا حربا فيما بينهما..

 في فييتنام، وازن  الحزب الشيوعي الفييتنامي بقيادة هوشي منه والجنرال جياب، بين التحالف مع الصين، و مع الاتحاد السوفييتي، رغم العداوة التي كانت قائمة بين، بريجينيف وماوتسي تونغ، كما تحالف الشيوعيون مع البوذيين في مواجهة اميركا..

اما في لبنان فقد تحالفت الحركة الوطنية، ورسمت قائدا لها المرحوم كمال جنبلاط وعلى مدى ٢٠ عاما!، ألم يكن المرحوم كمال جنبلاط زعيما تقليديا، ووريث عائلة سياسية اقطاعية، لماذا مشى جورج حاوي ومحسن ابراهيم وعبد المجيد الرافعي مع كمال جنبلاط اذن؟! والجواب سهل وبسيط، لأن ذلك يَجعلُ من برنامجهم السياسي، أقوى في المواجهة وأكثر قدرةً على الوصول الى الناس!!

الثورة لإحداث التغيير  خاصة اذا كانت سلمية تقوم بفك واعادة تركيب السلطة وذلك اثناء اعادة بنائها ومن أجل انجاز التغيير بنجاح

الثورة لإحداث التغيير،  خاصة اذا كانت سلمية، تقوم بفك واعادة تركيب السلطة، وذلك اثناء اعادة بنائها، ومن أجل انجاز التغيير بنجاح، يتم في هذه العملية، إلى جانب حشد القوى الثورية الحقيقية، تحييد قوى تعاملت مع السلطة ثم انفكت عنها، ويستحسن استيعاب قوى تحاول الانضمام الى الثورة، ولو كانت سابقا في صفوف السلطة، لأن منطق فحص الدم، ووضع حد فاصل بين من كان معارضا منذ المهد وبقي معارضا حتى اللحد، هو منطق جمود فكري وتسطيح سياسي، فالمنظومة التي حكمت لبنان وصنعت كارثته وتحاول استدامة هيمنتها، ليست منظومة معزولة، بل تملك قاعدة جماهيرية وانصارا يوالونها لمئة سبب وسبب، وهذه المنظومة وان كانت قد انكشفت جرائمها وارتكاباتها وفسادها وارتهانها للخارج، فإنها ما زالت تناور وتتمسك بالسلطة، وتحاول اعادة تعويم نفسها وتجديد قواها، لذلك فان منطق مقاطعة كل  من شغل مسؤولية في الدولة، شخصيا او رجوعا حتى الجد الثالث من اسلافه، اضافة لمنطق استعداء كل من انتمى لزعامات عائلية سياسية، هو منطق صبياني يحاكي حماسة الشباب، ويستجيب لفرسان الجمل الثورية، لكنه يخفي فعلا صب الماء في طاحونة المنظومة، وقد يترافق مع سلوك خبيث ومقصود، لأطراف تسعى الى شرذمة قوى ١٧ تشرين واضعافها وهزيمتها..

إقرأ أيضاً: أحزاب السلطة تَستجدي مغتربيها لتمويل الإنتخابات…و«تلبيس طربوش» سلفة الكهرباء للبنانيين!

اذا كان بعض اليساريين، لا يقبلون في صفوفهم اي تقليدي او صاحب وراثة سياسية، فلنختبر نتائج هذا الموقف، ولندقق بمصداقيته كمعيار شامل! لماذا جماعة اليسار يقبلون التحالف مع النائب أسامة سعد، وهو برأيي وبرأي قطاعات واسعة من المتابعين، سياسي محترم ونزيه ووطني وثوري حقيقي، لكننا نأخذه مثالا  لنناقش منطق بعض الثوريين وحججهم، لماذا منذ سنوات يقوم الحزب الشيوعي وحركة الشعب بالتحالف مع اسامة سعد، وهو وريث اخيه الشهيد مصطفى سعد، الذي بدوره ورث الشهيد معروف سعد، كيف تقبلون الوراثة السياسية في مكان وتعتبرونها عارا في مكان آخر؟! تريدون فرض معيار سياسي على الحراك، حسنا! الأوْلَى ان تتقيدوا به!! والاصح والاجدى ان تسقطوا هذا المعيار حيث وجد!

 اما مسألة من كان جزءا من السلطة، فهناك منطق أعرج أيضا، لا يفرق بين ان يكون الشخص عضوا في البرلمان او طرفا في الحكومة،  ففي حالة النائب يكون له صفة تمثيلية منحه اياها الشعب، وهي لذلك لا تشكل، بحد ذاتها، عارا له ولا وصمة على جبينه، اما الوزير فهو جزء من الحكومة، لكن ليس كل  وزير انتسب الى حكومة، لسبب او لآخر، هو جزء من المنظومة التي تحكمت بلبنان فعلا، وبشكل مستمر ومنهجي وقبضت على كل قراراته السياسية والمالية،  وتشاركت بمحاصصة صفقات الفساد والزبائنية والارتهان للخارج، لذلك حتى لو كان الشخص وزيرا، فهذا لا يدينه بحد ذاته، فكم من وزير كان محترما نظيف الكف، وأدى خدمات جلى للبنان وللناس؟!، طبعا وكم من وزير افسد واهدر وصنع الكارثة، وكم من نائب كان بوق سيده فاقترع لصالح الموازنات المالية البائسة، و مشاريع الهدر والصفقات، وشرع لصناديق الجنوب والاعمار والمهجرين، والترخيص لشركات الاسمنت والخلوي وغيرها، ومرر سياسة السكوت عن انتهاك الاملاك البحرية والنهرية، واعطاء اذونات الكسارات والمقالع الخ …

تصر احدى مجموعات الثورة مثلا، على ان الاشتراك في الحكومة هو سبب كاف، لإقصاء اي طرف قام بذلك عن صفوف ١٧ تشرين، ولذلك نسأل هذه المجموعة ؛ كيف لها ان تفسر معاييرها الاقصائية حين نتكلم عن تجربة زياد بارود او شربل نحاس او غسان سلامة، او نسيب لحود مثلا، هل كل هؤلاء في باب الاستبعاد وعدم التعاون، وهل تعتقدون ان الناس ستقبض زعمكم، انكم اكثر شفافية من هذه القامات السياسية حقا؟!

  ثمة في الخطاب الاقصائي ثوريون انقياء نعم، لكن هناك ايضا غواصات تلعب لعبة تخريب ١٧ تشرين ومنع وحدتها، والسعي لانتصار الثورة المضادة،  و تعمل عن وعي او دون وعي، من أجل استمرار منظومة السلاح والفساد والارتهان للخارج قوية، وممسكة بمفاتيح قرارات لبنان وشعبه، وثمة مغامرين وطفوليين وحاقدين من مواقع اجتماعية او سياسية جرى تهميشها تاريخيا، وهي ترى في ١٧ تشرين فرصتها، لتنفس عن كبتها السياسي والاجتماعي، لكن هذه العواطف المشروعة نفسيا، ليست مشروعة سياسيا وغير مقبولة منهجيا، لأنها لا تبني بديلا سياسيا، ولا تقوى على محاربة منظومة راسخة في المجتمع والسلطة.

ليس للناس الهزيمة امام من تبقى من المنظومة لأنه اذا لم ينتصر الناس الان فسيحكمون كعبيد يتسولون حاجاتهم

قد يقول قائل، ان ما تقدم هي دعوة لكي تصبح ثورة ١٧ تشرين، مشرعة لكل متسلق او انتهازي، او لهواة القفز من ضفة لضفة، وراكبي الامواج الشعبية، بما يعرضها لحرفها عن مقاصدها الاساسية وتبديد تضحيات الناشطين وثوار الساحات، ومن قضى لياليه في السجون والاعتصامات والمواجهات، ومن فُقِأَت عيونهم او من قضوا شهداء وجرحى في ساحات الانتفاضة، وذلك استنتاج خاطئ تماما، فالمطلوب اليوم ليس معالجة انضمام شخص هنا او شخص هناك، بل تبني منهج وطريقة تفكير، تنعكس سلوكا ثوريا توحيديا، يقود المواجهة ضد رؤوس المنظومة الفعلية واتباعها، ويسهل امكانية الانتصار عليها وهزيمتها، وهو أمر اذا تحقق، سيحفظ نضال شباب الثورة، ويمنع تبديد تضحيات جرحاها وهدر ارواح شهدائها، نعم لا فائدة من ان نسهل لأي شخص ركوب موجة قيادة الثورة، بل علينا ان نتيح له مجال الالتحاق بصفوفها، وان نلزمه  بتبني اجندتها، وتلبية شروط تقدمها وانتصارها.

 لا نملك ترف تجربة هزيمة اخرى، واحباط اخر، لان المنظومة في اسوء ازماتها، وفي اضعف اوضاعها، والحكمة تقضي بان يتوحد كل المتضررين منها، من اقصى اليسار المناهض للمصارف، الى اقصى اليمين السيادي المتحصن بنقاء الهوية اللبنانية، لا من اجل تغيير يقلب الاوضاع بشكل جذري، وهو امر غير متاح في القريب العاجل، بل فقط من أجل تعديل ميزان القوة السياسي في البلد، بما يحمي حقوق الناس في متابعة عيشهم، والدفاع عن اجورهم، واسترداد ودائعهم، وتأمين تغطياتهم الصحية واستشفائهم، و استمرار قطاعات تعليمهم وخدماتهم الاساسية في النقل والاتصالات والكهرباء..

 درس سورية مثال حين تفشل المعارضة بتوحيد صفوفها وانتاج بديل سياسي لسلطة غاشمة كيف يدفع الشعب الثمن؟

ليس للناس ترف تجربة الانقسام والهزيمة امام من تبقى من المنظومة، لأنه اذا لم ينتصر الناس الان، فسيحكمون كعبيد واقنان، يتسولون حاجاتهم امام زعماء المنظومة، الذين تحولوا الى فاعلي خير وموزعي صدقات، يتكرمون بها على متسولين فقراء، كانوا مواطنين اصحاب حقوق، وقد يدوم مشهد التسول هذا لخمسين سنة قادمة..

 درس سورية امامنا لنرى، حين تفشل المعارضة بتوحيد صفوفها، وانتاج بديل سياسي لسلطة غاشمة، كيف يدفع الشعب الثمن.

السابق
أحزاب السلطة تَستجدي مغتربيها لتمويل الإنتخابات…و«تلبيس طربوش» سلفة الكهرباء للبنانيين!
التالي
«نكبة» إنتخابات ٢٠٢٢..تحت «سلطة» حزب الله!