وجيه قانصو يكتب لـ«جنوبية»: المبادرة الكويتية للبنانيين.. ليكن لكم دولة

وجيه قانصو
يخص الدكتور وجيه قانصو «جنوبية» بمقال أسبوعي ينشر حصرياً على صفحات الموقع ومنصاته.

صوَّر البعضُ المبادرةَ الكويتية تجاه لبنان بأنها أقرب إلى مبادرة تعجيزية، لاحتوائها على مطالب خارج قدرات مؤسسات الدولة ومسؤوليها، بالتالي فإن فشلها وعدم إمكان التقدم خطوة إيجابية لحلحلة الأزمة اللبنانية-الخليجية، كان أمراً متوقعاً ومحتماً.  فهل هي مبادرة لمزيد من إحراج السلطات اللبنانية، وتسويغ أي تصعيد أو قطيعة أو حصار، يصدر عن الدول الخليجية تجاه لبنان؟ باختصار: إذا كانت المبادرة غير ممكنة التحقق، فما معناها وما هو جدواها؟

اقرأ أيضاً: وجيه قانصو يكتب لـ«جنوبية»: نهاية الحريرية السياسية

من المؤكد أن أهمية المبادرة لا تكمن في نتائجها، بقدر ما هي في رسائلها ودلالاتها.  فالمبادرة لا تنقل موقفاً سياسياً، بقدر ما تعبر عن نظرة وتقدير للبنان الكيان والدولة، وعن وضعية جديدة في العلاقة سيبنى عليها. أي إن المبادرة، لا تهدف إلى الكشف عن عجز مؤسسات الدولة اللبنانية، فهذا بات واضحاً وجلياً وتحصيل حاصل.  وليست أيضاً رسالة إحراج للمسؤولين اللبنانيين، من باب قد أعذر من أنذر. بل عمق رسالة المبادرة هي: أن لبنان الذي نعرف لم يعد موجوداً، وان المقومات الأساسية لما يسمى بالدولة باتت مفتقدة.

من المؤكد أن أهمية المبادرة لا تكمن في نتائجها بقدر ما هي في رسائلها ودلالاتها 

فلبنان العربي الذي كان: حاضراً في نهضة المشروع العربي، وصوت الحرية الذي يصدح بإسم العرب في المحافل الدولية، وملتزما بجميع القضايا العربية المصيرية، ويتقن في الوقت نفسه، فن الحياد في الصراعات والخلافات العربية الداخلية. هذا اللبنان، الذي أسهم باحتراف وكفاءة عالية، في نهضة وعمران الكثير الدول العربية، بالأخص دول الخليج، التي أفسحت المجال للطاقات اللبنانية، أن تظهر كفاءتها وحسها الإبداعي فيها، وفي الوقت نفسه كان لبنان، يحظى برعاية واحتضان من هذه الدول، التي لم تتركه يوماً في محنته، وزمن حربه الأهلية وأزماته الاقتصادية.  باختصار، لبنان الذي أقام معادلة ذكية وحساسة لانتمائه العربي: حفظ فيه خصوصيته الذاتية، وأسس قواعد علاقة فعالة وبناءة مع الدول العربية، دول الخليج على وجه الخصوص، بحيث بات العالم العربي مجال لبنان الحيوي الأول، وصمام أمنه الأهلي واستقراره الاقتصادي.

هذا اللبنان، أراد اللبنانيون والمسؤولون فيه أم لم يريدوا، بات كياناً آخر، كيانا غريباً ومعادياً، كياناً فصل نفسه، عن سياق المصالح العربية وضروراتها الاستراتيجية، بل بات في المقلب الآخر المعادي لها، وبؤرة تهديد جدي لأمنها ومصالحها الإقتصادية، ومصدر أذى لمجتمعها، بتأمين الغطاء السياسي والأمني للمهربين.

هذا اللبنان أراد اللبنانيون والمسؤولون فيه أم لم يريدوا بات كياناً آخر، كيانا غريباً ومعادياً كياناً فصل نفسه عن سياق المصالح العربية

بالتالي، لم يعد بالإمكان المضي بالسياسات السابقة، وأن سياسة جديدة، ستُعتمد للتعامل مع الممارسات العدوانية، التي صدرت من الطرف اللبناني، لأنها بمثابة انقلاب من لبنان على مبادىء وقواعد العلاقات السابقة، وضع لبنان في حصيلة أدائه وقراراه السياسيين، بذكاء أو بغباء، أو أنانية من مسؤوليه، في المقلب الآخر المعادي.   

وحين يصبح العجز سمة الدولة اللبنانية القائمة، فلا هي قادرة على ضبط حدودها، ولا منع التهريب من داخلها، ولا إيقاف الحملات المعادية لدول الخليج، التي تستهدف أمنها واستقرارها وسلمها الاهلي، ولا منع قوى محلية فيه، من تدريب وتنظيم ونقل أسلحة إلى حوثيي اليمن، لتحقيق أخطر توسع ونفوذ إيرانيين، يهددان لا أمن دول الخليج فحسب، بل هويتها ووجودها. أي حين حين تصبح مؤسسات لبنان، عاجزة عن التحكم بداخلها وفرض سيادتها الفعلية، فإن هذه الدولة، لا تعود تصنف في عداد الدول الفاشلة فحسب، بل في عداد الدولة غير المسؤولة عن أفعالها، أي عداد الدول المارقة، التي لا تلتزم بأية شرعية أو قواعد تعامل دولي. وهو أمر، مآله عدم الاعتراف بشرعيتها، وعدم أخذ سيادتها على محمل الجد، أي عدم الاعتراف بها كدولة، لأن الشرعية والسيادة، قوام حقيقة الدولة ومعناها وشروط بقاءها. 

مؤدى المبادرة الكويتية، أن الأمور قد تغيرت، وأن الزمن الجميل الأول قد تحول، بحكم أن لبنان الذي نعرفه قد تغير وتحول، ولم يعد لبنان الذي احترمنا خصوصيته، وقدَّرنا انحيازه للمصالح العربية والتزامه بقضاياها. وأن الدولة التي نثق أنها تملك زمام أمرها وقرارها، لم تعد موجودة، وكل ما نراه هو صخب النزاع الداخلي، على المواقع وجدل الصلاحيات، من دون أدنى اهتمام أو تنبه جدي، للمخاطر التي تهدد الكيان اللبناني، ولمنزلقاته الخطيرة نحو حال اللادولة.  

حين يصبح العجز سمة الدولة اللبنانية القائمة فلا هي قادرة على ضبط حدودها ولا منع التهريب من داخلها ولا إيقاف الحملات المعادية للخليج

المبادرة الكويتية، رسالة خليجية واضحة إلى اللبنانيين: بأن أساس العلاقة السليمة معكم، هو أن تستعيدوا لبنان الكيان ذي الهوية العربية، وليكن لكم دولة ذات سيادة.  أي إن حل المشكلة بات بأيديكم، لأن مصدر هذه المشكلة، نابع من الوضع الجديد الذي وضع لبنان نفسه فيه، أو وُضِع فيه بغير رضا من أكثر اللبنانيين. سببه المباشر بحسب المبادرة هو سلاح حزب الله.

هذا السلاح، لم يعد، بحسب المبادرة الكويتية، مجرد مشكلة داخل لبنان، بل مشكلة لبنان الكيان في علاقته مع العالم، ومشكلته في تأكيد سيادة دولته. هو السبب الحصري للتحول الخطير، في تموضع لبنان في المعسكر المضاد للواقع العربي، والعامل الحصري أيضاً في تقويض سيادة الدولة. ما يجعل وجهة لبنان، في التعامل مع سلاح حزب الله، هي الفيصل التي يقرر حال الدولة أو اللادولة في لبنان، وهي المدار، الذي يتقرر على أساسها، عودة لبنان إلى الحضن العربي، أو قبول تبعات تصنيفه كياناً معادياً ومؤذياً.  

هذا السلاح لم يعد بحسب المبادرة الكويتية مجرد مشكلة داخل لبنان بل مشكلة لبنان الكيان في علاقته مع العالم

التحديد الصريح والحاسم للمبادرة الكويتية، في تسمية حزب الله مصدر المشكلة وأساسها، ضيق هامش المناورة الذي تعودناه من الدبلوماسية اللبنانية، التي تتقن فن جمع النقائض، وتجنب الإجابات الصريحة والواضحة، اتخاذ المواقف الجدية والفاعلة، والاستعاضة عن ذلك بلغة تسويغ العجز وتبرير الوهن.  كما إن هذه المبادرة حشرت حزب الله في الزاوية، بعد أن ضيقت عليه لعبة التلطي بالشرعية النيابية، والحضور الحكومي لطمس حال الدولة داخل الدولة، ولتغطية اعمال ونشاطات خارجية، تنافي سيادة الدولة، وتهدد الاعتراف الجدي بها.  أي أبطلت المبادرة لعبة حزب الله، في استعمال الشرعية، لتمرير أعمال تنافي منطق الدولة، وتناقض أبسط قواعد الشرعية، بحكم أن المشكلة لم تعد مقتصرة على شرعية حزب الله، بل باتت شرعية الدولة اللبنانية نفسها، التي تغطي سلاح حزب الله مهددة وعلى المحك.  المبادرة تقول بلغة إما/أو حاسمة: لا شرعية لدولة مع سلاح خارج عن سيطرتها، ولا كيان حقيقي تتقرر سياساته وحتى هويته، خارج مؤسساته الدستورية. 

الرد اللبناني الرسمي على المبادرة جاء ليؤكد وهن الدولة ومؤسساتها وليعلن أن قضية السيادة لم يعودا من مهام المسؤولين اللبنانيين

الغريب أن الرد اللبناني الرسمي على المبادرة، الذي استنفذ مجازات اللغة العربية واستعاراتها، ليغطي عجز قياداته الرسمية وتنصلهم من المسؤولية، جاء ليؤكد وهن الدولة ومؤسساتها، وليعلن أن قضية السيادة ووجهة لبنان، لم يعودا من مهام المسؤولين اللبنانيين واختصاصهم، ولم يعودا شأناً لبنانياً داخلياً، بل بات مصيرهما وحقيقتهما، في عهدة عاصمة أخرى، تصور نشاطها التدميري لمحيطها.. تصديراً للثورة.   

السابق
قائد جديد لقوات «اليونيفيل» في لبنان.. من هو؟
التالي
هذه حال الطرقات الجبلية اليوم