الحريري..«من بعدي الطوفان» أو الطائف!

سعد الحريري ميشال عون
"مالئ الدنيا وشاغل الناس"، كان الرئيس سعد الحريري الأسبوع الماضي، بعد عودته من الخارج، شأنه دائماً حاضرا كان أم غائبا، ينتظره الخصوم قبل الأعداء، لمعرفة قراره وهو الذي أعلنه يوم الإثنين الماضي، وقضى بـ "تعليق" ممارسته للعمل السياسي التقليدي، وعزوفه عن الترشح هو وتياره للإنتخابات النيابية المقبلة.

هذا القرار الذي يعتبر “أحلى الخيارات  المرة”، المطروحة أمامه في هذه الظروف العصيبة، التي وصل إليها ويمر بها لبنان، بعد حوالي عقدين من المعاناة نتيجة الصراع في المنطقة، الذي إنطلق ولا يزال يعصف بها، منذ  أحداث الحادي عشر من سبتمبر في أميركا كما هو معروف، وما تلاها من غزو لأفغانستان والعراق، وإعادة إحتلال للضفة الغربية، ما أدى لإعدام صدام حسين بأيدي أميركا، وقتل ياسر عرفات بأيدي إسرائيل، وشطبهما من المعادلة بما يمثلانه من ثقل عربي  على مستوى الزعامة والدور – بغض النظر عن الموقف السياسي من كليهما – ترافق ذلك مع “قبة باط” أميركية لإيران في المنطقة، بذريعة ضرب الإرهاب الإسلامي السني. 

هذه الأحداث التي تركت آثارها على الوضع اللبناني ولا تزال، فكان إغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري على يد “سليم عياش” – كما حكمت المحكمة الدولية الخاصة بلبنان – وهو أحد أفراد حزب الله كما هو معروف، الذي يشكل بدوره الذراع العسكري الأهم لمحور الممانعة، ليبدو هذا الإغتيال وكأنه إستكمال، لشطب الزعامات السنية العربية الفاعلة في “تقاطع مريب” للمصالح بين أميركا وإسرائيل من جهة، ومحور الممانعة من جهة أخرى، لتخلو الساحة للمشروع الإيراني، حتى وصلنا إلى ما وصلنا إليه اليوم للأسف، جراء التفتت وغياب المشروع العربي الجامع ولو بالحد الأدنى، الذي سمح بسقوط أربع عواصم عربية الواحدة تلو الأخرى، تحت سيطرة إيران، ووضع الآخرين في موقع الدفاع عن النفس والوجود.في الواقع، لم يكن الخيار الذي إتخذه بالأمس الرئيس سعد الحريري وحيثياته، بالقرار المفاجئ لكل متابع للأحداث والتطورات في لبنان، خاصة بعد ” ثورة ” 17 تشرين 2019، وما تلاها من إنكشاف الوضع الداخلي حد الإنهيار، وكذلك الوضع في المنطقة، خاصة مع عودة مفاوضات فيينا مع إيران، من قبل إدارة جو بايدن لمحاولة إحياء الإتفاق النووي، وكذلك تطورات الوضع اليمني وتأثيره على الوضع الخليجي بشكل عام، والسعودي – الإماراتي بشكل خاص، بما تمثله هاتين الدولتين من “مشروع” عربي، جاء متأخراً في مواجهة المشروع الإيراني في المنطقة. 

ما هي تداعيات قرار الحريري على لبنان وماذا عن مستقبل تيار ” المستقبل ” السياسي والشعبي ومشروع رفيق الحريري؟  

فقد سبق لنا وكتبنا في شهر أيلول الماضي، غداة قرار الرئيس الحريري وقف مساعيه لتشكيل الحكومة اللبنانية التي كان قد كلف بتشكيلها، مقالاً في ” جنوبية ” بعنوان ” سعد الحريري .. البيت المفتوح على خيارات أحلاها مر “، تحدثنا فيه عن ثلاثة خيارات أمام الرئيس سعد الحريري، من بينها خيار الإنكفاء الذي إتخذه، والذي يبدو أنه كان “الأحلى” على مرارته، من بين الخيارات الأخرى، التي تراوحت ما بين إستمرار مساكنة باتت شبه مستحيلة مع “شركاء وحلفاء” ألداء، وبين مواجهة مع العهد و “راعيه ” حزب الله، هي أصلاً غير مطروحة ولا ممكنة، نظرا لموازين القوى على الساحة السياسية وعلى الأرض أيضاً، فضلاً عن أنها باتت متأخرة وغير ذات جدوى، بعد أن إنفجر الشارع، وبات الجميع في سلة واحدة أمام الرأي العام، الذي رفع شعار “كلن يعني كلن”. الآن وقد قضي الأمر، وبان الخيط الأبيض من الخيط الأسود.

السؤال الذي يطرح نفسه هو ماذا بعد، وما هي تداعيات هذا القرار على لبنان، وماذا عن مستقبل تيار ” المستقبل ” السياسي والشعبي وبالتالي مشروع رفيق الحريري؟  

بالنسبة للوضع العام في لبنان، وبعيدا عن الوجدانيات والعواطف السياسية، سلباً كانت أو إيجاباً، في تقييم خطوة الرئيس الحريري، تزامنت هذه الخطوة – سواء كان ذلك مقصودا أو مجرد صدفة –  مع التصعيد الميداني في اليمن في الفترة الأخيرة، والقصف الذي طال كل من السعودية والإمارات العربية المتحدة، وكذلك مع زيارة وزير الخارجية الكويتي، إلى بيروت حاملاً معه “مبادرة خليجية”، هي عبارة عن خارطة طريق لإعادة الدفء للعلاقات اللبنانية – الخليجية، وإعادة لبنان للحضن العربي من جهة، وللمجتمع الدولي من جهة أخرى، عبر إلتزامه تطبيق القرارات الدولية الخاصة بلبنان، وهي في الحقيقة لا تختلف في بنودها عن البيان الفرنسي السعودي  الذي صدر عقب زيارة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون للسعودية، وإجتماعه مع ولي العهد محمد بن سلمان، وهو الإجتماع الذي تخلله إتصال بالرئيس نجيب ميقاتي يومها.

إقرأ أيضاً: خاص «جنوبية»: المزاج السني «العكر» بين ضياع الزعامة..و«المستقبل»!

وما يعزز الحديث عن أن هذه “المبادرة” مدعومة دولياً بشكل يبدو وكأنها “إعادة” إحياء لإتفاق الطائف  الذي تُعتبر خطوة الحريري بما يمثله من رمزية بالنسبة لهذا الإتفاق، تعتبر بشكل أو بآخر نعياً له  وإعلان موته أو لنقل “تعليقاً” له على الأقل، بعد حوالي 17 عاما من الحرب عليه  التي بدأت فعلياً بإغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري .

خطوة الحريري ليست تكتيكيا  أو مناورة تتعلق بالصراع الداخلي بل قرار خطير ومدروس وله ما بعده على مستوى الساحة اللبنانية

 

إن التزامن بين هذه التطورات وخطوة الرئيس الحريري، تؤكد بأن قرار الرئيس الحريري ليس قرارا تكتيكيا  أو مناورة تتعلق بالصراع السياسي اللبناني الداخلي – كما حاول البعض أن يوحي بداية – بل هو قرار خطير ومدروس، وله ما بعده على مستوى الساحة اللبنانية في سنة الإستحقاقات هذه، وما يعزز هذه الفرضية هي الأسباب الموجبة الواضحة، التي دفعته لإتخاذ هذه الخطوة والتي إختصرها بالنفوذ الإيراني، الذي تمكن من لبنان ومن مفاصل الدولة فيه، والذي يُقابَل بتخبط دولي وإنقسام وطني لبناني حوله، حد إستعار الجو الطائفي، الذي أدى بدوره إلى إهتراء الدولة اللبنانية. 

كما يعيدنا هذا التزامن بالذاكرة، إلى الظروف التي كانت سائدة عام 2004، بعد التمديد للرئيس إميل لحود، الذي جاء رداً على الضغوط، التي كانت قد بدأت على النظام الأمني اللبناني – السوري المشترك  لتطبيق القرارات الدولية المتعلقة بلبنان  والتي كان آخرها يومها القرار 1559  الذي تعيد اليوم “المبادرة الكويتية” التذكير به  وبضرورة الإلتزام به وتطبيقه، ما دفع الرئيس الشهيد رفيق الحريري إلى الإنكفاء يومها، والإنسحاب من السلطة بخطاب  إستعاده اليوم نجله ووريثه السياسي  الرئيس الحريري بالكلمات نفسها تقريباً، ولكن في ظروف أكثر دراماتيكية، حين إستودع الله “هذا البلد الحبيب لبنان وشعبه الطيب”، يومها كان الجو الدولي ملائما للمواجهة، وكان الحراك الداخلي قد بدأ بعد التمديد القسري لإميل لحود، وجاء الرد على هذه التطورات عن طريق الترهيب، عبر الإغتيالات التي إمتدت  لتطال الرئيس الشهيد رفيق الحريري، الذي بإغتياله إنقلب السحر على الساحر، وكانت إنتفاضة الشارع اللبناني، ضد عملية الإغتيال والنظام الأمني القائم يومها،  فكان الخروج السوري العسكري.

ولكن الترهيب تواصل عبر التفجيرات المتنقلة والإغتيالات التي طالت فريقا واحدا، هو فريق 14 آذار، الذي كان يخوض المواجهة مع بقايا النظام الأمني اللبناني – السوري وحلفائه السياسيين، فكان أن إنقسم البلد إلى فريقين.

وهكذا بدأت معركة القضاء على إتفاق الطائف، خاصة بعد تفاهم مار مخايل، ما بين التيار الوطني الحر بقيادة ميشال عون، الذي كان يحمل ثأراً شخصيا ضد إتفاق الطائف الذي أطاح به عام 1991، وإتخذ للمعركة شعار إستعادة حقوق المسيحيين، وبين حزب الله الذي كان يسعى لإسقاط إتفاق الطائف هو الآخر، لأنه كان يرى فيه عقبة في طريق تحقيق المشروع الإيراني في المنطقة، وإتخذ للمعركة شعار حماية سلاح المقاومة، خاصة وأن هذا الإتفاق هو إتفاق عربي برعاية دولية، جاء في ظل ظروف دولية وإقليمية ملائمة بعد الهزيمة، التي تعرضت لها إيران في الحرب العراقية – الإيرانية عام 1988، وظروف داخلية صعبة جراء الوضع الذي آلت إليه البلاد، بعد ما سمي يومها ب “حرب التحرير”، التي شنها العماد ميشال عون يومها كرئيس للحكومة العسكرية، ضد القوات السورية والموالين لها، في المنطقة الغربية من بيروت في العام 1989، والتي كانت السبب الرئيسي في الجهود العربية، التي أدت في النهاية لعقد مؤتمر الطائف، الذي إنبثق عنه هذا الإتفاق. اليوم، وبعد التطورات المتلاحقة والتغول الإيراني في المنطقة، عبر وكلائها في كل من سوريا والعراق واليمن.

بدأت معركة القضاء على إتفاق الطائف خاصة بعد تفاهم مار مخايل ما بين التيار الوطني الحر بقيادة ميشال عون الذي كان يحمل ثأراً شخصيا ضد الطائف

، وبطبيعة الحال في لبنان، حيث اليد الطولى لحزب الله، التي إمتدت لتصل إلى كل الميادين الأخرى، خاصة اليمن مع ما يمثله هذا الموقف، من عداء لدول الخليج العربية، وبعد فشل كل التسويات التي قام بها سعد الحريري داخلياً من ربط نزاع مع حزب الله، إلى التسوية الرئاسية التي جاءت بميشال عون حليف حزب الله، إلى سدة الرئاسة الأولى، هذه التسويات التي أكلت من رصيده الشخصي، لدى مؤيديه وأصدقائه في داخل لبنان وخارجه، والتي إعتبرها البعض تنازلات نابعة، من ضعف وجبن وقصور في المعالجة، ساهمت في تسليم البلد لإيران عبر وكيلها حزب الله، ناسين أو متناسين أن البلد سقط في يد إيران، أمام أنظار الجميع في 7 أيار من العام 2008، وأن كل هذه التسويات التي تحمَّل في سبيلها الكثير من الإهانات والإتهامات،كانت من أجل محاولة إنقاذ ما يمكن إنقاذه، لكنها للأسف لم تفلح في حماية إتفاق الطائف، ولم تنجح في تسيير عجلة الدولة.

ودفع الآخرين لملاقاته في نصف الطريق، بسبب من أنانية البعض وتعطشهم للسلطة، عبر تسعير الخطاب الطائفي البغيض لزوم شد العصب، من أجل كسب حفنة مقاعد نيابية تخولهم البقاء داخل السلطة، والإستفادة من غنائمها، ومن إرتباط البعض الآخر بمشاريع إقليمية، لا ناقة للبنان فيها ولا جمل، فكان الإنهيار المدوي الذي كانت التسويات إحدى ضحاياه، فكان أن إستقال سعد الحريري من رئاسة الحكومة بداية، إستجابة لضغوط الشارع، في خطوة تحسب له ولو متأخرة، وفي محاولة منه لإحداث صدمة قد تجعل الآخرين يراجعون مواقفهم.

“الدولة اللبنانية” رغم تطور الأحداث في المنطقة بقيت عاجزة عن تنفيذ سياسة النأي بالنفس وضبط حدودها السائبة

وتغيير منهجية العمل السياسي والحكومي، ولكن هيهات، فكان أن شُل البلد مجدداً، وبات التعطيل سيد الموقف، خاصة مع تطور الأحداث في المنطقة، وعجز ما تبقى من “الدولة اللبنانية” عن تنفيذ سياسة النأي بالنفس، وكذلك عجزها عن ضبط حدودها السائبة، أمام تهريب الممنوعات للدول العربية، فوقع المحظور وبات لبنان، محاصراً بسياساته غير المنطقية وغير الطبيعية، في علاقاته العربية والدولية.في ظل هذه الأجواء داخليا وإقليميا، يعلن سعد الحريري تعليق مشاركته السياسية إحساساً منه بالمسؤولية، وإعترافاً منه بفشل خياراته، متحملا نصيبه من المسؤولية، ومع إعلانه هذا، معطوفا على التطورات في المنطقة التي تزداد سخونة، يبدو لبنان على سطح صفيح ساخن، خاصة وأن الوقت أمامه يضيق، والفرصة التي وضعتها “المبادرة الكويتية”  التي قيل أنها لا تتجاوز خمسة أيام للرد عليها، تبدو وكأنها لرفع العتب خاصة، وأن الحكومة الحالية الخارجة من تعطيل دام لأكثر من ثلاثة أشهر، هي أعجز من أن تأخذ قرارات بمستوى ما تطالب به هذه المبادرة، خاصة وأننا على أبواب إستحقاقات سياسية عدة، منها الإنتخابات النيابية، التي لا يمكن لأحد التكهن بمآلاتها بعد قرار الحريري، وكذلك الإنتخابات الرئاسية بعدها بعدة أشهر، وهو ما يزيد من حجم المخاطر والتجاذبات، وهو ما تعودنا عليه منذ الحرب الأهلية، وربما قبلها أيضاً، بحيث لا يمر إستحقاق الإنتخابات الرئاسية، دون تداعيات وأحداث، كانت في غالبيتها ساخنة، وهو ما يجعلنا ننظر إلى إنكفاء سعد الحريري بوجل وقلق، من منظور تأثيره على الأوضاع في البلد.

وليس من منظور شخصي، كما يعتقد البعض، سواء أحببنا الرجل ومواقفه أم لا، فالموضوع أكبر من الأشخاص، فكيف ونحن نعتبر أنفسنا من مدرسة “ما في حدا أكبر من بلدو”، ما يجعلنا نتخوف على البلد وناسه، متسائلين في ظل هذه الظروف لبنان إلى أين، إلى حرب باردة تتمثل بالعقوبات والمقاطعة العربية، أم إلى حرب ساخنة تتمثل بتفجيرات أمنية متنقلة.

الإنسداد الواضح في الحياة السياسية اللبنانية لا يمكن أن يدوم طويلاً  وإلا فالإنفجار حتمي بحسب طبيعة الأمور

كما هي العادة كلما تأزمت الأمور في المنطقة؟ وفي كلا الحالتين إلى أين ستصل الأمور ، هل هي لإعادة الروح لإتفاق الطائف وتطبيقه كاملاً، أم إلى مؤتمر جديد يؤسس لإتفاق جديد، يأخذ بالإعتبار التغيرات التي طرأت في العقود الثلاثة الأخيرة؟ أسئلة كثيرة ومشروعة تطرحها التطورات المتلاحقة، والإنسداد الواضح في الحياة السياسية اللبنانية، الذي لا يمكن أن يدوم طويلاً  وإلا فالإنفجار حتمي بحسب طبيعة الأمور.

فهل سيتدارك المعنيون الأمر قبل فوات الأوان، أم سيستمرون في غيهم وضلالهم  غير عابئين بما وصلت إليه أحوال البلاد والعباد؟ يبقى الحديث عن تأثير قرار الحريري على تيار ” المستقبل ” حاضرا ومستقبلا، وما هو المطلوب منه للمرحلة المقبلة، لإستعادة مشروع رفيق الحريري، ولمحاولة حماية لبنان من الأسوأ، فلذلك حديث آخر.          

السابق
خاص «جنوبية»: المزاج السني «العكر» بين ضياع الزعامة.. و«المستقبل»!
التالي
وداع محزن للحريري بعد استقالته من الحياة السياسية