وداع محزن للحريري بعد استقالته من الحياة السياسية

سعد الحريري

على الرغم من أن سعد الحريري يبدو حَسَن النية أكثر من معظم زملائه من النخب السياسية في بيروت، إلا أنه أصبح في النهاية جزءاَ من الزمرة التي دفعت لبنان نحو مشارف الدولة الفاشلة.

في 24 كانون الثاني/يناير، أعلن رئيس الوزراء اللبناني السابق سعد الحريري، رئيس أكبر حزب سني في البلاد، أنه سيعّلق مسيرته السياسية وحثَّ المرشحين في «تيار المستقبل» الذي يتزعمه على عدم الترشح للانتخابات النيابية التي ستجري خلال فصل الربيع المقبل. وقد ترددت شائعات عن احتمال تنحّيه عن المشهد السياسي منذ تموز/يوليو الماضي، حين عجز عن تشكيل حكومة ومن ثم غادر بيروت متوجهاَ إلى أبوظبي. ووسط الأزمة المالية غير المسبوقة التي يعيشها لبنان والهيمنة المتزايدة لـ «حزب الله» المدعوم من إيران، من المرجح أن تؤدي مغادرته إلى إثارة الكثير من التوتر في الغرب بسبب الفراغ الملحوظ في القيادة السنية في لبنان.

من الثورة إلى الدمار

منذ اغتيال والده رفيق الحريري في شباط/فبراير 2005، كان سعد أبرز سياسي سنّي في البلاد ومحاور مفضل في العواصم الغربية. وكونه شخصية ودية ومتعاطفة إلى حدّ كبير، ساعد على قيادة دفة “ثورة الأرز”، الحركة الاحتجاجية التي أنهت الاحتلال السوري الذي دام لعقود من الزمن. وكونه رئيساً لـ «تيار المستقبل»، قاد تحالف «14 آذار» الموالي للغرب والمناهض لـ «حزب الله» لتحقيق انتصارات انتخابية في عامي 2005 و 2009. 

ولكن على الرغم من ضمانه الأكثرية النيابية، لم يتمكن الحريري من ترجمة الأصوات التي حصدها إلى تقدم على الأرض. ولكي نكون منصفين، لطالما هدّد «حزب الله» – واستخدم مرة بعد أخرى – القوة لمنع السياسيين اللبنانيين ذوي التوجه الغربي من تغيير الوضع القائم. فمن 2005 إلى 2013، اغتال «حزب الله» ما يقرب من اثنتي عشرة شخصية سياسية من حلفاء الحريري. وفي عام 2008، وبعد أن أصدرت حكومة الحريري سلسلة من المراسيم الضارة بـ «حزب الله»، اجتاحت الجماعة المصنّفة إرهابية بيروت وأمطرت منزله بالرصاص، من بين أهداف أخرى.  

ولسوء الحظ، وحتى قبل إطلاق العنان لآلة القتل تلك، كان الحريري مستعداَ للمساومة مع «حزب الله». ففي انتخابات 2005 والانتخابات اللاحقة، أبرم اتفاقات مع الحزب لزيادة مقاعد تحالفه في البرلمان. وبعد انتخابات 2009، تعرض لضغوط للدخول في حكومة ائتلاف مع الميليشيا وتبنّي (على الأقل خطابياً) عقيدة “المقاومة” كسياسة وطنية. وفي وقت لاحق من ذلك العام، واستجابة لإلحاح من السعودية، تصالح مع الرئيس السوري بشار الأسد، وقام بزيارة لدمشق وأمضى الليل في منزل الديكتاتور.

وبعد انهيار حكومته عام 2011، غادر الحريري لبنان إلى السعودية الذي يحمل جنسيتها. ويُزعم أن مغادرته جاءت بتهديد من «حزب الله»، ولم يعد إلى بيروت إلا في عام 2014. وفي 2016، تولى من جديد منصب رئيس الوزراء في حكومة ائتلاف أخرى مع «حزب الله»، تحققت من خلال إبرام اتفاق ينص على دعم انتخاب خصمه السياسي – حليف الحزب الموالي لسوريا ميشال عون – رئيساَ للجمهورية. وفي ذلك العام، دفعت التحديات المالية المتزايدة بالحريري إلى الموافقة على أو الإذعان لسلسلة جديدة من ممارسات الهندسة المالية المثيرة للجدل الصادرة عن المصرف المركزي.

وفي غضون ذلك، وقبل عودته إلى منصبه بقليل، أرغمت الرياض شركة البناء العملاقة التي يملكها الحريري “سعودي أوجيه” على إشهار الإفلاس. ومما زاد الطين بلة، أقدمت السلطات السعودية على ما يبدو على اختطافه بعد عام من ولايته، ثم هددته وعذبته، لترغمه في النهاية على الاستقالة احتجاجاَ على هيمنة إيران و«حزب الله» على لبنان. ولكن بعد إطلاق سراحه، تراجع عن استقالته وأكمل ولايته كرئيس للوزراء.

احتمالات تأثير الانتخابات على المسار الحالي الذي يشهده لبنان مشكوك فيه في أحسن الأحوال – فقد أظهر «حزب الله» أنه يولي أهمية أكبر للرصاص من صناديق الاقتراع

ومع استمرار تدهور الاقتصاد بسبب الفساد وسوء الإدارة المالية بشكل رئيسي، بدأ المزيد من المتظاهرين في المطالبة بالشفافية والمساءلة. وبحلول تشرين الأول/أكتوبر 2019، كانت المظاهرات تطالب بإقالة جميع المسؤولين الحكوميين وسط صرخات شعبية تحت عنوان “كلن يعني كلن”. وبعد فترة وجيزة، استقال الحريري. 

هل سيعود مجدداَ؟

كان الكثيرون في الغرب والبعض في لبنان يأملون أن يعود الحريري إلى منصبه مرة أخرى بعد الاضطرابات التي شهدتها البلاد في العامين الماضيين، لكن غيابه قد يطول أكثر مدة. وعلى الرغم من أن انسحابه يترك المجتمع السني في لبنان دون زعيم توافقي، إلا أن إرثه في ذلك الدور متباين في أحسن الأحوال. ومن الواضح أنه لم يكن فعالاَ في حماية مصالح السنّة – حتى عندما كان مدعوماَ بالكامل بالمال السعودي، اكتسبت الكوادر الشيعية في «حزب الله» نفوذاَ وزادت من هيمنتها على الدولة.      

كذلك، لم يكن دور الحريري فعالاَ في الترويج لرؤية غربية للبنان، على الرغم من توجهه الغربي الذي ليس هناك شك فيه. فلم يكن أبداً المصلح الذي أمل فيه الكثيرون، وتهاوى الاقتصاد في عهده وسط اعتماد الدولة سياسات غير حكيمة على طراز سلسلة بونزي.  

إقرأ ايضاً: الحريري..«من بعدي الطوفان» أو الطائف!

وتماماً كغيره من السياسيين اللبنانيين من جميع الأطياف الدينية، لم يكن الحريري بمنأى عن مزاعم الفساد. فمن بين اتهامات أخرى، ذُكر اسمه مراراً وتكراراً فيما يتعلق بصفقات تجارية مشكوك فيها تتعلق بإدارة النفايات، وهو قطاع أجّج اختلاله الوظيفي مظاهرات حاشدة في الفترة 2015-2016 ، بالإضافة إلى بروز حملة الاحتجاج “طلعت ريحتكم” في بيروت. وفي تشرين الأول/أكتوبر 2021، فرضت إدارة بايدن عقوبات على جهاد العرب – الذي يقال إنه مساعد مقرّب من الحريري – بسبب ممارسات فساد في هذا القطاع وغيره.  

وهكذا، فبينما كان الحريري على ما يبدو حسن النية خلال فترات حكمه المختلفة، إلا أنه لم يكن في نهاية المطاف زعيماَ جلب التغيير إلى لبنان. وبعد الاندفاع الذي شهدته أيام “ثورة الأرز”، كانت سياساته وتحالفاته مصممة لإدامة المشاكل النظامية للبلاد وليس تغييرها، سواء الفساد أو سوء الإدارة أو هيمنة أبرز وكلاء إيران في المنطقة. وخلال خطابه الوداعي في بيروت، استشهد بمنع الحرب الأهلية كأحد إنجازاته الرئيسية. ولكن هذا الإنجاز الذي لا يمكن إنكاره جاء على حساب تدمير لبنان بوسائل اخرى.

لم يكن دور الحريري فعالاَ في الترويج لرؤية غربية للبنان رغم توجهه الغربي فلم يكن أبداً المصلح الذي أمل فيه الكثيرون

وقبل إعلان انسحابه من الحياة السياسية، أدرك الحريري أنه إذا عاد مجدداَ لإنقاذ لبنان، فسيتعين عليه تغيير مقاربته. وبسبب عدم قدرته على عقد صفقة أخرى مع «حزب الله» أو الاعتراض حقاً على إملاءات الميليشيا، وجد نفسه في وضع لا يطاق.   

أما بالنسبة للزعيم السني المقبل في لبنان، فقد رحّب شقيق الحريري الأكبر بهاء من مقرّ إقامته في باريس بأخبار انسحاب سعد. ولكن رغم محاولته ملء الفراغ من خلال تمويل بعض المرشحين المعارضين لـ «حزب الله» وذوي الميول الإصلاحية للانتخابات النيابية، لا يبدو أن بهاء يميل إلى الانتقال إلى بيروت وارتداء عباءة العائلة. وقد تفوز عمتهما بهية البالغة من العمر سبعين عاماَ والقاطنة في صيدا بمقعد آخر في البرلمان، لكن من غير المحتمل أن تشارك هي أو أي فرد آخر من آل الحريري في الحكومة المقبلة.  

وعلى أي حال، فإن احتمالات تأثير الانتخابات على المسار الحالي الذي يشهده لبنان مشكوك فيه في أحسن الأحوال – فقد أظهر «حزب الله» أنه يولي أهمية أكبر للرصاص من صناديق الاقتراع. ومع ذلك، يمكن للاستراحة في سلالة الحريري الحاكمة أن توفر فرصة لبروز زعماء سنّة جدد أقل تساهلاَ مع الوصاية الإيرانية وأكثر ميلاَ للإصلاح. فبعد سنوات من التدهور الذي جعل لبنان على شفير الدولة الفاشلة، من الواضح أن النخبة السياسية الحالية في بيروت غير مؤهلة لإجراء تغييرات ضرورية لعكس المسار. وكان الحريري أفضل من معظم زملائه، لكنه أصبح في النهاية جزءاَ من نفس تلك الجماعة الفاشلة من النخب.        

السابق
الحريري..«من بعدي الطوفان» أو الطائف!
التالي
المجلس الوطني لرفع الإحتلال الإيراني عن لبنان..لإلتزام الرؤساء الثلاثة الحرفي ببنود المبادرة العربية!