بعد 45 عاماً.. «تحت العريشة سوا»!

(سقط الوالد عن العريشة، ارتطم جسده بالأرض وفاحت رائحة التُّراب) كان في الرّابعة من عمره حين سقط والده أمام عينيه، وشاهدَ تحطّم جسده. يُحاول اليوم، بعد 45سنة، أن يتذكّر ويُصوِّر ما رأى، علّ الذّكرى تُخفّف من عذاب روحه وألم قلبه.

قبل أن يرتطم بالأرض،
في ذلك الصّباح الشّتوي،
كانت السّماء صافية
لا غيمة فوقه، ولا أشياء تُظلّله.
والطّفل الصّغير يلهو بين أعشاب صغيرة، ينتظر نزول والده إليه
يُراقبه كيف يُشذِّب ويُقلِّم أوراق العريشة وأغصانها،
يُراقب خطواته الحذرة بين عناقيد العنب، وكيف تختلط نظراته الملونة مع كلّ عنقود ناصعٍ، يتدلّى
نظرات الطّفل الى والده في أعلى العريشة،
ونظرات الوالد الى ولده تحت العريشة.
نغمة من السّماء تُدغدغ صباحهما، تملأ مكانهما
قفص العريشة وخشباتها المُتقاطعة، أغصانها المُتشابكة المُعرِّشة على بعضها، يُعرِّش معها الوالد ويتحرّك بحرية،
مدَّ يدهُ وحرَّكَ رجليه

قطفَ وقصَّ وقلَّمَ، مرّات ومرّات، إلاّ أن خطوة ناقصة أخلّت بتوازن جسده بين الأغصان الّلزجة، وقبل أن ينزل الى طفله ويُقدِّم له عنقود عنب ناضج، سقط الوالد عن العريشة وارتطم بالأرض
تحطَّم جسدهُ، وفاحت رائحة التُّراب
دبَّ الأنين وحلَّت الكارثة

(لسوء حظّه، سقط الجسد على حجرٍ صخريّ صلب تحت العريشة)،
طقطقة عظامه وهي تتكسّر، لمعت كصوت الحطب بين يدي الحطّاب،
لكنها لم تُربك الطّفل المُنتظر والده في فيء العنب،
ظنّها صوت الأغصان المُتقصِّفة، لم يكن يعلم أن العامود الفقري تخلخل في جسد والده، وأن سقف بيته تخلخل ولن يستقيم بعد هذا اليوم اللئيم.

تدافع الأهل والأقارب وأهالي القرية،
حاولوا إنقاذه،
لكنهم أشبعوا جسدهُ حِراكاً،
حتى انفصل عاموده الفقري عن بعضه البعض، انشطر الى نصفين،
قضوا على أملٍ بنجاة الجسد أو علاجه،
(جهلهم وسوء تصرفهم مع جسده المُحطّم كان أقسى من ضربة الإرتطام بالأرض!)
الإبن الطّفل مذهول بين الجموع، لا يعرف كيف يبكي، لا يعرف ما الذي جرى لوالده..يسأل في نفسه:هل مات أبي!؟

انتصف النّهار والوالد المُحطّم على سرير العائلة،
نظراته سهام موجّهة نحو السّماء، وصمته السّحيق يضجّ بالألم العظيم،
كلّ الدّلائل تُشير الى عدم قدرته الى الوقوف والمشي، اقتنع الجميع بشلل قدميه وتعطّل قوّة جسده، واستحالة أن يمشي بعد اليوم.

حملوه الى المستشفى،
ومن اللحظة الأولى أثناء فحص الجسد، صرخَ الطّبيب بعدما عرف كيف انتشلوا جسده: مجرمون مجرمون يا جهلة!!

فقدَ الوالد عاموده الفقري،
وفقدت عائلته فقرات كثيرة من أيّامها وأحلامها،
أمضى بقية حياته القليلة مُقعداً، يفعل ما يحلو له بيديه وعينيه ونظراته،
يزداد عذابه ويكبر،
وابنهُ يكبر أمام خطواته العاجزة، يحلم وينتظر خطوات أبيه كي يتبعها،
عاشَ حياةً مُضاعفة بالأحزان والضّجر،
أكملها حتى رمقه الأخير،
بنصف جسد على كرسيّ مُتحرِّك، وسريرٍ ظالمٍ
لا يرحم!

السابق
خاص «جنوبية»: خطوة قضائية «خجولة» في ملف المرفأ.. ما مصير التحقيق؟!
التالي
اول تعليق من زوجة الرئيس الحريري.. ماذا قالت؟