«جنوبية» تحاور شوقي أبي شقرا حول ماضيه وجديده: ما زلت أسأل نفسي عن الشعر والحياة!

الشاعر شوقي ابو شقرا

الشاعر اللبناني شوقي ابي شقرا. القامة الشعرية الوارفة منذ تسعة عقود، شخصية من نسيج خاص جداً، لا تشبه أو تتشابه مع أية شخصية أدبية جايلته أو سبقته أو تلته.

شوقي أبي شقرا أسم لا يمكن المرور على ذكره دون التلفت والإنتباه والسؤال، من هو هذا الشاعر (الغريب) الذي يبدو أنه يغرد خارج السرب، يمسك بلغته الخاصة الطرية المفعمة بكيمياء التحول والتواصل. لغة عربية متينة يكتبها أبي شقرا، لكنها ليست كاللغة العربية المتداولة في معاجم الأدباء والكتاب، رغم انها تحمل حروف العربية على أصولها، لها قاموسها الخاص والفريد، وقصيدته تشهد على هذه الخصوصية، على هذا النأي بومضات وأفعال ومفاعيل متناسقة ، تتضارب وتتدافع وتتناغم وفق ايقاعها المبرمج (شوقياً) فقط.

إقرأ أيضاً: الشاعرة هدى النعماني.. سنة أولى غياب

جديده، الصادر حديثاً عن دار نلسن في بيروت،كتاب شعر بعنوان”عندنا الآهة والأغنية وجارنا المطرب الصدى”. ويضاف هذا الكتاب الى مخزون ابي شقرا الشعري، مخزون التجربة الكبيرة والرائدة والتي بلغت أكثر من خمسة عشر كتاب، كل كتاب بخصوصية ملفتة، تنأى في وطنها الشعري الخاص جداً.

يردد شوقي دائماً “مات والدي متدهوراً الى الوادي”!

ولد الشاعر شوقي أبي شقرا في بيروت، لكنه عاش طفولته في رشميا ومزرعة الشوف بسبب عمل والده في سلك الدرك الذي فقده في سن العاشرة بسبب حادث سيارة. ويردد شوقي دائماً “مات والدي متدهوراً الى الوادي”.

اللقاء بشوقي فرصة ثمينة جداً ، ان لم تكن فرصة نادرة. انه الشاعر الوحيد الذي ما زال بين الكلمات على مسرح الحياة والشعر، بعد أن غادره وغادر الحياة أغلب أبناء جيله.

وهنا نص الحوار مع الشاعر مع أبي شقرا:

ــ نبدأ بسؤال الشعر، كيف بدأت مع الشعر والقصيدة. أما زالت قصيدتك تخرج وتدخل من نفس المدخل والمخرج الذي اعتمدته في مسيرتك؟
ــــــــــ إنني مقيم في العطاء الشعري. دائم الحضور في القصيدة المتجددة.منذ بدأت الكتابة، منذ تلك الأيام من القرن الماضي، منذ كنت تلميذاً في مدرسة الحكمة، عشت الحيرة على أيامي ومستقبلي، وكنت أنظر للحياة القادمة بعين قلقة وحالمة. وما زلت الى الآن أسأل نفسي، لماذا كان الشعر يأخذني. لماذا كان مشواري في هذه الحياة؟

رأيت أن الشعر هو ملاذي، في قبضة يدي

ويضيف”: كان البؤس يحوطني بسبب غياب الوالد مجيد. ورأيت أن الشعر هو ملاذي، في قبضة يدي. أتيح لي الشعر في باكر الأيام، ومنذ تلك الأيام خرجت مع أصحابي الى القصيدة والشعر، التقينا واجتمعنا وكتبنا.وكأن الصدفة لعبت دورها، إذ أنني التقيت ببضعة من الأصدقاء وأسسنا حلقة الثريا:ميشال نعمة وجورج غانم وأدمون رزق وأنا. وقبل ذلك ، لعبت قريحتي دوراً فاعلاً في انطلاقتنا الشعرية.

ويردف”: في مزرعة الشوف، في الصيف، هناك،بدأ الشعر يراودني وبدأ قلمي يخربش على الورقة والأيام. كأنني كنت في حينها أحتاج، بغياب الوالد والعاطفة،الى التعويض،الى الشعر.كأن الشعر ينوب عن الوالد.كانت القصيدة ملجئي. القصيدة الأولى والتي كتبتها على الوزن، قصيدة عامودية.كل هذا كان قبل خروجي من الشوف ونزولي الى بيروت.القصيدة هي التي أنبأتني بالعيش، وعليّ أن أذكر أن السيد حسيب عبد الساتر ساعدني في انطلاقتي،وكنت أعرض عليه بعض نتاجي الأدبي والشعري في تلك الأيام من مرحلة الخمسينات. ولا أنسى فضل الكاتب الكبير فؤاد كنعان،لأنه فتح لي مجلة الحكمة لأكتب فيها، وكانت مجلة قيمة وناطقة بالحياة اللبنانية والحياة الثقافية بامتياز.فؤاد كنعان هو الذي ساهم بكشف وابراز موهبتي الشعرية والثقافية.

ــ أين أنت اليوم، متقاعد، غائب، متفرغ للكتابة؟
ـــــــــــ أنا اليوم ، بعد كل هذه السنوات وبعد انقطاعي عن المهنة، أعيش حياتي على مهل.أعيش في نوع من الإطمئنان المعيشي. ولا تنسى أنني كنت صحافياً، وكانت جريدة “الزمان” أول جريدة كتبت فيها. وفي ذلك الحين برزت شخصيتي في الكتابة،ومن ثم أصدرت كتابي “أكياس الفقراء”،وكان فاتحة للمشوار الطويل والسليم.
انني اليوم أعيش في الهدوء مع عائلتي، ومع الكتابة. متفرغ للكتابة ، ولا شيء أقدر من الكتابة في تحقيق رغباتي وأفكاري وأحلامي.

مشيت طريق الصواب في الكتابة، واهتديت الى الجديد. وما زلت الى اليوم في هذا المسير الجميل

ــ كيف تنظر الى تجربتك الشعرية وتباشيرها التي تتحدث عنها دائماً؟
ـــــــــ تلك التباشير كانت منذ 1959. ومن يومها انطلقت الى الشعر والقصيدة والحياة. ثم تدرجاً وصلت الى مغارة علي بابا. نشرت”خطوات الملك”، وقبلها نشرت”أكياس الفقراء” عند الشاعر يوسف الخال. وعندما نشرتها كان التجاوب كبيراً معها،وأعجب بها يوسف الخال، وآمن بها ، وكانت قصائد الكتابين قائمة على التفعيلة.
مشيت طريق الصواب في الكتابة، واهتديت الى الجديد. وما زلت الى اليوم في هذا المسير الجميل.

ــ اسمك مقرون وراسخ في تجربة الحداثة الشعرية، وتجربة مجلة “شعر” أحدثت ثورة شعرية وأنت كنت من أبرز روادها، كيف تقرأ اليوم في هذه التجربة الفريدة؟
ــــــــــ تحدثت كثيراً عن هذه التجربة، ولها فصول في كتابي السابق . إن ما يمكنني قوله الآن عن تلك التجربة، تجربة”شعر” انها تجربة غنية وثرية بالشعر والفكر والأدب. وكنت أنا الفارس المضيء والمرشد الجمالي لها ، حسب تسمية الشاعر محمد الماغوط. فقد عملت مديراً للتحرير في “شعر”، وكنت حارسها ومرشدها الجمالي والشعري والأدبي. كلهم عبروا مع حبر قلمي.

ـ ما جدوى الكتابة في حياتك؟
ـــــــــــ لا تنسى أن والدي قضى بحادث سيارة،وتركنا (أخوتي وأنا بكرهم) في قفص الطفولة والرعاية الواجبة وفي قفص المدرسة. هذا الخيط المأساوي للوالد قد أشعل فيّا نوعاً من الحنين والحزن الخفي،فاستمر الدفق العاطفي فيما بعد. وكانت الجدوى كبيرة في التعويض والتحصيل،حيث حلّت الكتابة كبديل للعاطفة المفقودة. لذلك حملت قلماً أحمر لوّن وأعطى وأكمل الهالة التي تلفّ قصيدتي منذ تلك الأيام.

ـــ تتحدث بثقة كبيرة عن تميز قصيدتك؟
ــــــــــــ قصيدتي قائمة على حركة التطور والتجدد. غيري وسواي من الشعراء كتب الوزن والقافية، وكنت أنا عكس سواي من هؤلاء، حيث كتبت الموزون المتميز جداً،كتبت الوزن بإيقاع حداثي . كتبت الحداثة وثيابها.كتبت الحرية،عملت على دفع الجملة الشعرية الى ذروة الحداثة بنفس حداثي زاخم وهاديء وجميل.حملت اللغة العربية وعجنتها وخبزتها ،فكان رغيف الشعر الطازج.وصفني عبد القادر الجنابي أن قصيدتي تخلو من العيوب أو العيب الذي هو قائم في القصائد الأخرى لسواي..تجربتي فريدة ومنفردة منذ تلك المراحل التي عبرتها، وتعامل معها النقد والأدباء بكل جدية.

ــ تجربة الصفحة الثقافية التي أطلقتها في ستينيات القرن الماضي، تجربة فريدة وكانت أساس المراحل الثقافية اللاحقة، كيف تنظر الى هذه التجربة اليوم؟
ـــــــــــ طبعاً هي تجربة فريدة وأساس متين في الصحافة الثقافية اللبنانية والعربية. بدأت العمل الصحافي في جريدة “الزمان”، ثم انتقلت،بدعوة من أنسي الحاج،الى جريدة “النهار”، لأن ملحق النهار كان بحاجة لي. وكنا بدأنا الملحق الأسبوعي،أنا وأنسي الحاج، (شغيلين). عملت في الملحق وكانت لي فرصة للحضور والإلتصاق بالواقع وبالقارئء، وحصل كل تواصل بهذا الأمر.وأذكر أن فرانسوا عقل(مدير التحرير في النهار) أعطاني صفحة بيضاء ،وجعلتها صفحة ثقافية يومية، وكانت توازي الصفحة السياسية.وتطورت الصفحة الثقافية التي ابتكرتها في بدايات 1964وصارت حلماً جميلاً ثم تطورت وجذبت الأقلام الكثيرة لكبار الكتاب والأدباء. وفي تلك المرحلة كانت الصفحة الثقافية زينة الجريدة وزينة الصحافة،بل خلقت عذوبة في المشهد الثقافي المقروء.

ـــ هل حقاً أنت شاعر سوريالي؟
ـــــــــــ هذا كلام عمره بعيد. ولا تنسى أنني أخذت جائزة الشعر سنة 1962،وكانت السطوة الأسطورية محركنا في ذلك الزمن.. في كتابي”ماء الى حصان العائلة” كسرت نمط الشعر ودخلت الى لغة وأسلوب جديدين،وأنزلت كل الصفات الحلوة في قصيدتي.وكانت مصدر وحي لي.كانت تجربة تنفذ الى كل مكان والى كل قاريء.

لم أضع قناعاً لامست كل جميل في بلادي ومارست الإنفتاح على كل شيء كأنني سوريالي

سمّوني السوريالي، الكاتب والناقد التونسي محمد علي اليوسفي كتب عن عيني الطفل وهما يطلان على السوريالية.أنا لم أضع قناعاً،لامست كل جميل في بلادي.ومارست الإنفتاح على كل شيء،كأنني سوريالي.

ـــ تجاوزت الثمانين (أطال الله بعمرك)عندما تنظر خلفك،كيف ترى شكل ولون هذا الزمن الغابر؟
ــــــــــــ بصراحة. أستغرب حالي بعد هذا العمر. وربما خائف من حالي.ولكن هذا الخوف كان وبقي وسيبقى بمثابة خطوات الى الأمام،خطوات تجدد وتطور.. رأيت بلادي بعينين بريئتين، وما زلت أرى بلادي بعينين واعيتين.كيفما نظرت،سأرى الزمن بالعين الباسمة،والكلمة النابضة بالجمال والسعادة.

ـــ الحب في حياتك وأيامك ؟
ـــــــــــ أنا أحب بلادي. وأحب زوجتي وعائلتي وأولادي وأحفادي. الحب ليس موجوداً في علبة ذهب أو في خزانة أو في عنصر جمالي آخر.الحب بأن تخترع به العاطفة والرغبات والمشاوير.الحب بأن تكون المرأة جميلة الجميلات. ولا تنسى أنني أحب المرأة كثيراً ،وأحبها في كل أعمارها.

ـــ المرأة جميلة وساحرة في عين كل شاعر، الشاعر شوقي ابي شقرا كيف يرى جمال المرأة؟
ـــــــــــ تعني لي المرأة الكثير. تعني لي أنها غير سوريالية. هي النعمة الحاضنة، وهي مثل قصيدتي تمشي على الأرض ورأسها مرفوع الى السماء.

أحفادي هم عاطفة لي،عاطفة كبيرة جياشة في عمري

ـــ لديك أحفاد اليوم، وأنت الشاعر الذي لم يشبع من والده “الذي مات متدهوراً الى الوادي”، ماذا تقول عن هذا التحول في حياتك؟
ـــــــــــ نعم،صورة خسارة الوالد تبرز في حياتي قاسية ومؤلمة ، أما أحفادي فإنني أقول (يضحك) أنا أشطر منهم، لأنني وصلت الى الإبتكار والتجديد في وضح النهار. أحفادي هم عاطفة لي،عاطفة كبيرة جياشة في عمري، وهذه سنّة الحياة.

السابق
بعدسة «جنوبية»: ماراثون «فايزر» في «السيتي مول».. وزيارة لوزير الصحة
التالي
سعيد عشية مثوله قضائياً بدعوى مقدمة ضده من «حزب الله»: يُحرّضون على قتلي واغتيالي!