الليرة..أقلّ ما خسره لبنان في أزمته الشاملة!

الليرة اللبنانية

الانهيار الشامل الذي ضج به العالم وأَدْخَلَ لبنان «مثلث» أسوأ 3 أزمات عرفها التاريخ منذ 1850، تحوّل منذ بدء تَدَحْرُجه «مدمّراً» لِما هو أكثر من الليرة التي كان صوت «استغاثتها» هو الأعلى.

فـ «بلاد الأرز» خسرت مع هذه «العاصفة الكاملة» النادرة سمعتها وأسس وجودها ودورها. ولبنان الذي كان يوماً جوهرة الدول العربية تَغَيَّرتْ صورتُه وتزعزعت الركائز التي بني عليها والتي صنعت أمجاده.

ومع تَمَدُّد الانهيار «الأخطبوطي» انمحت تباعاً تلك الهالة البهية وخَفَتَ وهج مؤسساته العريقة التي كانت قُبلة شعوب المنطقة. الخبير الاقتصادي والأستاذ المحاضر في الجامعة الأميركية في بيروت جهاد الحكيّم يشرح لـ «الراي» كل ما فقده لبنان.

على مرّ العقود الماضية شهدت بلدان كثيرة أزمات اقتصادية وانهارت عملاتها، ولكن لم يترافق ذلك نع انهيار شامل لكل القطاعات كما يحدث اليوم في لبنان ولا سيما القطاعات التي شكلت نقاط قوة هذا البلد الصغير بحيث فقد معها سمعته وبات من الصعب عليه استرداد ما خسره رغم محاولات تحسين قيمة العملة التي تحاول الحكومة اللبنانية الجديدة القيام بها ومن دون جدوى حتى اليوم.

 الحكيّم: في التسعينات خسر لبنان الليرة لكنه حافظ على قطاعاته التربوية والاستشفائية والمصرفية

ويقول جهاد الحكيّم «قد يتمكن لبنان من تثبيت عملته بعد أن يتم اتخاذ بعض الإجراءات، لكن استعادة الثقة بمؤسساته من مواطنيه أو اللبنانيين المنتشرين في العالم كما من العرب والعالم بات من الصعوبة بمكان.

فمَن خسر أمواله من المغتربين في المصارف يصعب عليه الثقة مجدداً ببلده، ومَن هاجر هرباً من الأوضاع الاقتصادية من شباب أو أصحاب كفاءات وحتى عائلات لن يكون بنيّتهم العودة الى بلد عاشوا فيه الأمرّين بعدما أسسسوا حياة جديدة في البلاد التي قصدوها، حتى ولو استعاد لبنان شكلياً ثبات ليرته».

ويضيف: «أصحاب الاستثمارات من عرب وأجانب الذين لم يلقوا أي دعم خلال الأزمة من الجهات الرسمية والذين شهدت استثماراتهم خسارة كبيرة لن يتجرأوا في القريب العاجل على الاستثمار في لبنان، ولو ثبتت عملته. أما الجيل الجديد الذي خسر أحلامه في لبنان وبات المستقبل أمامه شاحباً فصار يصعب عليه الإيمان ببناء مستقبل في بلده. لبنان خذل أهله على كل الصعد والليرة هي أقل ما خسره».

وفي خضمّ شرْحه لنقاط القوّة الكثيرة التي لطالما تَمَيَّزَ بها لبنان، يعطي الحكيّم لمحة عما كانت عليه قائلاً: «بداية بني لبنان الحديث على قطاع تربوي صلب. وكان القطاع الجامعي مميَّزاً حيث صنّفت بعض جامعات لبنان من بين الأوائل عالمياً وكانت تخرّج جيلاً متمكناً قادراً على مواجهة التحديات أينما وجد ومزوَّداً بكفاءات علمية ومهارات معرفية عالية الجودة يستفيد منها ليس لبنان فقط بل كل البلدان».

ويضيف: «أما القطاع التعليمي المدرسي فرافق لبنان منذ أواسط القرن التاسع عشر وصنع نهضته وشكّل واحدة من أبرز ركائز حياة اللبنانيين، إذ كانت أولوية اللبناني قبل الأكل والشرب تعليم أولاده في أفضل المدارس ليكتسبوا اللغات والثقافة والعلم الذي يؤهلهم دخول أهم الجامعات في لبنان والعالم. وقد اشتهرت مدارس لبنان بمستواها الثقافي والعلمي العالي ولغاتها وباتت مقصداً للطلاب من البلدان المجاورة والبعيدة. واعتُبرت من ركائز الثقافة الفرنكوفونية وتحولت بعدها الى مدماك مهم من مداميك الثقافة الأنغلو ساكسونية».

اسم اللبناني كان Brand أو ماركة عالية الجودة تملك مقومات وطاقات كثيرة أينما وُجدت… وشكلت تلك نقطة القوة الأبرز للبلد

ويتابع: «إذا كان القطاع التربوي قد بنى مجد لبنان، فالقطاع الاستشفائي كان من بين الأفضل في العالم بعنصره الإنساني، أي بأطبائه وممرّضيه الذين يتمتعون بأهلية علمية عالية، كما بتجهيزاته وسعيه المستمرّ لتطوير خدماته، وبأبحاثه العلمية التي يستفيد منها العالم بأجمعه. ومثله كان القطاع المصرفي الذي اعتُبر من الأقوى عالمياً وساهم في نهضة لبنان وصنع سُمْعَتِه كمصرف الشرق الأوسط ونقطة جذب لكل المتمولين ومركز إيداع للثروات الكبرى وعَزَّزَ مركزه المالي ودوره بين بلدان المنطقة».

لكن رغم أهمية هذه القطاعات، فإن الرأسمال البشري الذي يتمتع به لبنان هو ثروته الكبرى. وحول ذلك يقول الحكيّم: بات معروفاً ان اللبناني «شاطر» وقادر على النجاح في المجالات التي يخوضها أينما وُجد. ونجاح اللبنانيين في المغتربات وفي الدول العربية خير دليل على ذلك.

لقد كان اسم اللبناني Brand او ماركة عالية الجودة تملك مقومات وطاقات كثيرة وقدرة تفاوضية عالية اينما وُجدت. وشكلت تلك نقطة القوة الأبرز للبلد.

خسارة الاسم والصيت مع بروز الأزمة الأخيرة خسر لبنان صيته أو الـ branding الذي يميّزه، إذ صار اسمه مرادفاً للأزمات والفساد وسوء الإدارة والانهيار المالي، وتعرّض للكثير من الانتكاسات السياسية والاجتماعية والمالية والاقتصادية.

ويؤكد الحكيّم أن ما يمر به لبنان اليوم أصعب بكثير من كل ما عاناه في السابق، إذ في التسعينات خسر لبنان الليرة لكنه حافظ على قطاعاته التربوية والاستشفائية والمصرفية التي لم تمسّ، ولم يخسر مؤسساته أو سُمْعَته مطلقاً في السابق فاستطاع النهوض من جديد وتثبيت سعر ليرته. واليوم الخسارة تمتد على كل القطاعات بحيث يصحّ تكرار أن الليرة هي أقلّ ما خسره لبنان.

الليرة يمكن القيام بإجراءات لتثبيت قيمتها لكن بناء المؤسسات واستعادة السُمعة يحتاجان إلى عشرات السنين

ويشرح الحكيّم هذا الأمر قائلاً: «الليرة تأتي وتذهب ويمكن القيام بإجراءات لتثبيت قيمتها، لكن بناء المؤسسات واستعادة السُمعة يحتاجان الى عشرات السنين. المصارف التي بنيناها منذ الستينات أطاحوا بها بسنة واحدة فخسرنا إضافة الى موقعنا المصرفي مدخرات المودعين ومستقبل أولادنا وتقاعُد كبارنا. لقد أساءت المصارف اللبنانية الأمانة سواء بالنسبة للمودعين اللبنانيين أو المغتربين أو العرب والأجانب، واهتز القطاع المصرفي في لبنان ومعه دوره كمصرف للشرق الأوسط. واليوم نتساءل كم سنة يحتاج اللبنانيون ومعهم العرب لاستعادة الثقة بالمصارف وإعادة إيداع أموالهم فيها؟».

أما القطاعات الأخرى فحالها ليست أفضل من المصارف بكثير وكأن هناك تدميراً ممنهجاً لكل نقاط القوة التي عرفها لبنان: «القطاع التربوي بمدارسه وجامعاته يعاني مع عدم وجود جدية مثلاً في التعاطي مع الشهادات الرسمية، وثمة تهجيرٌ للكفاءات العالية ورحيلٌ متسارع للكادرات التعليمية العليا التي لم تعد قادرة على الاستمرار في عملها براتب فَقَدَ كل قيمته ولا على القيام بأبحاثها في ظل عدم توافر أيٍّ من مقومات البحث بعدما خسرت الجامعات أيضاً مدخراتها في المصارف. ومن هنا بدأنا نرى بعض الجامعات التي تسعى إلى افتتاح فروعٍ لها في الخارج، لأن كثراً يطلبون تَمَيُّزَ خدماتها لكنهم لم يعودوا يريدون المجيء إلى لبنان للاستفادة منها. كما بتنا نرى أن بعض الجامعات بدأت تقبل أعداداً أكبر من الطلاب في اختصاصات لم يكن سابقاً يتم إلا قبول المتميزين فيها، وذلك لتتمكن من سدّ بعض خسائرها نتيجة هجرة عدد كبير من الطلاب والأساتذة منها. هذا إضافة الى أزمة الأقساط المدرسية وعدم قدرة الأهالي على دفع زياداتها وعدم قدرة المدارس من جهة أخرى على تحمل تكاليف التشغيل والتجديد وتسديد رواتب الأساتذة فيها، ما يجعل العام الدراسي في مهب الريح ويحوّل القطاع التربوي الى قطاع مشلَّع يبحث عن حلول».

إقرأ أيضاً: مساع جديدة لحلحلة حكومية؟

ويضيف الحكيّم: «اما بالنسبة للقطاع الاستشفائي فحدِّث ولا حرج، بدءاً من هجرة الجسم الطبي ككل، من أطباء وممرضات وصولاً الى عدم توافر المعدات والمستلزمات الطبية في المستشفيات وليس انتهاءً بفقدان الأدوية وعدم القدرة على تشغيل المستشفيات في ظلّ أزمة المازوت. وكأنه قطاع بات يعمل في حده الأدنى لتأمين المتطلبات الطبية الدنيا في حين كان لبنان مستشفى الشرق وكانت الأبحاث العلمية فيه تُناطِح مثيلاتها في أهمّ الدول الغربية».

اللبناني المهزوم كل هذه القطاعات تأثّرت وتأثر معها اسم لبنان وسمعة اللبناني. ويؤكد الحكيّم «اليوم صار اللبناني الذي كان حتى الأمس القريب فخوراً بنفسه ومهاراته مصدر شفقة ولا سيما بعد انفجار الرابع من أغسطس وما تلاه من موت ودمار وخراب وفقدان للأرواح والأشغال ومصادر الرزق وتدمير لمؤسسات عريقة وكبيرة. لقد فَقَدَ قدرتَه التفاوضية ولم يعد قادراً على المطالبة بالمرتّبات العالية التي تُوازي مهاراته وخبرته، وصار يرضى بأن يعمل بأقلّ ممما يستحق أولاً لأنه مضطر لذلك، وثانياً لأن أرباب العمل في مختلف البلدان يستغلون هذه النقطة ويستفيدون من انهيار الوضع المالي في لبنان لعرْض أدنى المرتّبات».

لقد خسر اسم لبنان هالتَه وصارت حتى التحويلات من لبنان الى الخارج أو العكس مشكوكاً بها. وجاء انفجار الأزمة مع دول الخليج العربي ليتوّج المسار الانحداري في قلب «جهنّم» ويعقّد مسار الإنقاذ والنهوض… الشائك أصلاً.

السابق
مساع جديدة لحلحلة حكومية؟
التالي
حان الوقت لإطلاق المقاومة السلمية!