وجيه قانصو يكتب لـ«جنوبية»: ليس بالانتخابات وحدها تحيا الديمقراطية!

وجيه قانصو
يخص الدكتور وجيه قانصو «جنوبية» بمقال أسبوعي ينشر حصرياً على صفحات الموقع ومنصاته الإلكترونية.

تعتبر الانتخابات سمة جوهرية للديمقراطية، لجهة أنها تنشىء علاقة تمثيلية بين الحاكم والمحكوم، تهب الحاكم شرعية اتخاذ القرار بإسم المحكوم ورضاه، ولجهة أنها تلغي أي حق وراثي أو إلهي أو ديني بالسلطة، ولجهة أنها تحد من الاستبداد والتفرد، في صناعة القرار السياسي، ولجهة أنها تضمن تداول السلطة، فلا تعود مُلكاً شخصياً أو تنصيباً ذاتياً، وأخيراً لجهة أنها (أي الانتخابات) ضمانة للاستقرار السياسي، بحكم أنها تنظم الخلافات والتناقضات، على قاعدة قانونية وبطريقة سلمية.  

إقرأ أيضاً: وجيه قانصو يكتب لـ «جنوبية»: ما بعد بعد القرار السعودي!

ذكرت ذلك لأقول، أن الانتخابات لا تقصد لذاتها،  بل هي وسيلة لتحقيق غاية أبعد منها، أو بالحد الأدنى تعزيز التعددية واحترام الاختلاف، وتوفير مناخ التعبير الحر، والمساواة في فرص الترشح والتنافس النزيه، وغياب الإكراه والتهديد وتثبيت مرجعية القانون.

نجاح الانتخابات لا يكون بمجرد تنظيمها أو التقيد بمواعيدها بل بالآثار التي تحدثها والمناخات التي تولدها

بالتالي فإن نجاح الانتخابات، لا يكون بمجرد تنظيمها أو التقيد بمواعيدها، بل بالآثار التي تحدثها والمناخات التي تولدها.  فقد تكون الانتخابات، مدخلاً لتفجير حرب أهلية بين مكونات متناحرة داخل المجتمع، وقد تكون آلة مخابراتية للنظام في معرفة المؤيد والمعارض، وقد تكون وسيلة ماكرة لادعاء حزب أو جهة داخلية، شرعية شعبية لتقويض الدولة نفسها والانقضاض عليها، وقد تكون طريقة تعبئة وتطويع وبناء ولاءات زبائنية: ولاء مطلق مقابل تقديم خدمات وتسهيل منافع، وقد تكون مظهر غلبة أو  طغيان، تمارسه قوى السلطة على القوى الجديدة أو الصاعدة، بأن تضيق عليها سبل المنافسة السياسية، وتحجب عنها الحق في المشاركة في صنع القرار السياسي، لغرض احتكار الشرعية السياسية.  كل ذلك يعني أن الإنتخابات، قد تعطي نتائج تناقض مقصدها وغايتها، وقد نحصل على تصويت صوري، في الوقت الذي تكون فيه العملية الديمقراطية مغيبة ومصادرة.

قد تكون وسيلة ماكرة لادعاء حزب أو جهة داخلية شرعية شعبية لتقويض الدولة نفسها والانقضاض عليها

 لهذا السبب، أخذت متابعة الديمقراطية تتركز على التعريف التجريبي، والتوصيف المؤسساتي والإجرائي للديمقراطية، بأن تم استبدال العبارات المعيارية في تعريفها،  بصياغات وإجراءات لفهم طبيعة مؤسسات الديمقراطية، ومعرفة كيف تعمل والسبب الذي يجعلها تتطور وتظهر ثم تنهار.  وهي مقاربات تمكن من الحكم على الدرجة، التي يكون فيها النظام السياسي ديمقراطياً، وتمكن من رصد مسار العملية الديمقراطية، سواء أكان في صعودها وهبوطها، أو في قوتها وضعفها، أو كمالها وانهيارها. إنها مقاربة ترصد الديمقراطية لا في التفكير في مبادئها، بل في تمظهراتها لجهة توفر الآليات والإجراءات، التي تحقق مبادئ الديمقراطية المفترضة، وللتأكد من أن الانتخابات تقوم على تنافس حقيقي، وتشرك أكبر عدد ممكن من المواطنين.

البحث في وظيفة ومآلات الانتخابات ضروري، لجميع التضامنات الجديدة التي أفرزها حراك 17 تشرين، والتي تعتبر أن الانتخابات القادمة ستكون نقطة الاختبار الأولى والجدية، لإحداث تغيير ملموس في الحياة العامة. 

تكمن المشكلة حين تدخل هذه القوى حلبة منافسة انتخابية مصممة مسبقاً، في آلياتها وضوابطها وإجراءاتها، وفق إرادة قوى السلطة وحساباتها ومصالحها. أي وفق قانون يضمن لقوى السلطة تجديد هيمنتها ونفوذها، وإن كان بنسبة فوز غير كاسحة، لكن تبقى قبضتها على السلطة ومجرياتها محكمة وصلبة. وهي طريقة قد تكون مقصودة لإستدراج قوى التغيير ودعاة الثورة، داخل حظيرة قوى السلطة، للعب في ملعبها والالتزام بالقواعد التي وضعتها، والقيود التي فرضتها والغرق في التعقيدات التي ابتكرتها، وكانت سبباً لكارثة الانهيار الحاصلة في لبنان.

هي طريقة قد تكون مقصودة لإستدراج قوى التغيير ودعاة الثورة داخل حظيرة قوى السلطة، للعب في ملعبها

بالتالي وبدلاً من تحقيق تقدم إلى الأمام، أو إحداث فجوة في جدار صلب، تكون الانتخابات فخاً وكميناً متقن الصنع، يتم استدراج جميع الطامحين بلبنان آخر إليه، ليتم بذلك تدجينهم وتقييد إرادتهم وتعطيل طاقتهم، وإفراغ تطلعاتهم من محتواها، بسبب الغرق في تفاصيل تشريعية وتنفيذية وإجرائية ورقابية تافهة، الأمر الذي يعزز هيمنة قوى السلطة الحالية، ويؤدي بالتالي إلى مراكمة فشل قوى التغيير فوق فشلها الراهن، ويزيدها إحباطاً فوق إحباطها.

إنها معضلة منطقية تواجه جميع “الثوار” وطامحي التغيير في لبنان: كيف يمكن إحداث تغيير داخل ملعب السلطة ووفق قواعدها؟ وكيف نحدث اختراقاً نوعياً في انتخابات، فصلت على قياس رموز السلطة الحالية؟ وكيف نتنافس على شرعية سياسية، في حين أن أصل الشرعية والقرار النهائي أو القول الفصل بات خارج مؤسسات الدولة؟  وكيف نرضى بانتخابات ليست أكثر من بيعة لرموز طائفية؟ وكيف ننخرط في انتخابات لا تغير نتائجها شيئاً من حال اللادولة واللاقانون؟ وكيف نطمح إلى الديمقراطية ولم نبدأ تصفية حساب ضد موانعها ومعوقاتها؟ بل كيف نطمح إلى الديمقراطية، ولم تستطع أكثر قوى التغيير إظهار مصداقيتها الديمقراطية في الخطاب والسلوك؟  

إنها معضلة منطقية تواجه جميع “الثوار” وطامحي التغيير في لبنان: كيف يمكن إحداث تغيير داخل ملعب السلطة ووفق قواعدها؟

حين بدأ حراك 17 تشرين، كان سقف المحتجين عالياً: “كلن يعني كلن”، هو سقف عبر عن حُلُم باطني ورغبة ذاتية أكثر من تجسيده، لمعطى موضوعي أو عناصر قوة فعلية. شعار يعوض الشعور باليأس والإحباط، يُنسي مأساة الراهن بالتطلع إلى مستقبل متخيل، أي شعار يستجيب لما يجب أن تكون عليه الأمور لا ما هي عليه بالفعل.  كان شعاراً تعويضياً يعوض جروحاتنا الباطنية، ولم يكن شعاراً سياسياً أو مشروعاً تغييراً، قائماً على خطاب وبرنامج وكتلة تضامنية، تؤمن جميعها قوة دفع وطاقة اقتحام لتصديع جدار قوى السلطة الحديدي. لأنه كذلك، فقد تعرض هذا الحراك إلى انتكاسة واحدة تلو الأخرى، ورضي لنفسه طوال أكثر من عامين، أن يكون على هامش المشهد السياسي، في لبنان وخارج تفاعلاته المحلية والدولية.

ما أخشاه أن يكون حماس قوى التغيير الفائض في خوض الانتخابات هو بمثابة عودة الابن الضال إلى الحظيرة الأبوية للسلطة وإعلان ضمني بنهاية الثورة

ما أخشاه أن يكون حماس قوى التغيير الفائض، في خوض معركة الانتخابات النيابية القادمة، هو تخل طوعي عن مداخل التغيير الحقيقية والضرورية، وبمثابة عودة الابن الضال إلى الحظيرة الأبوية للسلطة، وإعلان ضمني بنهاية الثورة.     

السابق
هل عادت أزمة بنزين؟
التالي
لبنان على أبواب انفجار نقديّ حتميّ.. هذا ما حذر منه خبير اقتصادي!