«رمانة» قرداحي و«شعرة معاوية».. و«الشيطان» ثالثهما!

وزير الاعلام جورج قرداحي

في 15 تموز الماضي كان لي مقال من جزئين في “جنوبية” عن العلاقات اللبنانية – السعودية, بعنوان رئيس” بين السعودية ولبنان : رمانة أم “قلوب مليانة”، تحدثت فيه عن تاريخ العلاقات بين البلدين منذ بداية الحرب الأهلية اللبنانية وحتى اليوم، مرورا طبعا بفترة إتفاق الطائف وإنتهاء الحرب رسمياً بداية التسعينات من القرن الماضي، ودخول الرئيس الراحل رفيق الحريري السلطة، كأحد أركان ترويكا الحل الذي كان سورياً – سعودياً برعاية أميركية وبالتالي دولية.

إقرأ أيضاً: عندما يستفز «حزب الله» اللبنانيين قبل السعوديين!

اليوم، ومع إنفجار الأزمة بين لبنان ودول الخليج العربية بدءاً بالسعودية، يبدو أن أكثر ما ينطبق على هذه الأزمة هو عنوان ذلك المقال، لأن ما ظهر منها وما خفي أعطى الإنطباع، بأن القصة ليست قصة “رمانة” وزير الإعلام اللبناني جورج قرداحي، بل هي قصة “قلوب مليانة” بالعتب والغضب والغصة والإشمئزاز، جراء تصرفات بعض الأطراف اللبنانية وتحديدا حزب الله، الشريك – المضارب في كل الحكومات اللبنانية، منذ العام 2015 وهو العام الذي شهد بداية الحرب في اليمن، بين التحالف العربي بقيادة السعودية وبين قوات “أنصار الله”، بقيادة عبد الملك الحوثي المدعومة من إيران، هذه الحرب التي جاءت في الحقيقة – وهذا ما يتجاهله أنصار محور إيران، ومنهم الوزير قرداحي – رداً على الإنقلاب الحوثي على العملية السياسية اليمنية، التي إنبثقت عن مخرجات الحوار الوطني وفق المبادرة الخليجية يومها، بعد إندلاع الثورة اليمنية ضد حكم الرئيس السابق علي عبد الله صالح، الذي تحالف مع الحوثي لتنفيذ الإنقلاب على الشرعية، قبل أن يقع الخلاف بينهما ويقتل شر قتلة على يد “حلفائه” الحوثيين عام 2017.

تصريح جورج قرداحي، يبدو وكأنه النقطة التي أفاضت الكأس السعودية والخليجية في التعامل مع لبنان والحكومة اللبنانية

ما يدفعنا لتبني مقولة “القلوب المليانة”، هو أن موقف وزير الإعلام اللبناني ليس جديدا بمضمونه، على ما يصرح به دائما أنصار محور إيران في لبنان، وقد قيل في السابق ما هو أكثر منه عدوانية، وعدة مرات على لسان السيد حسن نصرالله نفسه، وليس هذا الموقف الذي صدر عن وزير بالحكومة ترك كل هذا الأثر، في حين أن الكل يعلم بأن الحكومات في لبنان، لا تتشكل إلا بالتوافق بين كل الأفرقاء، وفي الطليعة منهم حزب الله، وبالتالي فإنه بمجرد أن يدخل طرف إلى الحكومة، فهذا يعني بأن الحكومة هي مسؤولة ولو معنوياً، عن تصرفاته بغض النظر عن “التذاكي” اللبناني في التعامل مع العالم، كما نتعامل مع بعضنا البعض في الداخل. كما أن التصريح كان قبل أن يصبح جورج قرداحي، وزيراً مسؤولا وملتزماً مواقف الحكومة اللبنانية، طبعا لا نقول هذا تبريرا لموقف قرداحي أو تأييدا له، بل لنقول بأن وراء الأكمة ما وراءها، وإن تصريح جورج قرداحي، يبدو وكأنه النقطة التي أفاضت الكأس السعودية والخليجية في التعامل مع لبنان والحكومة اللبنانية، ووصل حد قطع “شعرة معاوية”، التي لطالما حرصت المملكة ودول الخليج على عدم قطعها مع لبنان. فما هي إذن الأسباب التي قد تكون أملت هذا الموقف السعودي – الخليجي وما هي دلالاته؟

بقيت النار تحت الرماد، إلى أن أعاد إشعالها وزير الخارجية السابق شربل وهبة في مقابلته الشهيرة على قناة الحرة

لمحاولة الإجابة عن هذا السؤال، لا بد في البداية من الإقرار وبعيداً عن المواقف العاطفية والشعبوية، وحديث الكرامة والسيادة الوطنية، بأن المملكة العربية السعودية تحملت الكثير من الإساءات الكلامية، لها كبلد وللعائلة الحاكمة فيها بشكل خاص، على مدى السنوات الماضية من بعض الأطراف اللبنانية، وعلى رأسها بالطبع حزب الله وكذلك التيار الوطني الحر، الذي كان رئيسه وزيراً للخارجية وقت إندلاع الحرب في اليمن، وأثناء إقتحام وإحراق السفارة السعودية في طهران، في أعقاب إعدام الشيخ نمر باقر النمر في السعودية، بحيث رفض يومها إدانة هذا العمل أثناء إجتماع الجامعة العربية، وكذلك ميدانياً جراء تدخل حزب الله في الحرب هناك، داعما للحوثيين سواء بالتدريب أو الخبراء في مجال الصواريخ والطائرات المسيرة، التي تقصف الأراضي السعودية ومنشآتها، أو عبر إلإحتضان الإعلامي والسياسي لهم في بيروت، وهو ما كان له الدور الكبير والأكيد في الأزمة، التي طالت الرئيس سعد الحريري في الرياض عام 2017، فضلاً عن قضايا أخرى ربما، وتعتبر نقطة تحول كبيرة في العلاقات اللبنانية – السعودية، والتي خلفت آثارا سلبية إضافية على العلاقات الثنائية رسميا وحتى شعبيا، لم تتم معالجتها ومتابعتها بإيجابية من الطرفين، بحيث بقيت النار تحت الرماد، إلى أن أعاد إشعالها وزير الخارجية السابق شربل وهبة في مقابلته الشهيرة على قناة الحرة، فكان التحرك السريع من السلطة يومها، ومن الأوساط السياسية والشعبية أدى لوأدها في مهدها، وإن أضحت قابلة للإشتعال بسرعة، جراء أي نفخة ولو صغيرة في رماد الإهمال وعدم المبالاة، بإصلاح شامل للعلاقة بين البلدين نتيجة تخبط السلطة اللبنانية في سياستها، معطوفا على شحنات “الرمان الملغوم” بالكبتاغون، لتكتمل الصورة ب “رمانة” قرداحي الملغومة سياسياً، فكان أن وصلنا إلى ما وصلنا إليه اليوم، والذي لا يمكن فصله عن هذا المسار للعلاقات بين البلدين، فضلاً عن أن القرار السعودي يعتبر حقا سياديا لا نزاع فيه بالمطلق.

لا يختلف إثنان كما أعتقد، أنه في منطقة كمنطقة الشرق الأوسط بتطوراتها المتلاحقة، لا يمكن فصل أي حدث عن سياق هذه التطورات، سواء كانت سلبية أم إيجابية، ومن هذه التطورات مؤخرا الحوار السعودي – الإيراني، الذي بدا وكأنه يسير في إتجاهه الصحيح ولو ببطء ولكن بثبات، وهو ما تجلى بإعادة إستيراد السعودية لبعض السلع من إيران، التي لا تقاس هنا بقيمتها المادية، بل بقيمتها السياسية وتأثيرها على العلاقات، التي يبدو أنها دخلت مرحلة “ديبلوماسية السيراميك”، لكن المثير في الأمر، أن هذا التقدم في المباحثات بين الجانبين، لم ينعكس تبريدا للجبهات بينهما في أماكن صراعهما، ما يعني أن الأمور ليست ناضجة كفاية بعد، وهو ما تجلى في تصاعد الأحداث في اليمن، مع التقدم الذي يحرزه الحوثي في منطقة مأرب، والضربات الجوية المكثفة للتحالف بقيادة السعودية، وكأن هناك سباقاً بين الحرب ومساعي السلام الجارية، ومحاولة كل طرف تسجيل إنتصارات قبل الجلوس إلى مائدة المفاوضات.

بدا واضحا أن خطاب حزب الله عاد إلى التصعيد خاصة ضد السعودية، كما في الداخل اللبناني غداة زيارة وزير الخارجية الإيراني للبنان

كذلك الأمر في لبنان، فقد بدا واضحا أن خطاب حزب الله عاد إلى التصعيد خاصة ضد السعودية، كما في الداخل اللبناني غداة زيارة وزير الخارجية الإيراني الجديد حسين عبد اللهيان الأخيرة للبنان، وكذلك الآن مع إنفجار أزمة قرداحي الذي صادف – هل هي صدفة فعلا – إنفجارها مع زيارة قائد فيلق القدس إسماعيل قااني إلى بيروت، بعد فترة من التهدئة وصلت حد حديث أمين عام حزب الله السيد حسن نصرالله في أحدى خطبه عن “سمو ولي العهد” الأمير محمد بن سلمان، وهو المعروف عنه دقة إختياره لعباراته. الأمر نفسه ينطبق على العراق، حيث أفرزت الإنتخابات الأخيرة “أزمة” جديدة، تجلت برفض أنصار إيران لنتائج الإنتخابات، حد الإدعاء بأن تزويرا ما حصل لصالح مقتدى الصدر بضغط من “أميركا وإسرائيل”، كعادة هذا المحور في تخوين الآخر.

كل هذه التطورات توحي، وكأن هناك “عض أصابع” متبادل بين السعودية وإيران، لحاجتهما إلى أوراق تُصرف في المباحثات بينهما، فالواضح أن السعودية مستاء من الوضع في اليمن، وإيران لنقل غير مرتاحة للتطورات في العراق، والوضع في سوريا على حاله من الستاتيكو وغير قابل للإستثمار السياسي، أقله حتى الآن، خاصة بعد زيارة رئيس الوزراء الإسرائيلي نفتالي بينيت الأخيرة لروسيا، وإعلانه الإتفاق مع فلاديمير بوتين بالنسبة للأوضاع في سوريا، وكذلك إستئناف الضربات الجوية الإسرائيلية على سوريا، التي يبدو أنها أصبحت روتين لا يثير أي حمية أو ردة فعل. فهل أرادت السعودية الإستثمار السياسي في لبنان في هذه اللحظة، خاصة بعد التطورات في قضية تحقيق مرفأ بيروت الذي أصاب الحكومة بالشلل، وأدى كذلك إلى حادثة الطيونة وما نتج عنها من رد فعل دموي من قبل “الأهالي” في عين الرمانة، على عكس الرد الذي كان في غزوة “الجميزة” المشابهة، والذي إقتصر الرد فيها على العصي والسلاح الأبيض يومها؟

تحييد لبنان عن الصراع السعودي – الإيراني أقله في الوقت الحاضر لتمرير الإنتخابات النيابية والتي أصبحت الممر الوحيد للخروج من الأزمة

وذلك بهدف زيادة الضغط على حكومة نجيب ميقاتي، التي تعتبرها حكومة حزب الله لتخلق له ولراعيته إيران إرباكاً، وهو ما تجلى في مسارعة الحكومة اللبنانية إلى طلب مساعدة أميركا وفرنسا، لتدارك الموقف مع السعودية ومِن ورائها دول الخليج العربي، في موقف سوريالي ليس غريبا على السياسة اللبنانية، إذ في الوقت الذي يرفض حزب الله وأتباعه تصرف السعودية، ويعتبرونه إنتهاكا للسيادة وتدخلا فاضحا في الشؤون اللبنانية، نرى القائم بالأعمال الأميركي يشترك في إجتماع خلية الأزمة التي شكلت لمعالجة تداعيات الأزمة، من دون أن ينبس حزب الله ببنت شفة، في الوقت الذي توالت فيه الأنباء بأن أميركا وفرنسا، طلبتا من الرئيس نجيب ميقاتي عدم الإستقالة تحت وطأة هذه الأزمة، فهل يكون التدخل الأميركي والفرنسي وتاليا العربي، جزءا من لعبة عض الأصابع وحل الأزمة بما يريح السعودية ،ويحفظ ماء وجه الحكومة اللبنانية وراعيها حزب الله، في مقابل تحييد لبنان عن الصراع السعودي – الإيراني أقله في الوقت الحاضر، لتمرير الإنتخابات النيابية في الربيع المقبل، والتي أصبحت هي الممر الوحيد المتاح للخروج التدريجي من الأزمة التي تعصف بلبنان، في ظل هذا الإنهيار الإقتصادي والمالي الذي يعانيه؟ أم أن إيران وحزب الله سيذهبان بهذه اللعبة (عض الأصابع) التي يجيدونها إلى آخرها، وهم من أثبت طوال السنين الماضية عبر التعطيل المتعمد، بأن مصلحة لبنان واللبنانيين، ليست سوى ورقة على مائدة التفاوض الإيرانية مع العالم والمحيط، وبالتالي فإن الأصابع اللبنانية هي التي ستدمى في هذه اللعبة، وما الوضع المزري الذي يعيشه لبنان جراء كل هذه المغامرات، إلا الدليل الدامغ على ما نقول ونعتقد.

كلها أسئلة مطروحة ومشروعة ومنطقية في ظل التطورات المتسارعة في المنطقة، منذ تولي الرئيس الإيراني الجديد زمام الأمور في إيران، وهو المقرب جدا من المرشد علي خامنئي، ما يجعل الأمور أكثر وضوحا في التعامل، مع محادثات الملف النووي المتعثر حتى الآن على الأقل، بسبب موضوع العقوبات، ومع ملفات المنطقة الساخنة والملتهبة وكلها ملفات عربية للأسف تمس مصالح ومستقبل الشعوب العربية ومصيرها، في ظل التشتت العربي، الذي يبدو وكأنه بات أمرا طبيعيا وعاديا وقدرا لا يرد.

السابق
تعليق إماراتي جديد حول الأزمة مع لبنان.. هل تسحب جميع رعاياها؟
التالي
ميقاتي يلتقي ماكرون وميركل.. هذا ما تم الإتفاق عليه!