سعد الحريري..«البيت المفتوح» على خيارات «أحلاها مرّ»!

ياسين شبلي
بعد إنسحابه الأخير من عملية تشكيل الحكومة اللبنانية، ودعمه نجيب ميقاتي لهذه المهمة التي "نجح" في إنجازها مؤخرا، عاد الحديث مجدداً عن "قرار" بإقفال بيت سعد الحريري السياسي ، وآخر - أكثر تواضعا ربما - عن نهاية سعد الحريري السياسية، كما جرت العادة عند كل منعطف سياسي ووطني في لبنان، إذ تتوجه الأنظار لهذا الرجل سواء من مريديه أو من خصومه.

إذا كان من الطبيعي والمفهوم، أن تتجه أنظار مؤيديه نحوه، لسبر أغوار موقفه وتوجهاته السياسية، تجاه الوطن والطائفة الذي يمثل والتيار الذي يرأس، فما هو غير مفهوم هذا الإصرار من الخصوم، وقبلهم بعض الحلفاء السابقين، على “نعيه السياسي”، في كل مرة يخرج فيها من السلطة، لدرجة بات الأمر يبدو وكأنه أمنية لديهم أكثر مما هو واقع أو رأي سياسي، ناتج عن تحليل موضوعي للظروف والأحداث السياسية. 

لا يختلف إثنان على أن الوضع السياسي للحريري – كغالبية التيارات والأحزاب اللبنانية بعد ثورة 17 تشرين وتداعياتها – صعب وحرج على المستوى العام والخاص، عما كانه في بداياته السياسية، لكن في الوقت عينه فإن هذا الوضع ليس بجديد، وهذه ليست المرة الأولى التي يواجه فيها الرجل هذه الأوضاع، فالحريري الإبن واجه منذ العام 2008، سلسلة من العثرات و “الإنقلابات” من الخصوم والحلفاء على حد سواء، أبعدته لفترات متفاوتة عن مناصريه وبلده، ولكنه كان في كل مرة يعود أقوى، عندما تصل الأمور إلى الحائط المسدود.

وكأنه طوق نجاة للبلد مُرَحبَاً به من الخصوم قبل الحلفاء، لتكون عودته بداية حل ومسار جديد، حصل ذلك في العام 2013 بعد إستقالة حكومة ميقاتي الثانية، التي كانت حكومة “الإنقلاب” عليه يومها، عاد تحت شعار ربط النزاع مع حزب الله، ونتج عن عودته تلك تشكيل حكومة تمام سلام، وتكرر ذلك في العام 2016.

لا يختلف إثنان على أن الوضع السياسي للحريري – كغالبية التيارات والأحزاب اللبنانية بعد ثورة 17 تشرين وتداعياتها – صعب وحرج على المستوى العام والخاص

وكانت العودة تحت شعار التسوية الرئاسية، التي إنتهت به وبالبلد إلى ما يكابده اليوم.البداية كانت بإنقلاب 7 أيار الدموي، الذي تم بسلاح حزب الله وحلفائه، والذي نتج عنه بدايةً “إتفاق الدوحة”، الذي كان ترجمة سياسية لموازين القوى العسكرية، وإنسحاب وليد جنبلاط بعد حوالي العام من تحالف 14 آذار، ما كان إيذاناً بإنفراط عقد هذا التحالف رغم فوزه بالإنتخابات النيابية يومها.الإنقلاب الثاني كان عام 2011، عندما كان رئيساً للحكومة، وأثناء إجتماعه مع الرئيس الأميركي يومها باراك أوباما في البيت الأبيض.

إقرأ أيضاً: حكومة ميقاتي «بين ناريْ» صندوق النقد وصناديق الاقتراع

وجاء هذا الإنقلاب، (الأبيض بالمعنى السياسي، ومن ثم تحول لدى تشكيل الحكومة الجديدة إلى أسود، عبر سلاح القمصان السود)، وأيضاً على يد حزب الله وحلفائه، جاء كردة فعل على فشل إعادة إحياء السين – سين يومها، وإن كان قد أعطي له كذريعة ما سمي شهود الزور، الذين لم يظهر لهم بعدها من أثر على الساحة السياسية، وكانت نتيجة هذا الإنقلاب، أول إنقسام على الساحة السنية بعد العام 2005، عندما قبل نجيب ميقاتي الحلول مكان الحريري كرئيس حكومة الإنقلاب. 

الإنقلاب الثالث كان هذه المرة، من الراعي الإقليمي المملكة العربية السعودية ، عندما “أُستقيل” الرجل وهو في الرياض في بداية شهر تشرين الثاني من العام 2017 ، وكانت محاولة فعلية لإقفال بيته وإقصاءه نهائيا عن المشهد السياسي، ومحاولة فرض بديل عنه من العائلة لدى الطائفة السنية، التي رفضت بدعم وطني لبناني ودعم فرنسي يومها، هذا المخطط ما أدى إلى إحباطه، وإن ترك ندوبا عائلية وسياسية ووطنية لم تندمل بعد. عائلياً برز الشقيق الأكبر بهاء كمنافس سياسي شرس، مدعوما بإمكانيات مالية ضخمة، ما سمح له بإقامة صرح إعلامي ضم الكثير من الإعلاميين، الذين كانوا في عداد فريق سعد الحريري الإعلامي، قبل أن يضطر إلى تصفية مؤسساته الإعلامية التي كانت تمثل قوة ناعمة له كتلفزيون وصحيفة المستقبل. 

الإنقلاب الثالث كان من الراعي الإقليمي المملكة العربية السعودية عندما “أُستقيل” الرجل وهو في الرياض في بداية شهر تشرين الثاني من العام 2017

سياسيا،كان هذا الإنقلاب القشة التي قصمت ظهر العلاقة غير المستقرة أصلا، بين تيار المستقبل من جهة والقوات اللبنانية، وبعض شخصيات 14 آذار كفارس سعيد مثلا، وبعض الشخصيات السنية كأشرف ريفي ورضوان السيد وغيرهم من جهة أخرى، ممن كانوا قد وقفوا ضد خياره بالسير في التسوية الرئاسية مع التيار الوطني الحر، التي أوصلت ميشال عون إلى سدة الرئاسة الأولى كما هو معروف. وطنيا، أضعف هذا الإنقلاب سعد الحريري أمام شركائه في التسوية والحكم، وبدا وكأنه بات مديناً لهم بعودته الشخصية والسياسية إلى لبنان، وباتوا يتصرفون معه على هذا الأساس، على إعتبار أنه أصبح دون غطاء إقليمي يحميه، وهو أمر أضر به شخصيا وبلبنان في نهاية المطاف، حتى جاءت ثورة 17 تشرين ل “تحرره” من هذا الواقع، فكان أن تلقفها وأعلن إستقالته.

وهذا ما جلب عليه غضب العهد ورعاته، الذين لم ينسوا له هذا الموقف فكان الإنقلاب الرابع والأخير – حتى الآن على الأقل – وهو ما حصل مؤخرا، من دفعه للإعتذار بعد تسعة أشهر من تكليفه تشكيل حكومة جديدة، تحت سقف المبادرة الفرنسية، وما واجهه من عراقيل وممارسات، تعمدت الإساءة له شخصيا ولدوره السياسي والوطني، من قبل رئيس الجمهورية وفريقه السياسي، مدعوما طبعا وبلا شك من حليفه وولي نعمته السياسية حزب الله، أي نفس الفريق الذي نفذ ضده الإنقلابين الأول والثاني، وهو ما أوحى للبعض ربما بفكرة إقفال بيته وإعلان قرب نهايته السياسية. 

كل ما سبق لا يعني تبرئة سعد الحريري  ولا يهدف لإظهاره بمظهر المستهدف دائما بالمؤامرات، فما حصل يدخل في إطار الصراع السياسي، وإن تم في بعض الأحيان بوسائل غير مشروعة، إلا أنه يبقى ضمن الفعل ورد الفعل، على مواقف وقرارات إتخذها سعد الحريري، سلبية كانت أم إيجابية، وهو مسؤول عنها وعن ما وصل إليه الحال  سواء على المستوى الوطني أو على المستوى الحزبي الداخلي، أو حتى على المستوى الشخصي.   

اليوم وبعد كل هذه التجارب والصراعات التي أوصلت البلد إلى الحضيض، وجعلت من لبنان دولة فاشلة بإمتياز.تأكد المؤكد، وهو بأن البلد يُحكم كما قبل العام 2005  من قبل وصاية خارجية، لها وكلاء في الداخل ينفذون أجندتها، كما تأكد بأن التعايش الجدي المفيد للبلد والناس، مع العهد وتياره وحليفه حزب الله، بات غير ذي جدوى في ظل الظروف الحالية، من هنا وفي ظل هذه القناعة ونحن على أبواب الإنتخابات النيابية – إذا تمت – وفي ظل الإنهيار الذي ضرب كل مناحي الحياة في البلد، وأثرت على غالبية الناس ونظرتها لأركان السياسة والسلطة، يبرز السؤال التالي .. ما هي خيارات سعد الحريري للإستمرار في العمل الوطني والسياسي؟

التجارب والصراعات التي أوصلت البلد إلى الحضيض وجعلت من لبنان دولة فاشلة اكدت أن البلد يُحكم كما قبل العام 2005  من قبل وصاية خارجية

 الحقيقة أن أمام سعد الحريري خيارات ثلاثة، وهي خيارات صعبة أحلاها مر بالنسبة له شخصيا، وللمكون الذي يمثل في البلد، خاصة أنه وبإستثناء علاقته مع الرئيس نبيه بري اليوم، نجد أن علاقاته السياسية الداخلية ليست على ما يرام، فهي مقطوعة أو تكاد مع كل من حزب الله والتيار الوطني الحر  وكذلك مع القوات اللبنانية، وغير مستقرة مع الحزب التقدمي الإشتراكي ، فضلاً عن علاقاته ضمن الطائفة التي يمثل، والتي يكثر فيها الطامحون لخلافته، من دون أن يقدموا بديلا مقنعا، وهذا التباعد مع الآخرين  في العمل السياسي، يعتبر فشلاً بشكل أو بآخر في بناء علاقات مستقرة، بغض النظر عن المواقف السياسية للأطراف الأخرى، لأن السياسة هي فن الممكن  وفن إقامة العلاقات وحسن إدارتها. أول هذه الخيارات كان قد تبناه الرئيس الشهيد رفيق الحريري، وقبله وليد جنبلاط مع سلطة الوصاية السورية، وهو  التعايش والمهادنة، وهو الخيار الذي إعتمده نسبيا الرئيس سعد الحريري في المرحلة السابقة، إبتداء من إتفاق الدوحة مع إختلاف الظروف المحلية والإقليمية وحتى الدولية.

ولذلك لم يصل إلى نتيجة مرضية، فالرئيس الشهيد رفيق الحريري كان يتحرك تحت مظلة الإتفاق السعودي – السوري، وبغطاء دولي في ظل ظروف دولية مؤاتية بداية التسعينيات من القرن الماضي، ومع ذلك لم تكن التجربة سهلة وعانى منها الأمرين، إلى أن دفع حياته ثمنا لتغير التحالفات والظروف في المنطقة، فكيف والحال هذه مع سعد الحريري، وهو اليوم دون أي غطاء إقليمي ولا إتفاق يحل محل السين – سين، ولعل من سخرية القدر بأن طرفي السين – السين اليوم، هم أكثر من يحارب سعد الحريري، بحيث إختلفا على كل شيء تقريبا..

وإتفقا على مصادرة أملاكه في كل من الرياض ودمشق، ويحاولان مصادرة دوره السياسي والوطني، وإن لأهداف مختلفة. الخيار الثاني هو خيار المواجهة، وهو خيار سبق وإعتمده ضده حزب الله بعد حرب 2006،  بحيث بدأت المواجهة سياسية، بإنسحاب المكون الشيعي من حكومة فؤاد السنيورة، وإنتهت عسكرية بأحداث 7 أيار 2008 وما تبعها من تغييرات، هذا الخيار له شعبيته وقد يشد العصب المذهبي، ولكن له محاذيره أيضا، وهو غير سهل في ظل موازين القوى السياسية الحالية، وهو بحاجة لدعم شعبي وخبرة في التنظيم والحشد.

من سخرية القدر بأن طرفي السين – السين اليوم هم أكثر من يحارب سعد الحريري بحيث إختلفا على كل شيء تقريبا..

ولا أعتقد بأن تيار المستقبل قادر وحده عليه في الظرف الراهن، عدا عن أن المواجهة قد تتطور لصدام في الشارع، وهو ما حاول دائما سعد الحريري أن يتجنبه طيلة السنوات الماضية، وعقد كل الإتفاقات من ربط النزاع مع حزب الله، إلى ترشيح سليمان فرنجية للرئاسة، وصولا إلى التسوية الرئاسية مع التيار الوطني الحر تحت هذا العنوان ، فهل يستطيع سعد الحريري هو نفسه الإنقلاب هذه المرة على نفسه؟

وإن إستطاع – وهذا مستبعد – فهل هو قادر على المواجهة في ظل موازين القوى؟ الخيار الثالث المطروح هو خيار سلكته القوى المسيحية، مع بدء تطبيق إتفاق الطائف  خاصة بعد إنهاء تمرد ميشال عون يومها على الشرعية، ومغادرته لبنان لاجئا في فرنسا، قبل أن تعود بعد العام 2005 وتستعيد مواقعها تدريجيا، وهو خيار المقاطعة والإنكفاء، الذي أعتُمِد في إنتخابات العام 1992، بحيث قاطعت القوى المسيحية الرئيسية الإنتخابات.

فكان أن خرجت من الساحة  ليحل بدلا عنها شخصيات مسيحية فاز البعض منها يومها ب 40 صوتا، وهو خيار مكلف سياسيا وربما أمنيا، وهو ما حصل مع القوات اللبنانية وقائدها سمير جعجع في العام 1994، بحيث أتهم بداية بتفجير كنيسة سيدة النجاة في جونية، لتفتح بعدها ملفات الحرب الأهلية ضده، دون سواه من زعماء الميليشيات، بحيث دخل السجن وأمضى فيه 11 عاما، لتخلو الساحة لشخصيات مسيحية، بعضها كان يمثل ثقلا شعبيا بلا شك، ولكن أكثرها كانت شخصيات ضعيفة وتابعة لسلطة الوصاية، والأهم أن الوضع المسيحي تضعضع ولم يعد قادرا على فرض ثقله السياسي. 

فما الذي يمنع اليوم، إذا ما أعتمد هذا الخيار من قبل سعد الحريري بأن لا تحل ملفات “الفساد” – ولن تعدم السلطة وسيلة لنبش بعضها – محل ملفات الحرب الأهلية لتصفية الحساب، مع ما يسميه الخصوم “الحريرية السياسية” .

فهل يتحمل سعد الحريري سلوك هذا الخيار – المغامرة، وتداعياته عليه شخصيا وعلى من يمثل سياسيا ومذهبيا، بإنتظار تغييرات قد تحصل في المشهد الإقليمي، قد تعيد بعض التوازن للمشهد السياسي الداخلي، وهل  البيئة التي يتحرك ضمنها قادرة على التحمل والصمود والثبات في ظل ظروف إقليمية حالية غير مؤاتية؟

ثلاثة خيارات صعبة وغير مضمونة العواقب، ،أحلاها مر، لأن مصير البلد والناس في الميزان، فالتعايش من دون مظلة أمان إقليمية ودولية، تضع ضوابط لهذا التعايش، سيتحول إلى إستسلام وتزكية، لكل الممارسات المسيئة للبلد داخليا وخارجيا، ما سيبقيه منبوذا في محيطه وعاجزا عن إطلاق عجلة نموه، والمواجهة أيضا قد تتحول في لحظة، إلى صراع إقليمي شرس كما في سوريا واليمن، يدفع ثمنه الشعب اللبناني الذي لم يعد يحتمل المزيد، كذلك الإنكفاء يعني تسليم البلد والناس وتركهم لمصيرهم. فأي الخيارات سيعتمد سعد الحريري ؟ وهل ستحمل طريقة إدارة الإنتخابات النيابية ونتائجها الجواب.

المواجهة أيضا قد تتحول في لحظة إلى صراع إقليمي شرس كما في سوريا واليمن يدفع ثمنه الشعب اللبناني

وهل سينجح سعد الحريري بفرض نفسه مرة جديدة لاعبا على الساحة بإمكانياته الذاتية، ودون غطاء إقليمي، لا بل في جو من الحصار السعودي عليه – إذا صح التعبير – ؟

من يعش يرَ ، وسيترتب الكثير من الأمور على أدائه في الإنتخابات النيابية ونتائجها، خاصة وأن العهد العوني قد شارف على الإنتهاء، ولم يبق له في الحكم سوى حوالي العام، وهذا قد يكون أحد عوامل تخفيف الإحتقان في البلد، أن لم يحصل ما يقلب الأمور رأساً على عقب.                   

السابق
حوادث سير بالجملة وعداد الموت العبثي يرتفع..وفاة طفلة و14 جريحاً!
التالي
وفيات كورونا لا تزال مرتفعة..9 ضحايا جدد و500 إصابة!