سيرة حياة المخرج الراحل برهان علوية… صاحب الكاميرا الرافضة احتلال فلسطين والحرب اللبنانية

برهان علوية

أذكر أنني، ومنذ زمن بعيدا جداً، طبعاً، كتبت مقالاً متعلقاً بسينما برهان علوية. ولقد حمل ذلك المقال عنواناً ينضح بالرفض المطلق، لأن يكون الإنسان (أيّ إنسان كان)، ضحية إجرام عبثيّ. إذ كان عنوان المقال، الذي يلخص مضمونه، هو الآتي: “لا الكاميرا”.

إقرأ أيضاً: يودع بيروت عن بعد.. رحيل المخرج السينمائي برهان علوية

وهذا هو الرفض عينه، الذي تميزت به كاميرا برهان علوية الإخراجية، في إبداعه السينمائي كله. فهذا المُخرج اللبناني المبدع، الذي أثبت أنه أحد صنّاع السينما اللبنانية والعربية الكبار، من خلال مابثّه من أفكاره الإخراجية الجريئة والمتفرّدة بكل مفرداتها الخصوصيّة، على الشاشة الذهبية للفن السابع. هذه الأفكار الفنية، التي طبعها، صاحبها بطابع مقته الشديد نوعين من الإجرام، على وجه الخصوص: النوع الأول لهذا الإجرام كان عماده احتلال فلسطين؛ وكان نوعه الثاني عماد الحرب الأهلية اللبنانية.

من الهوشلة وصلي الدبق إلى رحلة “الاختلاف مع الآخر” في لبنان كله وصولاً إلى حلم عبد الناصر

ولقد رحل برهان علوية عن عمر ناهز الثمانين عاماً، إثر تعرّضه لنوبة قلبية مفاجئة، في التاسع من أيلول/سبتمبر 2021، في بروكسل حيث كان يقيم، منذ أكثر من عشر سنوات وفي مناسبة رحيله، نعيد، هنا، نشر حوار خاص يتضمن سيرة حياة برهان علوية، وكان قد أجرى هذا الحوار، كاتب هذه السطور، لمجلة “شؤون جنوبية” في الـ2007 (ظهر في عددها الشهري الـ64/ آب) تحت عنوان: “برهان علوية: هذا مشهد حياتي”.

بحيث تصدّر غلاف العدد، عنواناً رئيساً (أوّل)، على النحو التالي: “المُخرج برهان علوية يحكي مشهد حياته”.

برهان علوية: هذا مشهد حياتي

ما معنى أن يكون الإنسان المبدع فوق إبداعه؟ سؤال تتطلب الإجابة عنه شرحاً لا ينتهي؛ لكن الحديث التالي، الخاص بـ”شؤون جنوبية”، والذي هو خلاصة لقائنا مع المخرج السينمائي برهان علوية، يقدم إجابة صريحة ولافتة في هذا المجال، ما يجعلنا نكتشف سرّ تمكن واقتدار هذا الرجل من السيطرة المحكمة على صُنْعته التي هي أسيرته (ذليلته)، وليس العكس. وهذا يناقض بوضوح – كما نرى – كثراً من المبدعين الذين لا يرون أنهم يساوون شيئاً على الإطلاق، من دون إبداعاتهم.

سُئل المخرج المصري الشهير يوسف شاهين يوماً (وكان السائل لبنانياً طبعاً)، لماذا لم تعمد إلى إخراج فيلم سينمائي عن لبنان؟ فأجاب، فوراً: عندكم برهان علوية وتتوجهون إليّ أنا بهذا السؤال؟ سألت الأخير: “باختصار شديد، من هو برهان علوية؟ فقال: “أنا شيء بين الإنسان والجان، أعيش بين موتين: الموت الماضي الذي هو النوم، والموت الآتي الذي هو الحُلُم (المنام)، هذه هي حياتي”.روى برهان علوية مشهدية حياة مرسومة بالكلمات إذ قال: ولدت في العام 1941 في بلدة أرنون قضاء النبطية، طفولتي كانت متنقلة كثيراً، وهذا عائد، إلى أن والدي كان في سلك الدرك، إذ كانت وظيفته تحتم عليه الانتقال إلى غير منطقة من لبنان، وكان، بدهيّاً، يصطحب أسرته معه من مسقط رأسي، إلى بعض الجنوب، كجويا والنبطية (حيث الأجواء العاشورائية في هذه الأخيرة، في شهر محرّم هناك كانت شيئاً مدهشاً بالنسبة لي).

طريق العقل سلكته إلى السينما وتركت طريق العواطف واكتشفت أن السينما ليست طريقاً للتغيير، إنما هي “هدف”

إلى بعبدا، إلى بيت الدين في جبل لبنان إلى البترون في الشمال ومناطق أخرى، ثم انتهت بنا الإقامة أخيراً في العاصمة بيروت، لكن ما كان ثابتاً، هو تمضيتنا للصيفية في الجنوب. بداية في قرية “الغندورية” في بيت جدي لأمي، ولاحقاً في “أرنون” حيث كنا نستمتع بالذهاب إلى ضفاف نهر الليطاني ومحيطه، وجسر الخردلي وقلعة الشقيف.وكان ذلك – على وجه الإجمال – في مناخات “صَلّي الدبق والفخوخ للعصافير، وملاحقتها، و”الهوشلة”، مع أترابي في الحقول، حيث كان يصاحب ذلك – أحياناً، وفي بعض الشتاءات أيضاً – “طقوس”، زارعي التبغ وأغنياتهم الحميمة التي كنا ننسجم معها، أيّما انسجام.

تنوع قاتل

انتقالاتنا القسرية، مع والدي، من مكان إلى آخر في لبنان، جعلت دراستي غير مستقرة، ولا أدري، أكان ذلك لي، مدرسياً، عامل تعليم أم عامل تجهيل، وكان لا بد لتلك التنقلات من أن تعطيني، إحساساً عميقاً بلبنان ككل، وبالرغم من أنها كانت تعرّفني إلى أصدقاء جدد، إلا أنها، بالمقابل، كانت تولّد عندي إحساساً أكيداً بالاختلاف عن الآخر، ومع أنه لم يكن اختلافاً مزعجاً في الظاهر، إلا أن الإزعاج كان محسوساً، فالتنوع اللبناني الذي يتغنون به “مناسباتياً”، لم يكن – وعلى نحو ما نشهده الآن أيضاً – سوى تنوع قاتل بالفعل، أي أنه نقمة وليس نعمة، كما يُصوّرُ إبهاماً مضللاً في بعض الأحيان، لأنه عدائي ليس إلا، إذ أنه كان يُشعرنا، ومن خلال احتكاكنا بالآخر، بأننا “أقليات” في الوسط “المختلف” الذي كنا نُقيم فيه، أي كنا نلمس الفرق الواضح والأكيد بين الطوائف اللبنانية؛ إنني عشت، منذ صغري هذا التنوع البشع في “حلوه ومرّه” والذي لم يكن مريحاً، يوماً، لأنه يشعرك بأنك غريب، لأنك ابن منطقة أخرى، وطائفة أخرى.

لا “أباً” سينمائياً لي وأعمالي أرمقها الآن بنظرة اللامبالاة، تماماً

إن شخصية جدي لأمي الحاج داوود غندور (والتي سُميت على اسمه مزرعة الغندورية) كان لها تأثير كبير على شخصيتي، فقد كان رجلاً ذو بأس، وكان يغمرني بحنان كبير في طفولتي ومراهقتي، وفي تلك السنوات وكان الشعور بالقومية العربية في أوجه، “نفخ” فينا الأهل والأقارب “الحُلم الجماعي” الذي تجسد في قيادة الرئيس المصري جمال عبد الناصر.

أكلته القبائل

ما بين عامي 59 – 1963، كنت أواظب على دراستي نهاراً، وأعمل ليلاً في تلفزيون لبنان، وبعد حيازتي لشهادتي البكالوريا والفلسفة في ذلك العام، لم أدخل إلى الجامعة حيث تسجلت لدراسة الحقوق والعلوم الاقتصادية، بل تركت لبنان، قاصداً “الكونغو” على أمل اللحاق بصديقي، الذي سافر قبلي، بفترة وجيزة، بهدف الانخراط في حركة التحرر الوطني، التي كانت قائمة هناك، وبعد مرور عام كامل كانت الحرب الأهلية في الكونغو، في عزّها، عندما سُلِّم “لومومبا” (عميل الاستعمار) إلى قبائل “البيغمة” التي أكلته.

لم أعثر لصديقي ذاك على أي أثر، وأمضيت أربع سنوات متنقلاً – مع قلة المال طبعاً واشتداد وطأة الحاجة عليّ – ما بين مناطق إفريقية عدة وصولاً إلى الهند، من دون هداية، ومن دون هدف.في تلك المرحلة الصعبة في حياتي، أعترف بأنني لحقت “غير المفيد” على الإطلاق، لكنني تعلّمت من هذا الـ “غير المفيد” أكثر من أي شيء آخر في حياتي، ذلك أنني، كنت أستوعب – تماماً – ذاك الذي كان يجري من حولي، أكثر مما كنت أفكر فيه.

المفيد يعيد صياغة الشخصية

عدت إلى لبنان في 1967، وقد قابلتني الهزيمة العربية، وكما قيل “النكسة” و”الوكسة” وفي تلك الفترة، مارست أكثر من عمل تجاري في حدود إمكانياتي المادية طبعاً، لكني – ومن جديد سافرت إلى فرنسا، قاصداً تعلُّم الفن السمعي – البصري: التلفزيوني والسينمائي وهنا أذكر، أن عالم السينما قد استحوذ عليّ عن طريق العقل، وليس العاطفة، أي كان اختياري، في هذا المجال، اختياراً عقلانياً وبعد تفكير معمق.

وبعد مضي عدة أشهر من وصولي إلى فرنسا، وبعد تعرّفي إلى المعهد الذي سأدرس فيه أصول السينما، قامت ثورة طلابية هناك في العام 1968، ضد المجتمع الاستهلاكي، هذه الثورة الفكرية الكبيرة، ولّدت لدي صدمة كبيرة نبهتني إلى معرفتي بنفسي، على نحو بعيد، أي أنها صاغتني، صياغة أخرى جديدة، ومختلفة بتوليدها لدي، السؤال  الكبير والعميق في آن معاً، “من أنا”؟!، وهنا بدأت بإجراء جردة كلية لحياتي كلها، عملياً، ما أدخل تفكيري  في “المفيد” بالمطلق، ما كان من نتيجته الحاسمة دخولي عالم السينما في المعهد على وقع أفكار تلك الثورة الطلابية، إذ أنني كنت أعتبر السينما سلاحاً نضالياً كبيراً، مع اعتباري الأساس – يومها – أن الثورة الفلسطينية هي المدخل الحقيقي إلى التحرر العربي بكامله (إلغاء القبائل… الطوائف…) أي التكملة الضرورية للفكر الناصري الاشتراكي العلماني… إلخ.

صديقي سافر قبلي إلى “الكونغو” للانخراط في حركة التحرير الوطني، وانتهت الحرب بتسليم “لومومبا” فأكلته قبائل “البيغمة”!

بعد ذلك، تطورت أفكاري، وما أريد قوله هنا، أن السينما، كانت بالنسبة إلي، وسيلة مُثلى، من أجل إحداث التغيير إلى الأفضل؛ لكني – فيما بعد – تيقنّتُ مما لا يدع مجالاً، لأي شك، يُذكر، أن السينما ليست وسيلة للتغيير، أو لغير ذلك، بل إنها هدف، قائم بحد ذاته يُحدِثُ ما هو أكثر من أي شيء، يمكن أن نتصوره، لأنه في الأساس ذاكرة، ونقل معرفة، وأهم شيء في ذلك، أن السينما هي ذاكرة الغد.

الفن ليس ملجأ

وما أقوله في مجالي السينمائي، جملةً يتخلص بالآتي: لأنني إذا ما أردت أن أنظر إلى معاني حياتي كلها، أجد أن معانيها، خارج أفلامي، بمعنى أنني أعتقد، أن حياة السينمائي أو أي فنان، هي أهم من إبداعاته، فحياته هي المُبدع الأكبر، ولكن المشكلة حقاً هي: أن أعماله تبقى وحياته تُفنى، نعم، إن حياة الإنسان، أهم من إبداعاته وأعماله، فلا أظن أن الفن ملجأ.لقد أخذت السينما مني، أكثر مما أعطتني حقاً، بمعنى أن الفيلم، إذا ما أنجزته، أم لا، فإنني أكون قد عشته كفكرة، وأقول لك صراحة: إن أفلامي، التي لم أنجح في صناعتها، هي أهم بكثير من التي صنعتها وهذا راجع إلى أننا، نحن أبناء التخلّف، الذين نعتبر أن السينما – عموماً – هي شيطان الوسواس الخناس الذي يوسوس في صدور الناس، ذلك، لأننا نعتبر أن الخيال جريمة. فأحياناً كثيرة، نُسجن، لأننا نتخيلّ.

فالخيال حرّ مطلق، قد يُخطئ وقد يصيب، ونحن لا نعترف إلا بما هو ليس خطأ اليوم، لأن ما نعتبره خطأ اليوم، يمكن أن يكون الحقيقة غداً، وما لنا، إلا أن نراجع خيباتنا الجماعية والفردية، لنعرف كم كنا مخطئين، حينما كنا متيقنين.أنا ابن الشك، ولست ابن اليقين، ذلك الشك المفضي إلى حقيقتي أنا.

إني أبحث اليوم عن ذاتي، وأراني في هذه الأيام، مغرم بالفضاء، والفضاء هو داخلي وخارجي والفضاء الداخلي، هو الأعمق، وليس الفضاء الخارجي، سوى إشارات للفضاء الداخلي.هل حققت، ما كنت أطمح إليه سينمائياً؟ أقول: لا، لأن في بلداننا، تقترب السينما من الجريمة، وكم من الأفلام حُرّمت، وكم من المخرجين كُفّروا، وكم من الكتب أُحرقت… إلخ… إلخ.

وفي النهاية أقول: إن الحرية المطلقة في مجتمعاتنا، هي جريمة، لأنها تكشف عيوبنا ونحن “كاملون”، لا نريد أن نرى شيئاً، إلا كمالنا، خصوصاً، وأننا خير أمة أُخرجت للناس.

إضاءة

حقق برهان علوية أفلاماً سينمائية روائية ووثائقية عدة، منها:

– “كفرقاسم”.

– “بيروت اللقاء”.

– “خلص”.

– والفيلم الوثائقي: “لا يكفي أن يكون الله مع الفقراء”.

– وفيلم: “رسالة من زمن الحرب”.

– وفيلم: “رسالة من زمن المنفى”.

– وفيلم: “أسوان والسدّ العالي”.

– عمل برهان علوية أستاذاً محاضراً في الجامعة اليسوعية في بيروت.

– واختير عضواً في لجنة مهرجانات قرطاج وكزابلانكا، وبروكسل وغيرها.

– نال جوائز عديدة.

– وتمّ تكريمه في عدة مهرجانات.

السابق
البنزين يكفي السوق لـ١٠ ايام فقط.. ولهذا السبب الطوابير باقية
التالي
عبد الحسين شعبان يكتب لـ«جنوبية»: المختفون قسرياً.. جريمة متمادية ضد الإنسانية