بين كذبة الأصوليات الدينية..وتصديقها!

الانتخابات الفلسطينية
وقفت في آذار1978، أمام جثمان كمال جنبلاط، وأجهشت في البكاء. بكيته كما بكيت والدي. أقسمت أن لا أنسى، وأن أظلّ وفيّاً لمدرسته، وأن أتعلّم أكثر من إغتياله. منذ تلّك اللحظة، تعمقت قناعتي بأنّ شعار العروبة كطريق إلى القدس، أكذوبة. وأدركت أكثر، أن ما يزرع القضيّة الفلسطينيّة في وجداني، سببه أنّها قضيّة ضمير وحقوق. وفهمت أنّ قضيّتي الأولى، هي وطني.

كنت كمعظم الشباب، أصدّق أنّنا قادرون على تبديل العالم والتغلّب على”الشّيطان الأكبر”، والقوى الظّالمة والإستعماريّة ألتي تدمّر أوطاننا. يومها، أدركت أنّ لا شيء أهمّ من وحدتنا الوطنيّة. لعنت القوميّة والقوميّات، والعصبيّة والعصبيّات، وصمّمت أن أعمل بكلّ قوّتي وطاقتي من أجل خدمة وطني. ولم أكن مخطئاً، فقد أثبتت الأيام أنّ وحدتنا الوطنيّة، هي وحدها قوّتنا.

العدو، بل الأعداء، وأصحاب المصالح، والذين يريدون إقناع شعوبهم بأنّنا أعداءهم، ويسعون ليل نهار لأن نجعلهم أعداءنا، يعملون على تقسيمنا. زرعوا التطرف الدّيني بيننا. فالتطرف الديني يجعل من كل آخر عدوا له. نجحوا في إقناع شعوبهم أننا أعداءهم. 

لم يكن الإستعمار الأنكلوسكسوني أو غيره، مهتمّا بإنشاء إسرائيل من أجل خدمة اليهود، بل للتخلّص منهم. لذلك، فإنّ الهجرة إلى فلسطين، بدأت منذ أن قام مارتن لوثر في إلمانيا.

اللّاساميّة مزروعة هناك. مارتن لوثر اتُهم بمعاداة السامية نتيجة لأطروحته The Jews and Their Lies . واللّاساميّة لا تعني العداء لليهود فحسب، بلّ أيضا لكل من هو من أصل سام، ونحن منهم. فقد تضمنت بعض أعماله لغة قوية وهجومية، تجاه أجزاء من المجتمع الألماني مثل اليهود وبدرجة أقل المسلمين. 

لم يكن الإستعمار الأنكلوسكسوني أو غيره مهتمّا بإنشاء إسرائيل من أجل خدمة اليهود بل للتخلّص منهم

إستفاد الإستعمار البريطاني من هذه المدرسة. وكذلك الأميركيون. وأنا أنقل هنا عن مقالة نشرت في الإمارات عام 2000، تؤكد أيضا على أن “الرئيس الأمريكي بنيامين فرانكلين، كان خاطب مؤتمر إعلان الدستور في فيلادلفيا سنة 1789 قائلا: [هناك خطر عظيم يهدّد الولايات المتّحدة الأميريكية، ذلك هو الخطر “اليهودي”.

أيها السادة. حيثما استقرّ “اليهود” نجدهم يوهنون من عزيمة الشعب، ويزعزعون الخلق التجاري الشريف. إنّهم يكوّنون حكومة داخل الحكومة. وحينما يجدون معارضة من أحد، فإنهم يعملون على خنق الأمة ماليا].  وقالت المقالة أيضا أن الرئيس فرانكلين “كان يشير إلى محاولات المرابين من الطائفة اليهودية وضع بنك أمريكا تحت سيطرة بنك انجلترا، الذي كان يرأسه الصهيوني المعروف آميشيل ماير روتشيلد، وما يعنيه ذلك من هيمنة يهودية على الاقتصاد الأمريكي”. 

أراد الفكر الإستعماري في الدول الغربية، زرع عامل تقسيميّ آخر بيننا، ونجحوا. بل نجحوا أخيرا بخلع كلّ رداء قومي عن قضايانا، وألبسوه ثوب الدين والطوائف. وقد إطلعت مع الأيام، كيف استغلّ الأنكلوسكسون، الأخوان المسلمين في مصر، ومن ثم في تركيا، من أجل القضاء على النهضة الإستقلاليّة في الدول العربية، وكذلك بغية تقسيم السنّة دينيا في مواجهة وهابيّة السعوديين. هم لم يأبهوا لدور الأخوان في حربهم عام 1948 ضد إسرائيل، ولا لدور تركيا في دعم حماس، لأنهم يدركون أنّ إسرائيل أصبحت قضية دوليّة، وذلك منذ أن نجحوا في وضعها بين أيدي الأمم المتّحدة كقضيّة صراع بين شعبين، ونجحوا في تحقيق قرار تقسيم فلسطين عام 1947.

إقرأ ايضاً: حارث سليمان يكتب لـ«جنوبية»: نحن الضحايا وانتم الجناة..نحن لسنا أنتم!

هم تأكدوا أنّ لا قوى دينية وخاصة إسلامية متطرّفة، يمكنها القضاء عليها، بل هي تزيدها رسوخا. ولولا أن حماس تقدم خدمة لإسرائيل. بعض المجموعات المتطرفة أيّدت وساهمت مع القوى الغربية “الإمبريالية”، بإقامة نظام الخميني في  هل ننسى فضيحة إيران-الكونترا لعام 1986؟ الفكر الإستعماري حمى شعار الأصوليّات الدينية سياسيا، لكنهم حاربوا نشاطها المسلّح حيثما لا يخدمهم هذا النشاط، معتبرينه أنشطة إرهابيّة. هم رفضوا وضع تعريف للإرهاب لكي يظلّ هذا التعريف خاضعا لمصالحهم السياسيّة، وليس إلى منطق القانون. 

وقد أكّدت لي الأيام، وخاصة بعد إثني عشرة سنة من الخدمة في أروقة الأمم المتّحدة، أنّه لا يمكن مواجهة إسرائيل إلا بالمفاهيم الحضاريّة والديموقراطية، وفي رفع وممارسة قواعد حماية حقوق الإنسان، ودائما في إطار النظام القانوني الدولي. لطالما استفاد من يرانا أعداءه من ممارسات الأنظمة العربيّة من انتهاكات لحقوق الإنسان.

فمن جهة كانوا يحمونهم، وربما هم الذين زرعوهم في السلطة، ومن جهة أخرى يشّهرون بهم لإثارة الكراهية ضد العرب لدى شعوبهم. آمنت بشعار يقول: “تريد حقوقك أذا يجب ان تحترم حقوق الآخر”. فرفعت هذا الشعار في وجه المندوب الإسرائيلي وأصدقائه في كل القاعات الأمميّة. لكنهم لم يكن يقبلون بذلك؛ لأنّهم كانوا يعلمون بأنّ اللجوء إلى منطق القانون سيكون نهاية، لغطرسة وعنصريّة وطموحات إسرائيل العدوانيّة، التي كانت تعزز من الشعارات الدينية الأصولية البغيضة عند شعوبهم الحضارية. 

كلّ من يرفع شعارات تطالب بإزالة إسرائيل من الوجود سواء كان متطرفا دينيا أو سياسيّاً لم يابه لأن يغتال التطرف الديني او السياسي في بلداننا كلّ معتدل

كان الفكر الإستعماري يحمي ضمنا كلّ متطرف، وكلّ من يرفع شعارات تطالب بإزالة إسرائيل من الوجود، سواء كان متطرفا دينيا أو سياسيّاً. لم يابه لأن يغتال التطرف الديني او السياسي في بلداننا كلّ معتدل،  فالمعتدلون في أوطانهم يضرونهم بينما طول بقاء كلّ متطرف يخدمهم. ولذلك لم يفاجئني ما نشره إلإعلام الغربي، وخاصة البريطاني والأميركي، عن عمالة زعماء عرب وقادة سياسين لبنانيين.

كيف يمكن لقوى ديالكتيكية وعلمانية متحررة أن تغفل عن حقيقة الدعم الضمني للفكر الإستعماري  لمثل هؤلاء الأصوليين وأسبابه الحقيقة؟

فممارساتهم لم تكن تخدم سوى الذين يريدون العرب أعداء لهم. ومن المضحك المبكي  أنّ القوميين ساهموا بهذا الأمر. هم أيضا يخضعون لمعادلة الدعم الغربي للقوى الناشطة في بلداننا، فمن يخدم مصالحهم يستمرّ ويتعزز، ومن لا يخدمها يزال من الطريق. ربما أنّهم يصدّقون الأصوليين برغبتهم بإزالة إسرائيل، لكنّني لا أفهم كيف أنّ قوى ديالكتيكية وعلمانية متحررة، يمكن أن تغفل عن حقيقة الدعم الضمني للفكر الإستعماري  لمثل هؤلاء الأصوليين، وأسبابه الحقيقة؟

لقد كان المطلوب دائما، أن ننسى القانون والمنطق الدولي، وأن نعود لاستخدام منطق العصور الماضيّة: الحروب الدينية. العالم يتقدم ونحن نتراجع. من يعتبرنا عدوه وجعلنا غصبا عنّا نراه عدونا، زرع في بلادنا الآفة التي دمرته مئات السنوات، وذهب الى المستقبل بطريق هانئة. ترى كم ستأخذنا نحن من سنوات قبل أن نستيقظ لإزالة هذه الآفة من بلداننا؟

السابق
حارث سليمان يكتب لـ«جنوبية»: نحن الضحايا وانتم الجناة..نحن لسنا أنتم!
التالي
خاص «جنوبية»: هذه نهاية محتكري الأدوية..قضائياً!