السعودية ولبنان: رمانة أم «قلوب مليانة».. من حافظ الأسد إلى رفيق الحريري 1/2

رفيق الحريري حافظ الأسد السعودية
بعد فترة من الركود، يعود الحراك السعودي إلى الساحة اللبنانية، عقب إجتماع روما الثلاثي بين فرنسا وأميركا والسعودية، على مستوى وزراء الخارجية.

عاد هذا الحراك من بوابة بكركي هذه المرة عبر الإحتفالية بمئوية العلاقات بينها وبين السعودية، ومن ثم بتوجه السفيرتين الأميركية والفرنسية إلى الرياض لبحث الأوضاع في لبنان  وإستكمال هذه المباحثات لدى عودتهما مع السفير السعودي وليد البخاري، وتوِّج هذا الحراك حتى الآن على الأقل بإجتماع معراب بين السفير السعودي والقوات اللبنانية، مع بعض الفعاليات الإقتصادية تحت عنوان “إعادة تصدير الأمل”، على خلفية منع السعودية لإستيراد المنتجات الزراعية والبضائع الأخرى من لبنان، بعد “موقعة” الرمان الملغوم بالكبتاغون، التي كشفت عنها الرياض والتي أفاضت الكأس السعودية، وجعلتها تتخذ قرار المنع، وإن بدا الأمر وكأنه ليس قضية رمانة بل قضية “قلوب سياسية مليانة”. 

قد يقول قائل بأن إحتفالية بكركي ولقاء معراب، كان لهما طابعا إحتفاليا ومعنويا في بكركي، وطابعا إقتصاديا وخدماتيا في معراب، وبالتالي لا يمكن إعتبارهما حراكا سياسياً، خاصة وأنه حراك في إتجاه واحد هو الجانب المسيحي اللبناني على غير عادة السعودية، في محاولة إظهار التوازن في علاقتها بالأفرقاء اللبنانيين.

كان يمكن أن يكون هذا الأمر صحيحا نسبيا، لو أن البلد يعيش حياة طبيعية كبقية دول العالم، ولكن للأسف في بلد كلبنان، لا يمكن أن تمر هكذا أحداث، دون أن تحمل رسائل سياسية كما يقول البعض، سواء للداخل خاصة للطرف السني المتمثل بتيار المستقبل والرئيس المكلف سعد الحريري، من أنها تعتبر القوات اللبنانية حليفها الرئيسي اليوم في لبنان، خاصة في هذه الظروف التي يحاول فيها جاهدا تشكيل حكومة، بينما يروج البعض بأن السعودية غير راضية على الأقل، إن لم تكن معارضة لتوليه هذه المهمة، أو للخارج سواء الدولي كفرنسا وأميركا وإيران، من أنها تدعم وتراهن على خيارات بكركي في الحياد، وكذلك موقف القوات الثابت والمعادي، والذي يكاد يكون متفردا في العلن، على الأقل في الوقت الراهن لسلاح حزب الله، أو العربي الذي يبدو داعما للحريري في مساعيه، كمصر ودولة الإمارات العربية المتحدة، التي تبدو وكأنها حلت محل السعودية كنقطة إرتكاز وإنطلاق للرئيس سعد الحريري، مع الأخذ بعين الإعتبار التباين الحاصل إن لم نقل الخلاف الإماراتي – السعودي الذي يطفو هذه الأيام على السطح، من بوابة أوبيك وحرب اليمن وغيرها من الأمور.  

السعودية دولة غير عادية في لبنان وهي من اللاعبين الأساسيين في الملعب السياسي اللبناني

ما يعزز هذه الفرضية – فرضية الرسائل السياسية – هو أن السعودية دولة غير عادية في لبنان، وهي من الدول التي لها كلمتها، ومن اللاعبين الأساسيين في الملعب السياسي اللبناني منذ بدايات  الحرب الأهلية اللبنانية، على الأقل التي إندلعت عام 1975، أي بعد أقل من سنتين على حرب تشرين بين العرب وإسرائيل، التي أستخدم فيها النفط لأول مرة كسلاح ما، أعطى للسعودية منذ ذلك التاريخ دورا أقليميا ودوليا مهما، خاصة وأنه ترافق مع تراجع المد القومي العربي بعد وفاة جمال عبد الناصر، وإتجاه خليفته أنور السادات إلى سياسة مغايرة، سواء على الصعيد القومي العربي، من خلال إنكفائه للداخل المصري وتبنيه أولوية سياسية وطنية مصرية، أو على المستوى الدولي، بإنهاء تحالفه مع الإتحاد السوفياتي، ونقله البندقية إلى الكتف الأميركي سياسيا وإقتصاديا، وكانت عبارته الشهيرة،  “أن 99 % من أوراق اللعبة في المنطقة هي بأيدي أميركا، وهو ما جعله يمشي في ركاب صديقه و “عزيزه” هنري كيسنجر، في البحث عن حل للصراع العربي – الإسرائيلي ، وكانت البداية في مفاوضات الكيلومتر 101 التي أسست لمعاهدة السلام مع إسرائيل فيما بعد، كما أدت لإنفراط العقد العربي، الذي أدى بدوره إلى الحرب الأهلية العربية على أرض لبنان بين المحور السوري – الفلسطيني بالإضافة لقوى اليسار اللبناني، مدعوما مما سمي يومها جبهة الرفض العربية المتمثلة بدول كالعراق وليبيا والجزائر واليمن الجنوبي، وبين المحور المصري – السعودي وبالتالي الخليجي وقوى اليمين اللبناني، وهي الحرب التي إمتدت على مدى 15 عاما، تبدلت خلالها التحالفات وتغيرت خارطة المنطقة، بحيث خرجت أطراف من اللعبة، كالمقاومة الفلسطينية بعد الغزو الصهيوني لبيروت.

ليستكملها النظام السوري بمعارك طرابلس والشمال ومن بعدها المخيمات الفلسطينية، ودخلت أطراف أخرى كإيران، عبر تأسيس حزب الله وتفويضه المقاومة ضد إسرائيل وحيدا لا شريك له، بعد أن تم التضييق ومن ثم القضاء على جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية، التي كانت تتكون من أحزاب كانت على علاقة وثيقة مع منظمة التحرير الفلسطينية، لتنتهي الأمور بإتفاق الطائف الذي كان نتاج تقاطع المصالح الدولية والإقليمية، فكانت تسوية سورية – سعودية برعاية أميركية، على أبواب مؤتمر مدريد للسلام بين العرب وإسرائيل الذي هيأت له أميركا.

في هذه الأجواء التوافقية إقليميا، بعد ضرب العراق وإخراجه من الكويت، وما تركه من آثار على لبنان، بحيث أنهت هذه التطورات تمرد ميشال عون، الذي قاده ضد الشرعية المنبثقة عن إتفاق الطائف، ودوليا مع إنهيار الإتحاد السوفياتي وإنفراد أميركا بالمشهد السياسي الدولي، بدأت مفاعيل الإتفاق السوري – السعودي بالظهور، حيث تصدر إسم رفيق الحريري المشهد السياسي، كرئيس للحكومة اللبنانية بعد أول إنتخابات نيابية تجري في لبنان في العام 1992، أي بعد 20 عاما على آخر إنتخابات نيابية أجريت قبل الحرب والتي كانت عام 1972.

هذه الإنتخابات التي قاطعتها أغلبية مسيحية، إحتجاجا على ما بدا وكأنه تطبيق غير سليم لبنود إتفاق الطائف، خاصة قانون الإنتخاب الذي نص على إعتماد المحافظة كدائرة إنتخابية، دون الأخذ بعين الإعتبار إعادة تشكيل المحافظات كما نص عليه إتفاق الطائف.

تولت السعودية عبر “وكيلها”  الرئيس الشهيد رفيق الحريري الإدارة الإقتصادية للبلد بينما تولت سوريا الإدارة السياسية الداخلية والخارجية

وكانت هذه بداية سوء التطبيق والإدارة لهذا الإتفاق، وبدا الأمر وكأن الإتفاق قد تم على تقاسم المهام بين كل من السعودية وسوريا، إذ تولت السعودية عبر “وكيلها”  الرئيس الشهيد رفيق الحريري الإدارة الإقتصادية للبلد، بينما تولت سوريا الإدارة السياسية الداخلية والخارجية، وكذلك المهام الأمنية مع ما يعنيه هذا من وصاية حقيقية وإن مقنعة على لبنان، ولكن التوافق السعودي – السوري يومها الذي كان قائما ووثيقا، عماده الثقة والتفاهم بين القيادة السعودية، ممثلة بالملك فهد بن عبد العزيز ، والقيادة السورية ممثلة بالرئيس المخضرم حافظ الأسد، فضلا عن الرعاية الدولية لهذا الإتفاق، كل هذا كان كفيلا بغض النظر وتغطية كل هذه النقائص، في التطبيق لصالح الإستقرار اللبناني الداخلي، الذي لم يكن يعكر صفوه، إلا الإحتلال الصهيوني لأراضيه في الجنوب والبقاع الغربي، هذا الإحتلال الذي كان الثغرة التي نفذ منها النفوذ الإيراني، برعاية سورية طبعا وغض نظر سعودي، عبر وكيله في لبنان المتمثل بحزب الله، الذي أوكل له وحده مهمة المقاومة العسكرية ضد الإحتلال الإسرائيلي، ما جعل هذا النفوذ يبدو وكأنه الضلع الثالث في الإتفاق السعودي – السوري، وإن كان بشكل غير مباشر .

هكذا سارت الأمور في لبنان حتى العام 1998، حيث كان عام إنتخابات الرئاسة اللبنانية، في هذه الأثناء كان الملف اللبناني في سوريا، قد إنتقل من يد نائب الرئيس السوري يومها عبد الحليم خدام، إلى يد بشار الأسد إبن الرئيس وخليفته في رئاسة سوريا، تزامنا مع تأزم الحالة الصحية للرئيس حافظ الأسد، وكذلك الحال في المملكة العربية السعودية، بحيث بات ولي العهد السعودي الأمير عبدالله بن عبد العزيز، هو القائم بأعمال الملك فهد نظرا لتأزم وضعه الصحي أيضا. 

في ظل هذه الأجواء في بلدي الوصاية على لبنان، وفي ظل تعثر مفاوضات السلام في المنطقة بين سوريا ولبنان من جهة، وإسرائيل من جهة أخرى، بعد إتفاقيتي أوسلو مع الفلسطينيين ووادي عربة مع الأردن التي وقعتهما إسرائيل، وفي ظل إستمرار الإحتلال الإسرائيلي لجنوب لبنان، فرضت سوريا إميل لحود كرئيس جديد للجمهورية في لبنان، هو القادم من قيادة الجيش والذي لم يكن ثمة كيمياء بينه وبين الرئيس رفيق الحريري، ما أعتبر يومها تحديا للرئيس الشهيد ومحاولة لتطويقه.

فصلت السلطة قانون “قانون غازي كنعان” لتطويق رفيق الحريري عبر تقسيم العاصمة بيروت إنتخابياً فكان أن حصل العكس وعاد إلى رئاسة الحكومة بقوة التفويض الشعبي!

فكان أول صدام بينهما في الإستشارات الملزمة التي يجريها الرئيس لتكليف رئيس للحكومة، عندما جيَّر بعض النواب أصواتهم – بإيعاز سوري طبعا – للرئيس لحود، وهو ما إعتبره الرئيس رفيق الحريري يومها غير دستوري، ومحاولة من رئيس الجمهورية لمشاركته صلاحياته في تأليف الحكومة، فكان أن إعتذر عن تشكيلها، وجيء يومها بالرئيس سليم الحص بديلا عنه، في رئاسة الحكومة، وكان هذا أول مسمار يدق في نعش التوافق السعودي – السوري، وأقوى ضربة لإتفاق الطائف منذ بدء تطبيقه العام 1992، لتتطور الأمور بعدها في العام 2000، الذي شهد الإنسحاب الإسرائيلي من جنوب لبنان، وكذلك وفاة الرئيس السوري حافظ الأسد، وتسلم نجله بشار السلطة خلفا له، وهو الذي كان يشرف بنفسه على الملف اللبناني، ترافق ذلك داخليا مع عودة الرئيس رفيق الحريري ظافرا في الإنتخابات النيابية، التي خاضها ضد السلطة التي فصلت قانون إنتخابيا، سمي يومها “قانون غازي كنعان”، بهدف تطويقه وإضعاف نفوذه عبر تقسيم العاصمة بيروت إنتخابيا، فكان أن حصل العكس، وعاد الرئيس رفيق الحريري إلى رئاسة الحكومة بقوة التفويض الشعبي، وهو ما لم تستسغه السلطة والنظام الأمني اللبناني – السوري  الذي كان قد بدأ يتوحش على خلفية مصالحة الجبل، وبدء مطالبة البعض من القوى السياسية بإنسحاب الجيش السوري، أقله إلى البقاع تنفيذا لإتفاق الطائف، على خلفية الإنسحاب الإسرائيلي من جنوب لبنان، تزامنت هذه التطورات على المستوى الدولي، مع أحداث الحادي عشر من سبتمبر  التي قلبت كل الموازين في المنطقة، وأدت بداية إلى غزو أفغانستان، ومن ثم غزو العراق، مع ما حملته هذه التطورات من مكافآت لإيران، نتيجة تعاونها مع الأميركيين وتسهيلها لعملياتهم، في كل من أفغانستان والعراق وهما البلدان اللذان كانا يشكلان صداعا دائما لها .

لبنانيا، أدت هذه التطورات إلى زيادة الضغط على النظام السوري، عبر إصدار القرار 1559 الداعي إلى إنسحاب كل القوات الأجنبية من لبنان، الأمر الذي دفع هذا النظام وذيوله في لبنان، إلى التشدد وتشديد قبضتهم في الداخل، عبر التجديد لإميل لحود في سدة الرئاسة، عبر الضغط على الرئيس الحريري، في ظل تراخي سعودي نتج عن التطورات المتلاحقة في المنطقة، في مقابل تقدم إيراني لا سيما بعد دخول النفوذ الإيراني إلى العراق عبر حلفائه، الذين دخلوا  على ظهر الدبابات الأميركية وتسلموا السلطة بتوافق أميركي – إيراني، ما وضع حتى النظام السوري في موقف ضعف أمام الإيرانيين، لحاجته إلى دعمهم في إستمرار سيطرته على لبنان، وهكذا شكلت حكومة من لون واحد، موالية للتوجه السوري – الإيراني برئاسة عمر كرامي، التي شكلها بعد إنسحاب الحريري من الحكم غداة التجديد للحود، وهي الحكومة التي شهدت إبان ولايتها، زلزال إغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري، ليسقط التفاهم السعودي – السوري بالضربة القاضية، وليسدل الستار على هذه المرحلة من الدور السعودي، وهي مرحلة رفيق الحريري. 

السابق
الغضب يُلهِب الشارع اللبناني عقب اعتذار الحريري.. اليكم الطرقات المقطوعة
التالي
عون يكشف ما دار بينه وبين الحريري.. ولهذا السبب رفض المهلة الإضافية