حارث سليمان يكتب لـ«جنوبية»: الإثراء من الانهيار… صباحو يا حاج

حارث سليمان
يخص الناشط السياسي والأكاديمي الدكتور حارث سليمان "جنوبية" بمقال أسبوعي ينشر حصرياً على صفحات الموقع و منصاته الإلكترونية.

لم يكن ينقص مشهد انهيار لبنان وتفسخ قطاعاته كافة، سوى قرار الغاء الشهادة الرسمية المتوسطة، في الجانبين الاكاديمي والمهني. فبعد ارتال السيارات المنتظرة سواد الليل، وطيلة ساعات النهار على طرقات المحطات، تمظهر انهيار الخدمات الاستشفائية، وقلصت المستشفيات كافة، تقديماتها لمرضاها، وقامت بالاستيفاء من روادها، مبالغ مالية باهظة، كفروقات تردم الفارق بين ارتفاع اسعار خدماتها وتعريفات المؤسسات الضامنة الرسمية والخاصة، مما جعل التأمين الصحي لملايين اللبنانيين، رسمياً كان او خاصاً، أمراً زائفاً، لا يضمن المنتسبين اليه ساعة مرضهم.

إقرأ أيضاً: حارث سليمان يكتب لـ«جنوبية»: الفدرالية.. خسارات مسيحية اسلامية «بالجملة»!

 الى جانب ذلك انقطع الدواء وندر وجوده، واقفلت مئات الصيدليات أبوابها بشكل كلي او جزئي، وتفاقمت هجرة الطاقم الطبي والتمريضي الى ارجاء الدنيا ونواحيها، وتعمّم اذلال المواطنين في ابسط حاجياتهم اليومية من خبز وحليب اطفال وزيوت وسلع ضرورية، كما اجتاحت العتمة منازل الناس، اثر زيادة ساعات تقنين التيار من مؤسسة الكهرباء او من مولدات الاحياء، نتيجة انقطاع مادة المازوت التي تستعمل وقودا في الاضاءة والانتاج الكهربائي، وانفلتت اسعار الاستهلاك وارتفعت بشكل جنوني، بحيث لم يعد يكفي اي راتب من رواتب، اي موظف من موظفي الدولة اللبنانية، لسد حاجات عائلته من الغذاء والدواء والنقل.

انقطع الدواء وندر وجوده واقفلت مئات الصيدليات أبوابها بشكل كلي او جزئي وتفاقمت هجرة الطاقم الطبي والتمريضي

في خضم الحدّ الذي وصلت اليه الازمة، تحول اكثر من ٧٥ % من اللبنانيين الى فقراء لا يستطيعون تأمين كل احتياجاتهم الاساسية من رواتبهم.

فيما أُجبر أصحاب الودائع والثروات التي احتجزت اموالهم في المصارف اللبنانية، على تقنين سحوبات أموالهم بما يسدّ رمق عوائلهم وحاجاتهم الأساسية، وأُجبروا على تحويل دولاراتهم بأسعار تبديل، تقتطع ٧٥% من قيمتها الفعلية.

حدثت كل هذه المآسي والتحولات، في ظل سلطة وحكومة، وقفت تتفرج على مأساة اللبنانيين وأوجاعهم، لا تخطط، لا تقرر، لا تستكشف، لا تبادر، لا تتدخل، لا تراقب، لا تقمع مخالفة، لا تحارب احتكاراً، لا تُسَيِّر خدمات مرفق، لا تلزم مصرفاً بموجبات التزاماته تجاه مودعيه، لا تقمع تهريبا منظماً وسافراً، لا تنظم حركة مطار، ولا تضبط صادرات مرفأ، سلطة كل ما تفعل، انها تتبرأ من مسؤولياتها، وتُنكر امساكها بقيادة البلاد ومصير العباد، لكنها لا ترحل ليتم استبدالها او تغييرها.

تحول اكثر من ٧٥ % من اللبنانيين الى فقراء لا يستطيعون تأمين كل احتياجاتهم الاساسية من رواتبهم

هي سلطة غاشمة متحكمة، لا تعتبر ان من واجباتها حل ازمة شعب لبنان، او حتى التخفيف من آلامها، أو ادارة حياة آلاف العائلات او تقديم الخدمات لهم في مجالات  الصحة والاتصالات والامن والعدالة والتعليم، بل موجودة ومتحكمة من اجل النهب البدوي العاري،  واستباحة الموارد والأموال العامة، وممارسة التهريب والاتجار بالمخدرات وتبييض الاموال وتسهيل اعمال الجريمة المنظمة.

هي سلطة تُؤَمِّن مطالب وحاجات ومصالح رعاتها في الاقليم، تحاصر شعبها حين يحاصر راعيها، وتلبي احتياجات الراعي، ولو تطلب ذلك قطع احتياجات شعبها، تمدّه بالمال والعملات الاجنبية ولو أدى ذلك الى استنزاف رصيد مصرف لبنان وافلاسه.

هي سلطة تعتبر أن لبنان أصغر و أقل شأناً من همومها، وأنّ آلام شعبه وأوجاعه هي معمودية واجبه يؤديها، كرسم انتساب، الى محور يختزن القداسة، لا تتواضع هذه السلطة لتقوم بخدمة شعبها، بل تجعل من رعاياها، قرابين منذورة لتفتدي اولياء أمرها.

هي سلطة غاشمة متحكمة، لا تعتبر ان من واجباتها حل الأزمة بل موجودة ومتحكمة من اجل النهب البدوي العاري

على مدى سنة قادمة ستكون حيوات ٦٠٠ الف عائلة لبنانية، مرتبطة ببطاقة تمويلية من اجل سد رمقها، من خطر الجوع والعوز وستغطي تكاليف هذه البطاقة قروض اجنبية ودولية، في نفس الوقت سيجبر اصحاب الودائع الصغيرة، على سحب ودائعهم، شهريا بدفعات من ٤٠٠$ دولار يضاف اليها مليونين و٤٠٠ الف ليرة بأوراق نقدية لبنانية، ويقابلها مبلغ مماثل يتم صرفه، عبر التسوق من البطاقة المصرفية، وبذلك سيتم تصفية ما لا يقل عن ٦٠٠ الف حساب مصرفي، بعد اقتطاع اكثر من ١٨ % من قيمة ودائعهم في حال ثبت سعر الدولار الاميركي على حاله اليوم.

لن تمر سنة اضافية واحدة، من عمر هذه الازمة، حتى تصبح الغالبية العظمى من شعب لبنان، اي أكثر من مليون ومئتي الف عائلة، معرضة للجوع والمرض والفقر والعوز، لا قوة شرائية لأجورها، ولا ودائع في متناول أياديها تقيها مواجهة الغلاء و متطلبات العيش بالكفاف، فيما يتبقى شريحة لا تتعدى ٣ أو ٤ بالمئة من شعب لبنان، استطاعت ان تحول ما لا يقل عن خمسين مليار دولار الى خارج لبنان، منذ منتصف سنة ٢٠١٨ ولغاية تاريخه، وجنت هذه الشريحة ذاتها خلال العشر سنوات الماضية، ما لا يقل عن ٢٥ مليار $ كفوائد، مبالغ بأسعارها ومعدلاتها، نتيجة اقراض الخزينة اللبنانية ومصرف لبنان. 

على مدى سنة قادمة ستكون حيوات ٦٠٠ الف عائلة لبنانية مرتبطة ببطاقة تمويلية من اجل سد رمقها من خطر الجوع والعوز

لا تقف المنظومة الحاكمة عاجزة أمام الازمة، كما يظن البعض ويستنتج، بل تستغل الازمة للتربُّح منها وزيادة عائداتها، كمناسبة لمزيد من النهب والاثراء غير المشروع، ويعتبر حيتان المال وقيادات الميليشيات الأزمة المالية والاقتصادية، فرصة لإعادة توزيع الثروة الوطنية عبر افقار الغالبية العظمى من شعب لبنان، والاستيلاء على احتياطات الذهب في مصرف لبنان، واستملاك المرافق العامة ومؤسسات الدولة واملاكها!!

الأزمة يدفع ثمنها ويتحمل خسائرها اصحاب الاجور والودائع الصغيرة، فيما يتم حفظ مصالح اصحاب السلطة وادارة النظام المصرفي وحيتان المال، وقيادات الاحزاب الطائفية وميليشياتها، ويتبدى هنا السبب الحقيقي الكامن، وراء تأخير اقرار قانون ” تقييد حركة الرساميل” اي ال Capital Control .

لا تقف المنظومة الحاكمة عاجزة أمام الازمة بل تستغل الازمة للتربُّح منها وزيادة عائداتها

على خط آخر، كانت مفاجأة حقا، أن يقام جلسة سحر اسود، يتم فيها تحضير ارواح موتى، يشغلون مقاعد سلطة غيّبت نفسها، ويصدر عنها قرار بإلغاء الشهادات الرسمية المتوسطة، وهو قرار مع ما رافقه من تبريرات وذرائع، يشكل الحد الادهى من موت الدولة اللبنانية وتفكك مؤسساتها وشلل مرافق خدماتها. 

فالقرار التربوي هذا، يحرم الطلاب جهدهم وسعيهم الذي بذلوه في اقصى ظروف الازمة الاقتصادية وفي ظل الجائحة وتعقيداتها، ويساوي بين من عمل واجتهد وكد ودرس، وبين من اهمل ولعب وهزأ وتسلى، انه قرار بمكافأة الفشل، مكافأة الفشل عند الطلاب، والفشل في المدارس، والفشل عند الاهل والاساتذة، وهو قرار أتى بعد فشل الوزارة في تنظيم امتحانات بمعايير مقبولة وانضباط محترم، ولذلك فانه اعلان اضافي بفشل ادارة التربية وأجهزتها.

لا تريد هذه المنظومة معيار الامتحان ولا اعتماد الكفاءة كشرط للنجاح والترقي الاجتماعي

لا تريد هذه المنظومة معيار الامتحان، ولا اعتماد الكفاءة كشرط للنجاح والترقي الاجتماعي، وقد لجأت لفتح عشرات المؤسسات التربوية في كافة مراحل التعليم خارج اي معايير اكاديمية معتبرة، وهي تصدر شهادات لا فرق من حيث قيمتها مع الافادات، فالإفادات او ما يعادلها من الشهادات تطلق يد المنظومة، وتحررها من قيود الكفاءة العلمية، فتمارس زبائنيتها السياسية على اوسع نطاق.

“الحاج” لقب يَجِبُّ كلّ لقب آخر ويتفوق عليه في منظومة كهذه لا حاجة لشهادات

 في منظومة سياسية ثقافية، حوّلت الحج الى بيت الله الحرام، من فريضة دينية، لمن استطاع اليه سبيلا، الى اعلى لقب علمي، ف ‘الحاج’ لقب يَجِبُّ كلّ لقب آخر ويتفوق عليه، في منظومة كهذه، لا حاجة لشهادات؛ سواء كانت متوسطة، ثانوية، جامعية، او دكتوراه من جامعة محترمة.

السابق
بعد طلب رفع الحصانة في قضية المرفأ.. برّي يدعو الى جلسة مشتركة
التالي
الاضراب مستمر.. وقفة احتجاجية للمحامين وخلف: «لا مكان لكسر احد»