حارث سليمان يكتب لـ«جنوبية»: الفدرالية.. خسارات مسيحية اسلامية «بالجملة»!

حارث سليمان
يخص الناشط السياسي والأكاديمي الدكتور حارث سليمان "جنوبية" بمقال أسبوعي ينشر حصرياً على صفحات الموقع و منصاته الإلكترونية.

ينبري دعاة الفدرالية في سعيهم لإقناع من يستمعون اليهم أو يتابعونهم، الى عرض نماذج لأنظمة فدرالية في العالم، تشكل تجارب نجاحٍ لإدارة مجتمعات متعددة الاعراق و الإثنيات والأديان، ويذكرون في ذلك دولاً كالولايات المتحدة الاميركية ودولة الامارات العربية والمانيا وغيرها، ويتناسون أنَّ تقسيماتِ الكياناتِ في هذه الدول، لا تتم على أساسِ الهَويّة الدينية والمذهبية، وأن في كل مقاطعة او ولاية أو امارة، من هذه الكيانات، تعيش اعراقٌ واديانٌ و اثنياتٌ متعددة، فالفدراليات التي يستشهدون بنجاحها، هي فدراليات لا تعتمد الفصل الاداري على أساس الهوية الدينية، ولذلك فالتعددية الدينية لم تؤدي الى قيام أقاليم، بهوية دينية منفصلة.

إقرأ أيضاً: حارث سليمان يكتب لـ«جنوبية»: الفيدرالية بين «الوطن المسيحي» و«الإستعصاء الشيعي»!

أمّا المسالةُ الأخرى في هذه الأمثلة وأشباهها، فهي أَنَّ الفدرالية في هذه الدول، أُعتُمدت كآليةِ توحيدٍ لكياناتٍ كانت منفصلةً، واتت الفدرالية لتجعلها متصلةً ومتكاملة، ولذلك فان الامثلةَ تلك، تنقلبُ شهاداتٍ تناقضُ طروحاتِهم الفدرالية ومبرراتها على أساس الهوية الدينية.

لا يكتفي الفدراليون بتلفيق أمثولاتِ الفدراليات الناجحة، بل يزعمون أنَّ المعيارَ الوحيد، بين نجاح الأنظمة السياسية أو فشلها، هو الخيار بين نظام فدرالي أو مركزي

لا يكتفي الفدراليون بتلفيق أمثولاتِ الفدراليات الناجحة، بل يزعمون أنَّ المعيارَ الوحيد، بين نجاح الأنظمة السياسية أو فشلها، هو الخيار بين نظام فدرالي أو مركزي، ويَتقصَّدوا تجاهلَ فشلِ أنظمةٍ فدرالية كثيرة، في نيجيريا والارجنتين والعراق وغيرها، فيما يعددوا أزمات دول وحروب، سببتها أنظمةُ دولٍ مركزية، وتقتضي النزاهة العلمية أنْ يُعزَى الفشلُ والنجاحُ في تجاربِ أنظمة الدول، الى عوامل عديدة ومتشعبة، منها العامل التاريخي ومنها الوضع الاقتصادي، وطبائع الحكام واستبدادهم، والموقع الجيو_استراتيجي، ولعبة الامم والظروف الدولية المحيطة.

واذا كان هناك من أمثلة لأنظمة فدرالية ناجحة يمكن أنْ تشكل قدوةً تُحتذى، فليتفضل دعاة الفدرالية الى نقاش نموذج نظام فدرالي، يقوم على اساس الهوية الدينية، كما يريدون قيامه في لبنان!؟

مشروعهم المطروح يطرح مشكلات جديدة في مجالات معايير رسم حدود الأقاليم، والتعليم الخاص، و النظام المصرفي والتجارة الخارجية

لا تختصر أزمة المشروع الفدرالي في لبنان فيما تقدم فقط، بل أن مشروعهم المطروح يطرح مشكلات جديدة في مجالات معايير رسم حدود الأقاليم، والتعليم الخاص، و النظام المصرفي والتجارة الخارجية وغيرها…

  1. المشكلة الأولى هي في رسم حدود الاقليم وآلية تكَوُّنه، والانتساب اليه، حيث ينطلق مشروع الفدرالية الجديدة، من طرح قيام أربعة اقاليم ادارية، ليس على أساس الجوار الجغرافي، بل على أساس الانتماء الديني والمذهبي، ويجعل من المسيحيين إقليما واحداً، فيما يفرض على المسلمين ان ينفصلوا الى ثلاثة أقاليم…
    حسنا لو سلمنا جدلا، بأن ينتقل اللبنانيون الى نظام فدرالي كرمى لعيون شريحة أقلوية في البيئة المسيحية نفسها، تسعى منذ القدم، للإنقلاب على العيش المشترك، والى الانفصال عن المسلمين، نسأل هؤلاء أليس من حق المسلمين ان يختاروا تشكيل إقليم واحد مثلا!؟
    واذا كان من قائل أنَّ الخلافَ السني الشيعي يجعل انفصال اقليم الشيعة عن اقليم السنة، أمر مرجح بل بديهي، واذا كان علينا ان نسلم بذلك أيضا!، فما الذي يمنع احتمال قيام إقليم موحّد درزي سني، وهذا الاحتمال سيكون أمراً منطقيا، لأنه يحفظ مصالح الطائفتين، ويحل إشكالية تداخل رعاياها، ويؤمن لهما امتدادا جغرافيا وثغورا دولية وعمقاً عربياً، ولذلك فان مصلحة المذهبين تقتضي في هذه الحالة، أن تتجه الفدرالية الى ثلاثة اقاليم بدلا من اربعة.( نستقرأ هنا منطق الفدراليين ونتائجه دون الالتزام بمضمونه او القبول بصواب رؤيته)
  2. أمَّا عن كيفية تَكَوين الاقاليم وتحديد انتساب محلياتها الى احد الاقاليم، فان أساس المشروع الفدرالي المقترح، يستند الى لوائح الشطب الانتخابية الموجودة لدى وزارة الداخلية، وهذه اللوائح لا تعكس التوزع الديموغرافي الحقيقي للسكان، ولا تصلح لتحديد انتماء سكان البلدة او المدينة الى أي اقليم طائفي، ففيها عيوب تتجاهل نتائج الموت والسفر والاغتراب والهجرة وتغيير السكن. وللدلالة على سطحية الاقتراح الذي يتبناه الفدراليون الجدد، فان نائبا من حزب الله يسكن المريجة او شارع الجاموس سيكون مواطنا مقيما وينتخب في بلدية مسكنه، التي تنتمي الى الاقليم المسيحي، فيما يشغل في نفس الوقت منصبا قياديا في الاقليم الشيعي، اما الرئيس نبيه بري فسيكون مواطنا في الاقليم السني الدرزي فيما يشغل رئاسة الاقليم الشيعي مثلا.
  3. وبعيدا عن هذه المفارقة، فان مشروع الفدرالية المقترح يتضمن بندا ثوريا غير مسبوق في السياسات اللبنانية التقليدية، وهي تمكين المقيمين في كل بلدة او قرية او مدينة، والذين يدفعون الضرائب البلدية فيها، ويمتلكون عدادات اشتراك بالكهرباء والماء والتلفون لبيوتهم، تمكين المقيمين هؤلاء، من الاشتراك في انتخاب المجالس البلدية في أماكن سكنهم، وهو أمر شرعي وتقدمي أن ينتخب المكلف بدفع الضريبة، الهيئة المحلية التي تصرف هذه الضريبة ويحاسبها، ولذلك وبناء على هذا الاقتراح الثوري، يمكن رسم حدود الاقاليم انطلاقا من نتائج أول انتخابات بلدية تجري على الأسس الجديدة، بحيث يقرر كل مجلس بلدي جديد، خياره الحاسم بالانتساب الى أحد الأقاليم، فتتحدد دفعة واحدة نتائج انتخابات البلديات، وخيار انتساب البلدة او المدينة او القرية الى اقليم من الاقاليم.، وليس بالضرورة ان يكون خيار الانتساب مربوطا او مشروطاً بالهوية الدينية او الطائفية، كما يمكن ان يتحدد بنتيجة هذه الانتخابات، ما إذا كانت البلدية تريد النظام الفدرالي أم لا تريده!!
    واعتقد ان نتائج هذه العملية ستشكل صدمة مروعة لاصحاب الفدرالية ومؤيديها.
  4. الطريقة هذه هي الفضلى وقد تكون الوحيدة لكي لا تتسبب الفيدرالية فيها، باي عنف او تهجير او توتر سياسي او خضات أمنية، وهي طريقة طوعية ديموقراطية لبناء جفرافية الأقاليم وجوهر هويتها.
  5. المشكلة الثالثة ان النظام المقترح يخلق اشكالية ايجاد درجتين من المواطنين: من جهة أولى، مواطنو الدرجة الثانية الذين ينتخبون، كغرباء عن الشأن السياسي العام، في بلديات مسكنهم، فيما يعاملون كجاليات مهاجرة، تنتخب نوابا في إقليم لا تعيش فيه، وسيكون هؤلاء هم لبنانيو الأطراف مسلمين ومسيحيين، ومن جهة ثانية ؛ مواطنو الدرجة الأولى الذين ينتسبون الى قلب لبنان، والذين ينتخبون بلديات، ونواباً في اقليم يسكنونه وينتمون اليه أصلاء لا غرباء.
  6. أما مجموعة المشاكل العملية التي يطرحها مشروع الفدرالية المتجدد راهنا، فهو متصل بخسارة المسيحيين ميزات تفاضلية، مازال النظام اللبناني يؤمنها لهم، رغم الصراخ الطائفي المتجدد عسفاً، و الإعلان المتمادي عن انتهاك حقوق المسيحيين والإفتئات على حصصهم وحقوقهم

من المنتظر ان يلجأ الاقليم الشيعي، الى تشجيع وتشريع حصرية التعليم الخاص وذلك لفرض التعليم الديني الاسلامي

واول هذه الميزات مؤسسات التعليم المسيحية الخاصة، كالمدارس الكاثوليكية والجامعات التي تديرها الرهبانيات المختلفة؛ كالانطونية والمريمية واللبنانية الكسليك، والباسيلية الشويرية، والحكمة واليسوعية والبلمند وغيرها… وهي مؤسسات يشكل الطلبة المسلمون فيها نسبة عالية، لا تقل عن خمسين بالمئة في بعض المؤسسات، وتصل الى سبعين في المئة في غالبية المؤسسات الاخرى، وتوفر هذه المؤسسات اضافة الى أدوارها الثقافية والاكاديمية والقيمية، مداخيل مالية كبيرة، ومجالات فرص عمل يستفيد منها المسيحيون بشكل شبه حصري، ومن المعروف ان التعليم وقانون تنظيمه هو شان محلي في الانظمة الفدرالية، ينظمه كل اقليم حسب مصالحه ومعتقداته الثقافية، ومن المنتظر ان يلجأ الاقليم الشيعي، الى تشجيع وتشريع حصرية التعليم الخاص، بمؤسسات الصدر ومدارس المهدي والمصطفى وجامعات المعارف وفينيسيا والجامعة الاسلامية، وذلك لفرض التعليم الديني الاسلامي، والتنشئة على السلوك المتدين ونمط العيش الاسلاميين في المأكل والملبس والقيام بالفرائض والعبادات والاحتفالات الدينية المختلفة… وسيكون ذلك على حساب المدارس الكاثوليكية وجامعات الارساليات الاجنبية، التي ستعتبر مؤسسات تبشيرية، فيما يشجع الاقليم السني مدارس الحريري والمقاصد والجامعة العربية والجامعة اللبنانية الكندية والجامعة الدولية والمنار وجامعة الجنان والجامعة العالمية ( الاحباش) للسبب نفسه وغيرها، وستنتزع الفدرالية بذلك من المؤسسات المسيحية ريادة قطاع، طالما شكل ميزة عززت قوتهم وابرزت ريادة دورهم وتميزهم.

الميزة التي سيفقدها المسيحيون في النظام الفدرالي المقترح، فهو غلبتهم وهيمنتهم على النظام المصرفي اللبناني

أما الميزة الثانية التي سيفقدها المسيحيون في النظام الفدرالي المقترح، فهو غلبتهم وهيمنتهم على النظام المصرفي اللبناني، فمن اصل حوالي خمسين مؤسسة مصرفية عاملة في لبنان، يسيطر رجال اعمال مسيحيون على ادارة اكثر من ٧٠ % من عمليات البنوك وتسليفاتها، وطبقا للائحة نشرت في “النهار” تستند إلى البيانات الصادرة عن مجلة The Banker خلال تموز 2017، والمتضمنة أكبر 1000 مصرف في العالم، وفق رأس المال الأساسي (Tier 1 capital) بنهاية العام 2016. والتي تضمنت أقوى عشرة مصارف لبنانية، فقد اتى ترتيب المصارف اللبنانية مصنفا على الشكل التالي:

“بنك عودة” ( عودة)، “بنك لبنان والمهجر” ( الازهري)، “فرنسبنك” ( القصار)، “بنك بيبلوس”( باسيل)، “بنك سوسيتيه جنرال في لبنان” (صحناوي)، “بنك بيروت” صفير، “بنك البحر المتوسط” الحريري، “البنك اللبناني الفرنسي”( روفايل)، “الاعتماد اللبناني” (طربيه)، و”بنك بيروت والبلاد العربية”( عساف).

وبلغ مجموع الشريحة الأولى لرأس المال (أو رأس المال الأساسي) في هذه المصارف العشرة نحو 15.6 مليار دولار، كما تدير موجودات تقدر بنحو 197.6 مليار دولار. ويظهر في ادارة وملكية هذه المصارف العشرة، ٦ عائلات مسيحية، وثلاث عائلات سنية وواحدة فقط درزية، فيما لا يظهر اي مصرف ضمن المصارف الاولى بادارة وملكية شيعية، ومن البديهي، ان الانتقال من “النظام اللبناني المركزي” الذي قسم الوظائف بين الطوائف والمذاهب، فاعطى ادارة وملكية النظام المصرفي للمسيحيين والسنة، فيما أفرد للطائفة الشيعية مهمة المقاومة والقتال، ان الانتقال الى الفدرالية، سيعني تماما نظاما مصرفيا مختلفا، يكون لكل اقليم مصارفه الخاصة به، فهل يعي الفدراليون معنى دعوتهم ونتائجها على مصالح المسيحيين وارزاقهم.

هل يدرك الفدراليون مدى الضرر الذي تسببه مشاريعهم، لبيئة الاعمال والتجارة وحجم الاستهلاك الذي تسببه الفدرالية؟

أما الميزة الثالثة التي يؤمنها الواقع الحالي للمسيحيين في لبنان، فهي الوكالات التجارية الحصرية والتي ينعم بارباحها ومكاسبها ووظائفها بنسبة كبيرة، رجال اعمال مسيحيون وفي طليعتهم العائلات الكاثوليكية التقليدية، وهي وكالات سيجري الغاؤها في الاقاليم الاخرى غير المسيحية، لصالح خطوط تجارية مختلفة، تتجاوز حصرية الوكالات المسيحية الذي يحميها النظام الاقتصادي الحالي، وقد حاول المرحوم رفيق الحريري الغاءها و ووجهت محاولتُه بمقاومة عنيفة ادت الى ان يتخلى عنها، وفي نظام الفدرالية الجديد سيكون الغاء هذه الوكالات بندا اولا، على جدول اعمال ادارة الاقاليم غير المسيحية، فهل يدرك الفدراليون مدى الضرر الذي تسببه مشاريعهم، لبيئة الاعمال والتجارة وحجم الاستهلاك الذي تسببه الفدرالية!؟

لا تنحصر اضرار الفدرالية على الحضور والدور المسيحي بما تقدم فقط، بل سيطال كل مناحي المهن والقطاعات، التي يلعب بها المسيحيون دورا رياديا، وتشتمل المستشفيات والاطباء والمحاماة والشركات الهندسية واعمال الصيانة وغيرها.

في نهاية هذا المقالة التي اتعبني واحرجني فيها، استعمالُ لغة طائفية اخجلُ منها ولا أستسيغها، لكن حرصي على الدور المسيحي في لبنان وعلى بقائه موطنا للعيش المشترك وارضا للحداثة والمعاصرة والانفتاح، دفعني لوضع النقاط على الحروف ولفتح بصائر من أغشت عيونهم نظريات بائسة، لا تنتمي لاسئلة العصر ولا الى تطور آليات العولمة الصاعدة.

السابق
بالصور.. وقفة تضامية مع العلّامة الأمين رفضاً للترهيب: نهيب بالقضاء عدم الخضوع لـ«حزب الله»
التالي
كلمة لنصرالله الإثنين.. ومضمونها: فلسطين تنتصر!