وجيه قانصو يكتب لـ«جنوبية» عن سقوط منطق الدولة: من نحن؟

وجيه قانصو
يخص المفكر والباحث والأكاديمي الدكتور وجيه قانصو «جنوبية» بمقال أسبوعي ينشر حصرياً على صفحات الموقع ومنصاته الإلكترونية.

يترقب السياسيون والإعلاميون المبادرة الأخيرة لتشكيل الحكومة بكثير من الحذر والريبة، بل الشك في قابلية نجاحها، ويتعامل معها عموم الناس بلامبالاة وعدم اكتراث، ليقينهم بأنها في حال تشكلها لن تختلف عن الحكومات التي سبقتها، ولن تغير من أحوالهم الكارثية شيئاً، لأنها ستكون ثمرة تسويات وتوازنات دقيقة، تجعلها مكبلة ومقيدة ومليئة بالتناقضات، ومنشغلة بصراعاتها الداخلية ومستنزفة بالوصايات المتعددة عليها من خارجها.

إقرأ أيضاً: وجيه قانصو يكتب لـ«جنوبية»: فلسطين.. «إنتصارات» على وقع «الإنكسارات»!


سواء أنجحت المبادرة أم لم تنجح، فإن الكارثة باتت سمة ثابتة وراسخة، والإنهيار والموت آخذان بالتوسع والتمدد إلى جميع وجوه الحياة العامة والخاصة، ليشمل: قطاع الإنتاج ومؤسسات الدولة، شروط الحياة الكريمة، الانتماء العام والهوية الجامعة، آمال وتطلعات الأجيال الشابة، الخطاب السياسي المعقلن، دافع الابتكار والاستثمار، نموذج القدوة والقيم الفعلية الراسخة. 

الإنهيار والموت آخذان بالتوسع والتمدد إلى جميع وجوه الحياة العامة والخاصة


ما نشهده من سجالات وتجاذبات وتصلب وتشنجات، لم يعد يندرج في منطق الدولة الذي يستوجب أن يكون الصالح العام غاية أي فعل أو قرار أو موقف، بل لم يعد يندرج في السياسة التي هي النشاط البديل عن ساحة الحرب والصراع، حيث غرض السياسة عقلنة الواقع مقابل سيادة العصبيات والغرائز واستعراض القوة والتفوق، وهدف السياسة تحقيق الإجماع والتوافق على أرضية الشراكة مقابل كسر الإرادات والانتشاء بغلبة فريق على آخر.حين يحتجب العقل عن المشهد العام، أي تغيب: الفكرة التي يمكن فهمها، والموقف الذي يمكن تفسيره والخطاب القائم على حجة مُقْنِعَة أو دليل ملموس، وقدرة المجتمع على استرداد وديعة السلطة التي ائتمن قيادته عليها، ويسود بالمقابل: الولاءات المشخصنة التي وصلت إلى حد الخبل، وجنون العظمة لدى أكثر الرموز العامة، ولغة تعبئة الغرائز وتأجيج المشاعر، والهويات الجزئية المتضخمة، والبحث عن ملاذات آمنة خارج الدولة بل خارج الوطن، والمسلكيات العدوانية في الساحات العامة.  حين ذلك كله، يأفل المعنى ويعم العبث وتتحلل القيم ويرتحل الفن والجمال إلى أرض تليق بهما، ويتعطل الزمن وترتكس الحياة الإنسانية إلى طورها البدائي الأولي: حيث حالة حرب الكل ضد الكل.

انفجار الأزمة الأخيرة بمثابة معطى تاريخي حاسم على أننا خرجنا رسمياً من طور الدولة


انفجار الأزمة الأخيرة، بتجلياتها السياسية والاقتصادية والاجتماعية، بمثابة معطى تاريخي حاسم على أننا خرجنا رسمياً من طور الدولة، ولم يعد هنالك مشهد سياسي يعول عليه في إنتاج حياة عامة وفضاء عام جديدين، بل لم يعد هنالك مشهد سياسي يستحق المواكبة والقراءة والتحليل.   لم يبق سوى قوى متهافتة وتضامنات ضحلة وقيادات تافهة، تقتات على هويات بائدة وعصبيات مصابة بالعمى وعقائد مغمسة بالخرافة، في ادعاء شرعيتها وإثبات جدارتها وقوتها.  ما تجيده وتحترفه القوى والقيادات الحالية في لبنان، هو لعبة الصراع حتى النهاية مهما كانت العواقب والآثار المدمرة، وتزييف انتصارات ذاتية وفبركة إنجازات لمذاهبها وبيئتها الحاضنة، تُعوِّضُ عليها عقد النقص المزمنة فيها وتُضَخِّمُ حسّها العدواني، وتشبع فيها الرغبة بالنقمة والتشفي من المذاهب والبيئات الأخرى.هل ما نحن فيه ثمرة صدفة ملعونة سهلت وصول قيادات في غاية الردائة، أم أن هنالك واقع ذاتي ملعون  كامن وراء احتفاليات وصخب وادعاءات المشهد اللبناني، أم أننا ضحية صراعات إقليمية ودولية كان لبنان نقطة تقاطع مصالحها واستراتيجياتها؟قد يكون لكل من هذه العوامل سهمه في الوصول إلى علامات الموت ومرحلة النهايات، إلا أن تجارب الدول الأخرى تشي بأن الصدفة لم تكن يوماً العنصر الحاسم في قيام الدولة أو انهيارها، وأن التآمرات والأطماع الخارجتين لم تكن يوماً العامل النهائي في تصدع أو انبعاث الأمم. هي جميعها عوامل ضاغطة وداعمة ومهددة، لكنها لا تنتج دولاً ولا تسقطها، ولا تميت شعوباً أو تحييها.

أي وطن نريد وأية دولة نريد. هما سؤالان يختصرهما سؤال مركزي واحد: من نحن؟

قيام الدولة أو سقوطها يعود فقط إلى الحقيقة التي عرَّفناها بها، والطبيعة التي حددناها بها، والوظيفة التي أسندناها إليها، أي يعود إلى الطريقة التي ننظر فيها إلى أنفسنا ونعرِّف وجودنا وكينونتنا على أساسها. فالدولة والحياة السياسية فن وابتكار إنسانيين ليس غرضه النهائي إنشاء سلطة إكراه وتأسيس قواعد منافسة وصراع، بل غرضه النهائي تعزيز نمط حياة ومستوى وجود نطمح إليه وترسيخ أطر علاقات ومنظومة قيم نؤمن بها. 


التفكير الجدي بأصل الأزمة، يبدأ بالخروج من التلهي بتبادل التهم وإلقاء اللوم على الآخر لإثبات طهر واستقامة الذات، أي كشف الاقنعة التي نتوارى ونختبىء خلفها دائماً، وإزاحة أوهام القوة والظفر التي نتسلى بها، كي نعود إلى السؤال التأسيسي الأول، الذي لم يأخذ حقّه الكافي في النقاش حوله، وهو: أي وطن نريد، وأية دولة نريد. هما سؤالان يختصرهما سؤال مركزي واحد: من نحن؟ 

السابق
لبنان الى العتمة الشاملة.. وكتاب من وزني إلى الحكومة!
التالي
ليس بالدولار وحده يحيا جمهور «حزب الله»!