من «حمال» حقيبة «الخارجية» و الأسيّة.. إلى السعودية!

شربل وهبة
تحتاج وزارة الخارجيّة إلى إعادة تأهيل كاملة، تماما كالقضاء اللّبناني. لن يتمكّن أحد من تحقيق ذلك في ظلّ هذه السّلطة الفاشلة.


فوجئ الرأي العام اللبناني بالموقف والكلام غير المسبوق لوزير الخارجية السفير شربل وهبه. أقلّ ما يقال فيه أنّه خارج عن كل اللّياقات الدبلوماسيّة، ومنافيا كذلك لتاريخ الدّبلوماسيّة للبنان. كلام أكثر من أرعن، لم يصب فقط مصالح لبنان مع أصدق الأشقّاء له، بل أصاب تاريخه الدّبلوماسي العريق، وتراثه العروبي الطويل، وأخلاقيّاته وآدابه في المخاطبة الرّسميّة مع الآخر، وكذلك مفاهيمه في العلاقات الدوليّة التي أسّس لها في مشاركة شعبه بإنشاء الأمم المتّحدة.

إقرأ أيضاً: «رسائل متفجرة» لعون من الخليج إلى مجلس النواب..و«حزب الله» يتنصل من مُطلقي الصواريخ!


كثرت الإدانات، وزحفت وفود من كلّ حدب وصوب، لتقديم الإعتذار من سفير المملكة العربيّة السّعوديّة. وتسابق أمراء الحرب، الذين امتلأت خزائنهم بأموال المملكة، للتّعبير إعلاميّا وهاتفيّا ورسميّا عن السّخط والغضب. أمراء الحرب أرادوا تذكير المملكة بوجودهم وضرورة استمرار السّخاء السّعودي عليهم. والمتعطّشون إلى الكراسي، وجدوها فرصة ثمينة لنيل رضى صاحب قرار في غد لبنان. آخرون خافوا أن ينتهي رنين ذهب المملكة وأهل الخليج، لكنّ الغالبية من السكان الطيّبين صرخوا غضبا لأنّهم شاهدوا عيّنة أخرى من نتاج حكم أهل السّلطة.

إختلافات أهل السّلطة الذين هم أمراء الطّوائف والمذاهب لم تترك زاوية في صورة لبنان لم تشوّهها


إختلافات أهل السّلطة الذين هم أمراء الطّوائف والمذاهب، لم تترك زاوية في صورة لبنان لم تشوّهها. جعلوه دولة شبه فاشلة: لا حكومة قادرة على إدارة البلاد، وإذا أقيمت، فهي أشبه بمجلس إدارة لأمراء الطّوائف الذين يحكم كلّ منهم منطقة، ويديرونها على طريقة زعماء المافيات، فيتوزّعون مناطق سيطرة لكل منهم في البلاد، ويتقاسمون المغانم. لم يكتفوا بتحويل اللبنانيين إلى مرتزقة في معسكراتهم، بل جعلوهم مرتزقة في ساحات الوغى لدول أخرى. جيش مكبّل. خزينة غنيّة أفرغوها، وأموال خاصّة نهوبها. كانت إيداعات الناس في نظام لبنان المصرفي التّاريخي، تزيد عن 160 مليارا من الدولارات. رواتب تبخّرت. عتمة كهرباء منذ عشرات السنوات. أدوية مفقودة، وتجارة في المستشفيات والعلاجات الطّبيّة. إحتكار وغلاء وسرقات مكشوفة من المحتكرين الجّشعين، لأموال المواطن. حدود سائبة مشرّعة لكلّ عمليّات التّهريب إلى الدّاخل كما إلى الخارج. سرقوا من الناس المواد الحيويّة التي تدعمها الخزينة بأموالهم القليلة الباقية، لينقلوها في شاحنات محميّة من الميليشيات، إلى سوريا. إستفادوا من سلطة صاحب السلاح وحلفائه على المعابر، لتهريب المواد المخدّرة القاتلة لأخوتنا من الشّعوب العربيّة وغير العربيّة، الأخرى، كالكبتاغون وغيره. شوارع ملأتها النّفايات. سدود تبخّرت مياهها قبل أن تدفع كامل أثمانها. طرقات تملأها الحفر في اليوم الثاني لتزفيتها. شواطئ رائعة تباع وتسبى، وغير هذا كلّه كثير.

الدّبلوماسيّة اللبنانيّة ومنذ عام 2003، خضعت بدورها إلى المحاصصة بين هؤلاء الأمراء


الدّبلوماسيّة اللبنانيّة ومنذ عام 2003، خضعت بدورها إلى المحاصصة بين هؤلاء الأمراء. رئيس مجلس النواب “الأستاذ”، وحزب إيران تحكّما بهذه الوزارة حتى العام 2014، ثم خلفهما المهندس “المخلّص” حتى هذا التاريخ. كلّ الذين تناوبوا على هذه الوزارة منذ ذلك الحين، كانوا وسائط تنفيذيين لقرارات مرجعيّاتهم. لكنّ الفارق بين عهد “الأستاذ” وعهد “المخلّص” أنّ الأوّل أقام مستشارا للوزير يستلم كلّ البرقيات والرّسائل الواردة من السّفارات، ويرسلها إلى مكتبه في مجلس النّواب، حيث يتّخذ قرار التعامل مع مضمونها وخاصة السياسي منها. أصحاب المعالي كانوا في معظمهم من السّفراء المخضرمين الذين تماهوا مع مرجعيّاتهم، في السياسة وحتى في الخدمات المذهبيّة للعاملين تحت سلطتهم. لكنّهم احتفظوا لأنفسهم بإدارة الوزارة وفقا لتاريخهم العريق. إحتفظوا بممارسة الإحترام للعاملين معهم، ولاسيما للتّراتبيّة الدّبلوماسيّة، وكانوا أصحاب رأي وكلمة، يحرصون على الكلام الدّمث المهذّب في أحاديثهم، لهم كلّ التّقدير الشّخصي لدى العاملين في السّلك الدّبلوماسي.


أمّا التّراث الذي تركه المهندس “المخلّص” فهو يشبهه تماما. في عهده وعهد وسائطه، ضاعت كلّ تراتبيّة دبلوماسيّة. رأينا السّفارات والقنصليّات تتحوّل إلى مكاتب لخدمة مصالحه وأغراضه الشّخصيّة. فالسّفارات والقنصليّات التي يمسك بها خصومه أو المستقلون، فقد أقام فيها رأسا آخرا لها، ولو سرا. سفير أو قنصل معتمد أمام السّلطات المختصّة يمارس الشّكل، وحتّى إذا بادر تحفظ مراسلاته، وآخر حاكم عملي، دبلوماسي او إداري، ولو سرّا، يتواصل الوزير معه مباشرة، يكلّفه تنفيذ تعليماته مع رموز محليّة منضوية في فكره المتعدّد الأهداف، كلّ الأهداف، إلّا إستعادة سلطة الدّولة وتحريرها. هو تدخّل في كلّ شاردة وواردة في الوزارة، بل أقام وزارة موازية داخل الوزارة كان بين الناشطين فيها، وزيره المدلّل سيزار أبي خليل. أذلّ السفراء وأهانهم، وجعل بعضهم حملة لحقائبه في رحلاته. جعلهم لسانه وقلمه وعقله وإنسانه الميكيافيللي في مخاطبة زملائهم. و”وهبه” كان نموذجا حيّا منهم. بل هو النّموذج الأبرز لأنه كان يقود مديريّة هامة هي مديريّة الشّؤون السياسيّة والقنصليّة. وهبه خرج من مكتبه في الوزارة إلى مكتبه في القصر الجمهوري، متابعا دوره “المرموق” في لعبة خدمة مصالح “المخلّص”. كان فلتة الشّوط والحصان الضّروري في لحظة الحرج، ليكون الوزير الشّكل، على أن يغرق في صمت يفرضه ظاهريّا واقع الحكومة التي تقوم بتصريف الأعمال، وعمليا خوف معلّمه أن ينطق بالكفر. وعندما قرر أن ينطق بعد دهر من الصّمت، صحّت نظرة معلّمه، فنطق كفرا.


مدير الشّؤون السياسيّة والقنصليّة شربل وهبه الذي كان يحمل حقيبة الوزير باسيل في سفراته، كان أيضا لسانه وقلمه، فترجم عمليّا مع وسائط مماثلة في الوزارة، كلّ الظلم الذي ألحقه بي معلّمهم عام 2016. رفضت الخضوع لهم أو قبول أن تتحوّل سفارتي إلى رأسين. وخرجت طوعا مرفوع الرأس من وزارتي غير آبه بخسارتي الماديّة. أما هو فيخرج الآن بجيوب مليئة، لكن برأس مطأطأ. سبحانك اللّهم تمهل ولا تهمل.

الخارجيّة بحاجة إلى إعادة تأهيل كاملة، تماما كالقضاء اللّبناني

الخارجيّة بحاجة إلى إعادة تأهيل كاملة، تماما كالقضاء اللّبناني. لن يتمكّن أحد من تحقيق ذلك في ظلّ هذه السّلطة الفاشلة. وأنا أرجو من الأخوة في المملكة والخليج، أنّ يأخذوا بالإعتبار أن اللّبناني هو ضحيّة. فلا يضاعفوا من آلامهم. اللّبناني ضحيّة منذ عام 1969. لبنان فقد سيادته واستقلاله منذ أن تحوّلت سوريا حافظ الأسد إلى قوّة تهيمن عليه وعلى صناعة القرار فيه. أهلنا في الخليج يعلمون كلّ ذلك. لذلك فإنّ ما تسمعونه اليوم من بكاء على كلام قاله أرعن يمثّل شكلا الدّبلوماسيّة اللبنانيّة، لا يعكس حقيقة كلامهم، ولا ما يجول في أعماق اللبنانيّين المخلصين من نقمة على الذي أوصل هذا الأرعن وأمثاله إلى السّلطة. اللبناني يريد الخلاص من هذه السلطة بما فيها هذه الأزلام التي تقبض منهم. كلهم خصوم أهل الخليج ، ياخذون مالكم ويقاتلون بسيف سلطان آخر. عدوكم ليس الذي يحمل السلاح ضدّكم فحسب، بل أيضا هذا الآخر الذي يتلقى حقائب المال ثم يقبل أن يشكّل عمليّا الغطاء للأول. لا نريد أموالكم بل مساعدتكم لإسترجاع وطننا وحريّة قرارنا. عندها سيعود لبنان تلقائيّا إلى حضن إخوانه، فنحن لا ننسى تاريخنا.

السابق
اشكال جونيه يستفز السفير السوري.. كيف علّق؟
التالي
بسبب الأسد الاشتباكات تجددت في نهر الكلب.. وتراشق بالعصي!