وجيه قانصو يكتب لـ«جنوبية»: أحزاب «متوحشة» تقتات على انهيار الدولة

وجيه قانصو
يخص المفكر والباحث والأكاديمي الدكتور وجيه قانصو «جنوبية» بمقال أسبوعي ينشر حصرياً على صفحات الموقع ومنصاته الإلكترونية.

لم تكن فكرة الحزب منذ اقتراحها وممارستها  في العالم، تقوم على تشكيل قوة مقابل قوة أخرى، أو غلبة جهة على جهة، بل لم تكن مشروع إخضاع طرف لطرف وكسر إرادته.  كما أنها، أي فكرة الحزب، لم تكن يوماً كياناً مقفلاً تقوم فيه حسابات الربح والخسارة على قاعدة ربحه الخاص أو خسارته الخاصة، بل لم تكن يوماً فكرة الإمساك بالسلطة مطلقاً والتحكم بمقدرات البلد لصالح رموزه وقياداته وعناصره وأفراده.

إقرأ أيضاً: وجيه قانصو يكتب لـ«جنوبية»: عندما تقع «ولاية الفقيه» في فخ «تصدير الثورة»!

كانت فكرة الحزب في بدايتها برلمانية، أي نشاط وتنظيم انتخابي، يعرض أمام الناخبين الخيارات السياسية المتاحة وبرامج الأعمال المقترحة ليكون بإمكان توسيع مساحة الإختيار لدى الناخب، ويكون بالإمكان التنافس على قاعدة ديمقراطية.  هي فكرة غرضها تعميق النقاش العمومي وتوسيعه، وتوضيح الخيارات الممكنة والمتاحة أمام الناخبين لعقلنة القرار الانتخابي.

مع ظهور مشاريع التغيير الجذرية مثل الأحزاب الشيوعية، والطموحات القومية الراديكالية مثل النازية والفاشية، أخذ الحزب صفة شمولية، ولم يعد غرض الحزب التنافس على السلطة، بل هدفه إعادة بناء المجتمع في مسلماته الثقافية وأطره التضامنية، وإعادة تكوين الشخصية الفردية ليتطابق عقله ومسلكه مع التفسير الأيديولوجي، الذي يتسع لكل مظاهر الحياة الوجود.  لكن، ورغم شمولية هذه الأحزاب وحديدية تكوينها، فقد كان أفقها عاماً، أي أفق المجتمع كله، ومصلحة الأمة بأسرها صغرت أو كبرت. أي لم تكن هذه الأحزاب ذات خطاب خاص تقوم على عصبية ذاتية مقفلة، يقتصر همها بمصلحة ورفاه من ينضم إليها، بل كانت في كل أحوالها مشروعاً عاماً ذي خطاب عام، أفقه أفق المجتمع نفسه، ومصلحته متطابقة مع الصالح العام. 

أساس فكرة الحزب هي عموميته، وأساس شرعيته أن تكون “الأمة” هي نقطة ارتكار خطابه وأداءه وبرنامجه

بذلك كانت وظيفة الحزب، إما التوعية وتحفيز النقاش العام لوضع المواطن أمام خياراته الممكنة، وهذا لا يتحقق إلا في النظم الديمقراطية. وإما أن ذات رؤية تغييرية شاملة، هدفها لا وضع المجتمع والفرد أمام خياراته وإمكاناته، وإنما إعادة إنتاج المجتمع والفرد، وترسيخ واقع قيمي وترابطي يقوم على تأويل وتفسير أيديولوجي لمظاهر الحياة.

في كلتا الحالتين، فإن أساس فكرة الحزب هي عموميته Public، وأساس شرعيته Legitimacy أن تكون “الأمة” Nation هي نقطة ارتكار خطابه وأداءه وبرنامجه.  بالتالي يكون معيار مقبوليته، وسياسويته أن يملك خطاباً وأداءً وأغراضاً لا تقتصر على فرد أو جهة أو عصبية خاصة، وأن لا تنشأ لديه شبكة مصالح تتفوق على الصالح العام أو منفصلة عنها.

حين تتحول روابط الأحزاب الداخلية، مثلما هو حاصل في لبنان، إلى عصبية خاصة منفصلة عن الهوية العامة، وحين توظف مقدرات المجال العام وموارده لتغذية وتنمية شبكة الأحزاب الخاصة، وحين تمارس الأحزاب نشاطاً لا تلحظ فيها أي اعتبار لمجال عام أو مصلحة عامة أو منفعة عامة، إنما لتحقيق فوائد ومصالح في غاية الخصوصية، عندها لا نكون أمام أحزاب، ولا أمام كتل نيابية، بل ولا أمام أحزاب شمولية ذات غاية تغييرية، بل أمام نوع حياة يسبق ظهور السياسة، وأمام واقع يسبق ظهور الدولة بمعناها الحديث.

تشكيلة الأحزاب القائمة في لبنان،هي تكوينات ما قبل سياسية، ذات تضامنات ما قبل مدنية، وقامت لأغراض منفصلة عن الدولة وخارج إطارها

يتأكد هذا حين نعلم أن فكرة الحزب في العالم،  جاءت متأخرة عن معنى السياسة بصفتها نشاطا متميزاً عن النشاط الخاص، ولاحقة على مبدأ العقد الاجتماعي الذي كان غرضه تأسيس دائرة اجتماع أوسع من دائرة حياة الفرد الخاصة وتتجاوز العلاقات العضوية البدئية،  وظهرت من داخل مفهوم الدولة بصفتها ذات إرادة كلية لا تقبل التخصيص، وذات نفوذ مطلق لا يقبل التقييد يمنحها سيادة عليا، لا تلغي شرعية ما تحتها، لكنها تسحب شرعية كل قوة تعزل نفسها عنها، وتحيل كل قوة خارج دائرتها إلى قوة بداوة تائهة في صحراء نرجسيتها.

هذه المقدمة كلها، تبين أن تشكيلة الأحزاب القائمة في لبنان، بكل وجوه تجاذباتها وتحالفاتها وتضامنها، وعلى الرغم قدراتها التعبوية وبراعتها في المناورة وشراستها في الأداء ومهارتها في استعمال الشعارات، هي تكوينات ما قبل سياسية، ذات تضامنات ما قبل مدنية، وقامت لأغراض منفصلة عن الدولة وخارج إطارها.    

هي أحزاب تعمَّق في داخلها الدافع الشخصي، وانقلب الأداء فيها من الارتقاء بالصالح العام إلى امتصاص لموارد الدولة

هي أحزاب تعمَّق في داخلها الدافع الشخصي، وانقلب الأداء فيها من الارتقاء بالصالح العام والتوزيع المنصف والعادل للموارد وفق قاعدة قانونية غير مشخصنة، إلى امتصاص لموارد الدولة وحصر المنافع بمجموعة تابعين ومنتفعين، ومن استقواء بقوة الدولة إلى مسعى مستمر لاختراق أجهزتها وتفتيت قدراتها. هي أحزاب، نشأت لتغليب أرادة على إرادة، وتعميم مناخ المهزوم والمنتصر، بدلا من من استهداف المجتمع بأسره والمواطن مطلقا لغرض توعيته أو تغييره، وتكوين توافق عام ورؤية مشتركة.

هي أحزاب تقتات على فناء الدولة وموتها، وتعمل على ضمان بقاءها بعد سقوطها

هي أحزاب تقتات على فناء الدولة وموتها، وتعمل على ضمان بقاءها بعد سقوطها.  هي أحزاب لم تمارس يوما أسلوب النقاش والإقناع، بقدر اعتمادها سلطة امتلاك الحقيقة، وترهيب المخالفين وهتك الخصوم بشتى الأسلحة.   

هذا ليس مبالغة أو تعبير استياء عن واقع منهار، بل هو توصيف لواقع هابط. كلما تعمقت الأزمة اللبنانية أكثر كلما تبين أننا ما زلنا في طور ما قبل السياسة، التي تسبق حتى مرحلة الدولة نفسها، طور الكائن الذي ما يزال الآخر عدوا له لا شريك، طور الغالب والمغلوب، المنتصر والمهزوم، طور تنازع البقاء.

 حين تجد أن أحزاب لبنان تتحصن وتعزل نفسها عن تداعيات الأزمة الحالية، وحين تراها تفصل حقيقتها ووجودها عن الدولة وتعد العدة لما بعد انهيار مؤسساتها، وحين تتجهز لكل الاحتمالات الممكنة بما فيها نهاية الكيان اللبناني نفسه، تدرك أن مرحلة بناء الدولة لم تبدأ بعد، وأن “حرب الكل ضد الكل” هو الوصف الأقرب لواقعنا الراهن. 

السابق
بعدما أقحم نفسه في «كمين» بحري.. «حزب الله» يضع حدا لتدخلات باسيل!
التالي
الحرارة فوق معدلاتها الموسمية.. هكذا سيكون طقس الأيام المقبلة