إيران من «الشاه المعمم» الى «تصدير الثورة»!

ايران

في بداية عام 1979 وتحديدا في الأول من شباط من ذلك العام ، حطت طائرة آية الله الخميني في مطار طهران عائدا من منفاه الباريسي بعد منفى دام حوالي 15 عاما، قضى معظمها في العراق، قبل أن يُطلب منه مغادرته إبان إندلاع الثورة ضد الشاه، ليستقر بعدها في فرنسا التي أمنت له الحماية و ” المنبر ” الإعلامي الذي أطل من خلاله على العالم .

في الحادي عشر من الشهر نفسه أُعلن عن سقوط حكم الشاه وإنتصار الثورة، التي قام بها الشعب الإيراني بغالبية أطيافه السياسية من يسار ويمين ووسط ، علمانيين ودينيين ، وإن كانت الصبغة الغالبة هي الصبغة الدينية بزعامة آية الله الخميني، الذي كان يملك كاريزما شعبية لا تقاوم الأمر الذي ساهم بتحويلها وتكريسها ك ” ثورة إسلامية ” بكل معنى الكلمة من حيث تأثيرها على حياة ومستقبل الشعب الإيراني ، وكذلك على المنطقة والعالم .

بعد تسلم آية الله الخميني السلطة، بدأ بترسيخ سلطته وإحكام سيطرته على البلاد عبر التطهير الدموي

بعد إنتصار الثورة وتسلم آية الله الخميني السلطة، بدأ بترسيخ سلطته وإحكام سيطرته على البلاد عبر التطهير الدموي لأنصار النظام السابق بحيث تم تنفيذ أكثر من 750 حكما بالإعدام، لكبار مسؤولي وشخصيات النظام البائد في العام الأول بعد إنتصار الثورة ، بعدها أعلن الخميني ما أسماه ” ثورة ثقافية ” وتسلم رجال الدين مسؤولية التعليم في البلاد، فكان أن بدأت حرب تصفيات جديدة وإقصاء سياسي، طال هذه المرة شخصيات وأحزاب شاركت في الثورة، وكانت من أشد المعارضين لنظام الشاه، كاليساريين والشيوعيين وحتى الشخصيات الوطنية المعتدلة، أمثال مهدي بازركان وغيره ، قبل أن تتمدد بعدها التصفيات إلى داخل الخط الديني، عبر إقصاء أو عزل بعض آيات الله من أمثال محمد كاظم شريعتمداري، وهو الذي كان قد تولى المرجعية في إيران عام 1961 وساهم بإنقاذ الخميني من الإعدام أيام حكم الشاه ، وكان من تلامذته السيد موسى الصدر وعدد كبير من علماء الشيعة في إيران وباكستان والهند ولبنان، لينتهي به الأمر تحت الإقامة الجبرية، بعد أن تعرض للإهانة وقيل يومها للضرب، وهو الرجل الثمانيني ، وللمنع من التدريس في الحوزة ، كما شاع يومها أنه لم يتلق العلاج اللازم إبان مرضه ما أدى لوفاته ودفنه سراً في الليل في مقبرة مهجورة، كما تم التنكيل بأتباعه ومريديه، وما هذا إلا لأنه عارض الخميني في نظرياته وفلسفته الدينية والسياسية المتمثلة بولاية الفقيه، التي أتخذت كأساس للحكم في إيران ما تزال سارية حتى اليوم .

إقرأ أيضاً: حسن فحص يكتب لـ«جنوبية»: الكاظمي في «حضن» السعودية تحت «العين» الايرانية!

هذا في الداخل الإيراني ، أما على الصعيد الخارجي فقد كان من أولى أولويات العهد الجديد، هو ما أطلق عليه مصطلح ” تصدير الثورة”، وكان من البديهي أن يكون الوطن العربي هو أول مستهدف بالتصدير، بحكم الجغرافيا وتاريخ العلاقة المتشابكة والملتبسة بين المكونين العربي والفارسي منذ القِدم، فكانت بداية مطالبات بدولة البحرين ومن ثم محاولات هز الإستقرار في العراق، كونه يشكل السد المنيع والقوي لتمدد المشروع الديني الإمبراطوري الوليد لإيران ووصوله إلى شواطئ المتوسط، وهو المشروع الذي فهمه مبكرا الرئيس العراقي السابق صدام حسين وأطلق يومها لقب “الشاه المعمم” على الخميني، تأكيدا منه أن لا فرق بين مشروع الشاه ومشروع الخميني إلا بالإسم ، علاوة على أنه – العراق – يضم هذا المكون الشيعي الكبير في محاولة للتأثير به، عبر العزف على وتر المظلومية المذهبية، غذاه حقد شخصي على صدام حسين من قبل الخميني، الذي لم ينس له إخراجه من العراق ، فكانت النتيجة إندلاع الحرب العراقية – الإيرانية التي دامت حوالي ثماني سنوات، وأُزهقت فيها عشرات آلاف الأرواح ودمر إقتصاد البلدين.

لم تجد إيران يومها أرضا خصبة لتدخلها إلا في لبنان الذي كان يعاني من حرب أهلية مدمرة

هذه الحرب كانت بالإضافة إلى تبني إيران للقضية الفلسطينية بإعتبارها قضية إسلامية عامة – وليست فقط عربية – بعد قطع العلاقات مع الكيان الصهيوني، وإستبدال سفارته بمكتب لمنظمة التحرير الفلسطينية يومها، كانت هي باكورة التدخل الإيراني في الشأن العربي، وهي الذريعة – أي القضية الفلسطينية – التي إتخذتها إيران لمحاولات التوغل إلى الداخل العربي، ولم تجد إيران يومها أرضا خصبة لتدخلها إلا في لبنان، الذي كان يعاني من حرب أهلية مدمرة ومن ثم من الإجتياح الصهيوني لأراضيه عام 1982، الذي واجهه العرب كالعادة بصمت القبور، فكانت فرصة سانحة لإيران سيما وأن المتضرر الأول من هذا الإجتياح والإحتلال، كان المكون الشيعي الذي كان يومها قد بدأ يراجع حساباته بعد التخلي العربي عنه، وهو المكون العروبي الأصيل الذي كان رافدا مهما لقوى الثورة الفلسطينية والأحزاب اليسارية والقومية، خاصة بعد إختفاء الإمام موسى الصدر بعد زيارته لليبيا في عهد معمر القذافي، وهو المحسوب يومها على الخط القومي العربي، رغم كل ما أثارته تلك الجريمة من علامات إستفهام عن علاقة ما بينها وبين الأحداث في إيران، خاصة بعد العلاقات المتينة التي نسجها نظام الخميني بعدها مع نظام معمر القذافي.

ظهرت حركة ” أمل الإسلامية ” بقيادة حسين الموسوي وكانت أول إشارة إلى مصادرة إيران للشعار “الإسلامي” وجعله وكالة حصرية بها

هذه الثغرة نفذت منها إيران لتبدأ بتنفيذ أجندتها ، فبدأت بحجة مواجهة الإحتلال الصهيوني ببناء نواة قوة لها، عبر إرسال وحدات من قوات الحرس الثوري إلى البقاع بقيادة أشخاص، كانوا قد تدربوا أصلا في المنطقة على يد المنظمات الفلسطينية إبان مواجهة الشاه من جهة، وبتمويل الإنشقاقات في حركة أمل العمود الفقري يومها لشيعة لبنان من جهة أخرى، بحجة أن رئيسها نبيه بري إرتضى أن يكون عضوا في هيئة الإنقاذ الوطني التي شكلها الرئيس اللبناني إلياس سركيس يومها، لمحاولة إنقاذ ما يمكن إنقاذه إلى جانب بشير الجميل وغيره من الزعماء اللبنانيين، وهكذا ظهرت حركة ” أمل الإسلامية ” بقيادة حسين الموسوي، وكانت أول إشارة إلى مصادرة إيران للشعار “الإسلامي” وجعله وكالة حصرية بها .

وهكذا بدأت الحكاية ، كان الشعار هو “تصدير الثورة” ولكن الهدف الحقيقي هو الدفاع عن مصالح إيران وتهيئة الأرضية لمشروعها الأمبراطوري الجديد تحت راية الإسلام، إنطلاقا من لبنان تحت ستار مقاومة الإحتلال الإسرائيلي، وهذا ما حصل عبر خطين متوازيين، الأول موجه للداخل اللبناني عبر الصدامات مع القوى الموجودة على الأرض في المناطق الإسلامية، بطريقة أقرب ما تكون للنموذج الذي طبق في إيران نفسها ضد اليساريين والشيوعيين و الوطنيين العلمانيين، فكانت الإغتيالات والتصفيات التي طالت الكثير من الشخصيات اليسارية والوطنية الثقافية والإعلامية والسياسية، ومن ثم إنتقل الصراع تماما كما في إيران إلى داخل الصف الواحد، فكانت الحرب بين حزب الله بعد أن تظهر بشكل علني وتنظيمي، وحركة أمل بدءا من الجنوب إمتدادا إلى بيروت مرورا بإقليم التفاح، التي دفع فيها الشيعة ثمنا باهظا قبل أن ترسي المعادلة على صيغة الثنائي، كإتفاق بين راعيي الطرفين سوريا وإيران .

الخط الثاني كان في مواجهة العالم في لبنان، هذا العالم الذي كانت ترى فيه إيران خصما مساندا للعراق في الحرب بينهما خاصة أميركا وفرنسا فكانت إستراتيجية “خطف الرهائن”، وهي الإستراتيجية التي كانت إيران قد إتبعتها في الداخل أيضا عندما إحتل متظاهرون إيرانيون السفارة الأميركية في طهران يوم 4 تشرين ثاني عام 1979، وإحتجزوا رهائن كرد على إستقبال أميركا بقيادة جيمي كارتر للشاه على أراضيها بعد خروجه من إيران، هذه الأزمة التي عرفت بأزمة الرهائن الأميركيين في إيران، والتي إستمرت لمدة 444 يوما وإنتهت بسقوط الرئيس الأميركي جيمي كارتر في الإنتخابات الأميركية لصالح المرشح الجمهوري رونالد ريغان، الذي أهدته إيران يوم تنصيبه في 20 كانون ثاني عام 1981 ورقة إطلاق سراحهم .

هذه الإستراتيجية بدأتها إيران في لبنان منذ العام 1982 عبر منظمات مجهولة، تحت أسماء متعددة ضد الرعايا الغربيين عامة والأميركيين والفرنسيين بشكل خاص، بحيث تم إختطاف حوالي 104 رهائن من 21 جنسية بين عامي 1982 و 1992، عام إغلاق هذا الملف بعد أن أدى قسطه للعلى، خاصة بعد إنتهاء الحرب الباردة وسقوط الإتحاد السوفياتي وإستقرار الأوضاع في لبنان بعد إتفاق الطائف، هذا الملف الذي إستغلته إيران أيما إستغلال للضغط على الدول الغربية في ظل حربها مع العراق فكانت صفقة أو فضيحة إيران – كونترا أو إيران غيت التي أبرمت بين الحكومة الإيرانية وإدارة الرئيس الأميركي رونالد ريغان عام 1985 وكأنها كانت رد التحية أو الهدية لإيران بأحسن منها عندما أهدته حل أزمة الرهائن السابقة الذكر ، وكانت هذه الصفقة تقضي ببيع إسرائيل “الغدة السرطانية” بحسب الأدبيات الإيرانية ، أسلحة لإيران لمواجهة العراق مقابل إطلاق سراح الرهائن الأميركيين في لبنان، وهكذا كان وإنفجرت الفضيحة عام 1986 بسبب نزاعات بين أطراف النظام الإيراني، وذلك عندما نشرت مجلة ” الشراع ” اللبنانية تفاصيلها وكان من نتيجتها إعدامات في إيران لمتهمين بالتسريب، ومحاولة إغتيال في لبنان لرئيس تحرير مجلة الشراع حسن صبرا نجا منها بأعجوبة .

ركزت إيران بالتوافق مع النظام السوري على دعم “حزب الله” في لبنان التي أثمرت تحريرا في العام 2000، ما أدى إلى إرتفاع أسهم حزب الله، وبطبيعة الحال أسهم إيران في لبنان والمنطقة

بعد العام 1992 وكانت الحرب العراقية – الإيرانية قد وضعت أوزارها، ودخل العراق مغامرة جديدة بغزو الكويت، إنتهت بحرب عاصفة الصحراء التي أخرجته من الكويت مهزوما ومحاصرا، تخللها محاولة من إيران للتوغل فيه عبر ما سمي يومها بالإنتفاضة الشعبانية في الجنوب، بعد هذا التاريخ ركزت إيران بالتوافق مع النظام السوري الذي لزم الوضع في لبنان مكافأة له بعد مشاركته في قوات التحالف لتحرير الكويت، وبعد نزع سلاح كل الميليشيات في لبنان بموجب إتفاق الطائف، بإستثناء حزب الله الذي لزم هو الآخر مقاومة الإحتلال الصهيوني، لما تبقى من أراض في الشريط الحدودي بالجنوب والبقاع الغربي حيث أبلى فيها بلاءاً حسنا، ركزت إيران على دعم هذه الحركة في لبنان التي أثمرت تحريرا في العام 2000، ما أدى إلى إرتفاع أسهم حزب الله، وبطبيعة الحال أسهم إيران في لبنان والمنطقة سيما على المستوى الشعبي .

جاءت أحداث الحادي عشر من سبتمبر عام 2001، لتزيد من أهمية إيران ودورها بالنسبة للولايات المتحدة التي بات همها الأول، محاربة ما أسمته الإرهاب الإسلامي، وهو هنا بمعنى السني ، فكان غزو أفغانستان والعراق وإحتلالهما نقطة تقاطع مصالح بين الجانبين، إن لم نقل نقطة توافق وتعاون، وهو الأرجح إذ كيف لنا أن ننسى زيارة الرئيس الإيراني السابق محمود أحمدي نجاد إلى العراق المحتل تحت سمع وبصر وبوجود الحواجز العسكرية للقوات الأميركية، الأمر الذي فتح الطريق لإيران لتقاسم النفوذ مع أميركا في هذا البلد والنفاذ عبره إلى شواطئ المتوسط في سوريا ولبنان في ما يعرف بالهلال الشيعي ، ترافق ذلك مع تراجع الدور العربي بل تلاشيه تماما، بعد سقوط نظام صدام حسين في العراق وإغتيال ياسر عرفات في فلسطين بعد حصار دام سنتين، ومن ثم إغتيال الرئيس رفيق الحريري في لبنان الذي أدخل لبنان والمنطقة في حالة فقدان توازن، وأعطى الفرصة لإيران للتمدد أكثر عبر “الفوضى الخلاقة” التي قالت بها أميركا ونفذتها إيران مستغلة الوضع بعد إندلاع ثورات الربيع العربي مؤيدة في البداية بحيث إعتبرته “صحوة إسلامية”، قبل أن يصل الموسى إلى لحية حليفها الإستراتيجي النظام السوري، لتنقلب بعدها وتكشر عن أنيابها لتعيث قتلا وفسادا وخرابا في المنطقة بأسرها، من العراق ولبنان إلى سوريا واليمن لينتهي الأمر بها، وهي تتباهى بأنها تسيطر على عواصم هذه الدول العربية ليتبدل بذلك “الرهائن” من أشخاص أفراد إلى دول وشعوب بأكملها.

وللأسف من بينها بلدنا الذي هو رهينة السياسات والصفقات والمساومات، وما أزمة تشكيل الحكومة اليوم إلا دليل وتأكيد لما نطرح، وهو شيء ليس بالجديد فقد خبرناه في السابق في أزمة تشكيل الحكومات جميعها تقريبا بعد إتفاق الدوحة الشهير عام 2008، وكذلك في إسقاط حكومة الحريري بداية عام 2011، ومن ثم في فرض تشكيل حكومة الرئيس نجيب ميقاتي تحت ضغط القمصان السود، وكل هذه الأزمات جاءت في إطار الضغط والمساومة في معركة الإتفاق النووي يومها بين إيران وإدارة أوباما، وبعدها في أزمة إنتخاب رئيس الجمهورية، الذي يمكن أن نقول بأنه فرض فرضا على اللبنانيين.

الحقيقة في واد آخر وما هذه البلدان والشعوب سوى “رهينة” لتحقيق المشروع الصفوي الإيراني

اليوم وإيران تعيش أجواء التفاوض مع أميركا لإعادة الروح للإتفاق النووي، بعد سقوط إدارة دونالد ترامب الذي سبق وألغت هذا الإتفاق، في ظل هذه الأجواء تعود “حليمة ” التي هي إيران، لعادتها القديمة في إستعمال أوراقها سواء في اليمن أو في لبنان ونسبيا في العراق، للضغط على شعوب هذه الدول بالدرجة الأولى، الذين يدفعون الثمن من دمائهم وأرواحهم وصحتهم وإقتصادهم في سبيل شعارات جوفاء، تطلقها عن تحرير القدس والأقصى، وقرب الإنتصار على الظالمين ، بينما الحقيقة في واد آخر وما هذه البلدان والشعوب سوى “رهينة” كما كان الرهائن الأفراد في السابق، لتحقيق المشروع الصفوي الإيراني للسيطرة على المنطقة، وهنا مكمن الخطورة فإختطاف رهينة فرد قد ينتهي بمأساة فردية وشخصية للمخطوف وأهله، أما إختطاف البلدان والشعوب فقد ينتهي بمأساة جماعية حاضرا كما هو حاصل اليوم، ودمار مستقبلي لعشرات إن لم نقل لمئات السنين القادمة .

السابق
عداد الإصابات بكورونا يُعاود إرتفاعه.. كم سجّل اليوم في لبنان؟
التالي
ضربة مؤلمة للحرس الثوري في البحر الأحمر.. هجوم على سفينة إيرانية ووقوع إصابات!