عندما يتحدث اللبنانيون.. بالصيني!

لبنان

ما زال اللبنانيون يقرأون في كتاب ساد طويلا خلال حقبة الحرب الباردة وحتى عام 1990. كلما تحدثت مع مفكر أو مسؤول أو ثائر، تراه يذهب بي إلى تلك المرحلة. كأن لبنان والعالم تجمّدا هناك.

الحقيقة أن اللبنانيين يتحدثون فيما يعرفون. ومن الطبيعي ان لا يتحدثوا فيما يجهلون. كم من اللبنانيين قرأ مفهوم النظامين السياسي والإقتصادي الدوليين الجديدين؟ العالم اليوم ليس ذاته عالم ما قبل عام 1990. فإذا أدركنا وقبلنا هذا المبدأ، فإنه يمكن أن نسمح لعقولنا باستيعاب المعطيات الجديدة. اللبناني ذكي وقدير، ومن المفترض أنه عندما يدرك المعطيات الجديدة، أن ينظر بحكمة أكثر في كيفيّة رسم أفكاره.

اقرا ايضاً: خاص «جنوبية»: عون والحريري يوافقان على «الـ24».. والشيطان يكمن في الحقائب!

طالعنا الإعلام مؤخرا، بخبر هام مفاده أن الصين وإيران، وقعتا إتفاقا للشراكة الإستراتيجيّة بين البلدين، تشمل التعاون في المجالات السياسيّة والإقتصاديّة والتقنيّة، إلى جانب التعاون الدّفاعي والعسكري. وقد إعتبرت جهات أميركية أن هذا الإتّفاق يقوّض الجهود الأميركيّة لإبقاء إيران معزولة. كما وصفه مفكرون لبنانيون بالإتفاق الزّلزال، معتبرين أنه يقلب موازين القوى في الشرق الأوسط، ويتيح لإيران الحصول على موارد ماليّة، تمكّنها من تمويل أجهزتها بما فيها الحرس الثوري والميليشيات المرتبطة بإيران من العراق إلى سوريا فلبنان فاليمن. ويضيفون أن الولايات المتحدة ستكون خاسرة فهي تلهّت بملفّات كثيرة وامتنعت عن حسم ملف الإنفلات الإيراني في المنطقة العربية، منذ أن سيطرت على العراق بعد حرب عام 2002 .

اسمح لنفسي مخالفة هذا التحليل، وأعيد التذكير ببعض المفاهيم الأساسيّة التي أعتقد أنه يجب اخذها بعين الإعتبار قبل ان نرسم مثل هذه النتائج السوداويّة للبعض، والمفرحة للبعض الآخر.

  • أولا: إن من يراجع نتائج مؤتمر قمة مجلس الأمن عام 1992، وما تلاه من تطورات، وحتى حصول الأزمة المالية الدوليّة عام 2008، يدرك أن الصراع بين الجبابرة، لم يعد صراعا سياسيا بل إقتصاديا. فالصّراع الإيديولوجي إنتهى. ويدرك أن للصّراع الإقتصادي إطارا محدّدا هو النظام الإقتصادي الليبرالي الذي يؤطّره نظام بريتون وودز لعام 1944. كل الدول الكبرى هي الآن أعضاء في منظمة التجارة الدوليّة، وفي منظمة النقد الدولي والبنك الدولي. لذلك فمن الضروري جدا أن تتركّز أيّة قراءة موضوعيّة للأحداث في منطقتنا على هذا المنطلق.
  • ثانيا: أنا لا أعتقد بان الولايات المتحدة كانت تتلهى في ملفات كثيرة منذ ان قررت غزو العراق، بما في ذلك الإمتناع عن اتخاذ بعض المواقف الحاسمة بوجه إيران. واشنطن كانت وبكل بساطة، تفتح الباب أمام التطور التدريجي لسياسة “الفوضى الخلاقة في المنطقة”. فقد كان غزو العراق بداية إنجاز خارطة الشرق الأوسط الجديد. ومفهوم “الفوضى الخلاقة” يعني ترك الحالة ترسم مخارجها بغاية تحقيق هدف محدد. كان الهدف المحدد يقضي بإزالة الغطاء القومي عن الصراع العربي الإسرائيلي، من خلال تفتيت الدول العربية في إطار مجموعات دينية وطائفية، تضعف هذه الدول وتبدّل من مفاهيمها الإستراتيجية التي اقامتها على الأساس العقائدي القومي. ومن ثم الإفساح أمام بناء شرق شرق أوسطي جديد يضمن قبل كل شيء التفوق الأمني الدائم لإسرائيل، ويتيح إندماجها في هذا المحيط. أما مفهومه فهو إقتصادي وينتج سوق إقتصاديّة تخدم كل عضو في هذا السوق، مهما كان صغيرا، وبالتعاون مع اللاعبين الدوليين الفاعلين. أعتقد أن الهدف المحدد قد تحقق. إيران الشيعية، قامت بمهمتها في هذا الإطار، إلى جانب تركيا السنيّة. يبقى رسم المخارج الأخيرة لطي صفحة الشرق الأوسط الجديد. وهذا ما يحصل الان. تماما كما تم طي صفحة يوغسلافيا السابقة بعد طول معاناة.
  • ثالثا: تدرك الصين حقيقة الهدف الأميركي. وهي بالطبع لا تعارض هذا الهدف. فالصين تضع في الحسبان جيدا مصلحة إسرائيل، في أيّة خطوة من خطواتها، ولن تسمح بان تصبح في موقع عدائي معها. هي عرضت إستضافة المحادثات المباشرة بين الإسرائيليين والفلسطينيين. فبالنسبة إلى نيويورك تايمز فإن هذا العرض هو تلميح إلى أن الهيمنة الأميركيّة في المنطقة، أعاقت السلام والتنمية، فيما أنا أرى أنه رسالة إلى إسرائيل بانها صديق لا يقل إخلاصا في صداقته لها، عن أميركا وأيضا عن روسيا.
  • رابعا: أنا أعتقد أن تجربة الصين مع القيادة الأميركية خلال عهد الرئيس أوباما ونائبة  الرئيس الحالي بايدن، أكدت لها أن الولايات المتحدة لا تهدف إلى ضرب نظامها من الداخل، أو تهديد مصالحها في العالم، بل إعادة التوازن إلى دورها الإقتصادي. هي تعلم ان ما تريده أميركا قبل كل شيء هو المحافظة على نظام بريتون وودز الإقتصادي لعام 1944، حيث ان الدولار يحكم الحركة المالية والتجارية في العالم. الصين دخلت في منظمة التجارة العالمية، وحوّلت مطالبها في مجموعة بريكس، إلى غطاء لنظام مصرفي يعزز من دورها كقوة إنمائية في العالم، من خلال دور مشابه لدور البنك الدولي، ويحافظ على نفوذها الإقتصادي الدولي. ونذكر تماما أنّه عندما روّج الإعلام الأميركي عام 2013 ، بعودة الولايات المتّحدة إلى آسيا، سارعت بكين إلى إرسال رسائل إلى واشنطن من خلال كوريا الشمالية، حين هددت هذه الأخيرة في حينه، بهجمات نووية على الولايات المتحدة. تمّ توضيح الأمور، وتم ترجمة التوضيحات من خلال تبادل ادوار حيث وقعت الولايات المتحدة إتفاقية التعاون عبر الباسفيك مع دول أسيوية، ووقعت الصين إتفاقيات مع دول كثيرة في اميركا اللاتينية بما في ذلك المكسيك.
  • خامسا: كنا من أول المتوقعين أن تمنح إيران جوائز إثر الدور الذي لعبته في تحقيق الهدف المحدد في الخريطة الجديدة للشرق الأوسط. وقلنا أن هذه الجوائز تشمل علاقات إقتصادية واسعة مع الصين. أنا لا أعتقد أن الولايات المتحدة ترى هذا الإتفاق مخيبا لسياساتها الإستراتيجية العامّة وتحديدا في الشرق الأوسط. فمنذ إندلاع أحداث سوريا إتخذت الصين بداية مواقف معيقة للسياسات الأميركية في ذلك البلد، فمنحتها إعترافا باليوان الصيني كعملة صعبة. ومنذ ذاك الحين لم نعد نرى دورا هاما للصين في ذلك البلد. توقيع الإتفاق الإيراني الصيني يؤكد قرب النهاية لصفحة الشرق الأوسط الجديد.

في الخلاصة: إيران لن تعود إلى العراق ولا إلى سوريا ولا إلى لبنان. بل هي تخرج من هذه الدول. قلنا أن الهدف الأميركي الإستراتيجي تحقق، لكنه يتم الآن رسم المخارج الأخيرة لطي صفحة الشرق الأوسط. قلنا ذلك مرارا. قلنا أننا في نهاية النفق. والمطلوب واحد فقط، وهو أن ننقذ بلدنا في لعبة رسم المخارج الأخيرة. وصلتنا المؤشرات الأكيدة. لبنان دولة محايدة بحماية كل العالم. لبنان سيكون ركيزة الحضور المسيحي في هذا الشرق، ودولة نموذج للعيش المشترك، وجسرا ثقافيا بين الغرب والشرق. كفى تلهيا في الحسابات الداخليّة. حزب إيران في لبنان ينتظر نتيجة المفاوضات القائمة مع إيران لرسم موقعها في المخارج الأخيرة، وعلينا أن ننشط ليكون موقع لبنان بحجم طموحاتنا السياديّة والإقتصاديّة. في عام 1920، عقد مؤتر فرساي وأمكن للبنانيين أن يحققوا لبنان الكبير، هم شاركوا في مؤتمر صناعة القرار العالمي حينه، شكرا لغبطة البطريرك الحويك ومن دعمه من رجالات الدين الأحرار. نحن الآن وبعد مئة عام، في الموقع ذاته. وقد طالبنا غبطة البطريرك بأن يلعب دور سلفه، فيذهب إلى فرساي هذا القرن، أي إلى نيويورك حيث الأمم المتّحدة، وبرفقة قادة روحيين من كل الطوائف، فيطالب هناك بموقع لبنان الكبير الذي نطمح إليه في هذه الخارطة الشرق أوسطيّة الجديدة. 

السابق
عون يزور بكركي بعد جفاء.. فهل تتوقف انتقادات الراعي للعهد؟
التالي
عروس بيروت في جزء ثالث.. العميد علي جابر يحسم الجدل