الغرام المستحيل.. هل دعمت إيران حقا تنظيم القاعدة السني؟

ايران

يستكشف الباحث كول بنزل من معهد هوفر الأميركي حقيقة التكهنات حول وجود علاقة بين قادة تنظيم القاعدة والنظام في إيران، حيث كان وزير الخارجية الأميركي السابق مايك بومبيو أشار في خطاب له في يناير/كانون الثاني الماضي إلى أن القاعدة تتخذ من إيران قاعدة جديدة لعملياتها. ويُحلِّل بنزل في مقاله المنشور في مجلة “فورين أفيرز” مدى صحة هذا الاتهام، ويسرد بدايات العلاقة بين القاعدة وطهران قبل هجمات 11 سبتمبر/أيلول، ويطرح إجاباتٍ محتملةً عن السؤال المثير المتعلق بحجم التعاون بين تنظيم القاعدة وإيران، والأسباب التي تدفع الطرفين لمواصلة العلاقات رغم الخلاف الأيديولوجي المحتدم بينهما.

ألقى وزير الخارجية في الإدارة الأميركية السابقة، مايك بومبيو، خطابا في 12 يناير/كانون الثاني، في فعالية استضافها نادي الصحافة الوطني بالعاصمة واشنطن، اتهم خلاله إيران بأنها أصبحت “بيت تنظيم القاعدة الجديد”، وزعم “بومبيو” أنه بعد 30 عاما من تعاون إيران والقاعدة فإنهما ارتقيا بعلاقتهما إلى مستوى جديد في السنوات الأخيرة. ومن المفترض -وفقا لبومبيو- أن إيران قرّرت في عام 2015 “السماح للقاعدة بتدشين مقارّ عمليات” على أراضيها، وأصبحت الجماعة الإرهابية الآن “تعمل تحت حماية النظام الإيراني”.

إقرأ أيضاً: حسن فحص يكتب لـ«جنوبية»: «تانغو» امريكي ايراني!

يُعتَبر بومبيو بالكاد السياسي (أو المحلل أو الخبير) الأميركي الوحيد الذي يتهم إيران بتقديم دعم للقاعدة، لكن اتهامه كان من نوع آخر تماما. وقد رفض الكثير من المستمعين تصريحات بومبيو معتبرين أنها بروباغندا تهدف إلى قطع الطريق أمام آمال إدارة بايدن، التي كانت حينها على بُعد أيام من تولّي زمام البلاد، في التقارب مع طهران. لكن على الرغم من أن ادّعاء بومبيو مبالغٌ فيه، فإنه يستند إلى بعض الحقيقة: ففي عام 2015، وقع شيء بالفعل بين القاعدة وإيران، حيث كانت طهران وقتئذٍ تحتجز عددا من قادة القاعدة داخل أراضيها، وفي عملية تبادل محتجزين مع الجماعة الإرهابية، ضمنت طهران حرية الحركة لهؤلاء القادة مما سمح لهم بالإشراف على العمليات الدولية للتنظيم بسهولة أكبر مما مضى. وبالتدقيق في مثل هذه الترتيبات، نجد أنه من الصعب التسليم بوجود تحالف حقيقي بين إيران والقاعدة، وبصورة أوضح، يمكننا أن نقول إن النظام الإيراني والتنظيم الإرهابي ينسقان بعض المسائل فيما بينهما، لكن الأمر ليس على تلك الصورة التي يرغب البعض في تصديقها حول كونهما شريكين كاملين في العمليات.

يُعتَبر وجود نمط من التنسيق بين إيران والقاعدة من الحقائق الراسخة. بحسب تقرير “لجنة 11 سبتمبر” (لجنة تشكّلت في نوفمبر/تشرين الثاني 2002 لإعطاء تقرير مفصل حول هجمات 11 سبتمبر/أيلول 2001) فإنه في التسعينيات، “سافر أعضاء ومدرِّبون بارزون في القاعدة إلى إيران لتلقي تدريبات على المتفجرات، فيما تلقّى آخرون التوجيه والتدريب من حزب الله في لبنان”، وفي السنوات التي سبقت هجمات 11 سبتمبر/أيلول “سافر عدد من مختطفي الطائرة من أتباع تنظيم القاعدة عبر الأراضي الإيرانية”. وكشف التقرير أيضا أن “الانقسامات السنية الشيعية لم تُشكِّل عائقا قاهرا أمام التعاون في العمليات الإرهابية” بين القاعدة وإيران.

على الرغم من أن قيادة القاعدة تنتمي إلى الحركة السنية الجهادية شديدة المعارضة للشيعة، فإنها لطالما سعت إلى تقزيم التوترات الطائفية لتحقيق هدفها الإستراتيجي الجوهري، وهو طرد القوات العسكرية الأميركية من الشرق الأوسط، وهو الهدف ذاته الذي تتبنّاه إيران بالطبع، ولذلك ربما يكون من المتوقع وجود مستوى ما من التعاون بينهما.

ومع ذلك، وكما ذكر الباحث في مكافحة الإرهاب عساف مقدم، فإن علاقة القاعدة بإيران لم ترقَ أبدا إلى ما هو أكثر من “تعاون تكتيكي”، حيث سمحت إيران للقاعدة باستخدام أراضيها بوصفها “محطة تسهيل”، حسب ما صاغه مؤسس القاعدة أسامة بن لادن في خطاب له عام 2007 قائلا إن إيران بالنسبة إلى تنظيمه “هي الشريان الرئيسي للتمويل والجنود والاتصالات”، لكن إيران وضعت أيضا قيودا على قادة القاعدة الذين يعيشون هناك، واتسمت العلاقة بين الطرفين بفترات من الضغط والتوتر الشديدين.

سعى عدد هائل من عملاء القاعدة، عقب هجمات 11 سبتمبر/أيلول، إلى اللجوء إلى إيران، وتحقّق لهم ذلك بالفعل، لكنهم أُلزموا بمستويات متفاوتة من الاحتجاز والإقامة الجبرية. رأى بعض أولئك العملاء أن ظروف الاحتجاز غير مقبولة، وكان من بين هذه الظروف وضع قيود على التواصل مع العالم الخارجي. وقد درست العالمة السياسية نيللي لحود آلافا من الوثائق الداخلية للقاعدة، التي استُعيدت من المُجمَّع الذي قُتل فيه ابن لادن عام 2011 في مدينة أبوت آباد الباكستانية، ولاحظت أن الرجال المقيمين في إيران كانوا “أبعد ما يكونون عن العمل التنفيذي”، بل إنهم في الواقع كانوا “واقعين في اليأس”، إلى درجة أنهم نظَّموا احتجاجات ضد محتجزيهم من الإيرانيين، واستغاثوا برفاقهم في الخارج ليتدخّلوا لصالحهم.

اشتكى بعض هؤلاء الرجال، في خطاب إلى قيادة القاعدة في منطقة أفغانستان – باكستان عام 2010، حبسَهم “في سجن الاستخبارات الإيرانية الظالم”، مُبدين عدم رغبتهم في شيء سوى الفرار، وطلبوا من “إخوانهم في خراسان” -في إشارة إلى منطقة تاريخية كانت تجمع أجزاء من أفغانستان وإيران- اتخاذ ما يلزم لتأمين إطلاق سراحهم، إلى درجة أنهم طالبوا رفاقهم باختطاف مسؤولين إيرانيين والتفاوض سرا على مبادلتهم مع الحكومة الإيرانية، وهو المقترح الذي كانت القاعدة شرعت في تنفيذه بالفعل.

اتفقت إيران والقاعدة عام 2010 على عملية تبادل المحتجزين التي شهدت إطلاق سراح عدد من أعضاء تنظيم القاعدة البارزين، بمَن فيهم حمزة نجل ابن لادن، في مقابل دبلوماسي إيراني اختُطف في باكستان عام 2008. وبعد عدة سنوات، وتحديدا في 2015، تمت عملية تبادل أخرى، تضمّنت دبلوماسيا إيرانيا كان فرع القاعدة في اليمن قد اختطفه عام 2013، وتُفسِّر هذه العملية الثانية سبب الحرية التي يعيشها أفراد معينون من أعضاء التنظيم داخل إيران.

تضمّنت عملية تبادل المحتجزين في 2015، بحسب صحيفة “نيويورك تايمز” وعدد من وسائل الإعلام الأخرى، إطلاق سراح خمسة من أعضاء القاعدة البارزين من الاحتجاز الإيراني، بينهم ثلاثة مصريين هم سيف العدل، وأبو محمد المصري، وأبو الخير المصري، وأردنيان اثنان هما أبو القسام، وساري شهاب، وذلك مقابل الدبلوماسي الإيراني المختطف في اليمن. لكن هذه ليست القصة كاملة.

في عام 2017، ظهرت تفاصيل أخرى عن هذه الصفقة في خضم خلاف جهادي داخلي على خلفية قرار اتخذه فرع القاعدة في سوريا، مُتمثِّلا في جبهة النصرة، بالانشقاق عن تنظيم القاعدة الأم وتكوين جماعة مستقلة. عُرفت هذه الجماعة باسم “هيئة تحرير الشام”، وهي تسيطر الآن على رقعة من الأراضي في شمال غرب سوريا، وتبقى علاقتها بالصفوف الأمامية لتنظيم القاعدة متوترة على أفضل تقدير.

ألقى زعيم تنظيم القاعدة أيمن الظواهري خطابا، في أكتوبر/تشرين الأول 2017، أدان فيه نكث “هيئة تحرير الشام” وعدها بالولاء للتنظيم الأم وسعيها إلى إشعال فتيل أزمة قومية في سوريا، وتلا ذلك حرب كتابية بين عبد الرحيم عطون، المسؤول البارز في هيئة تحرير الشام، الذي سعى للدفاع عن قرار الجماعة بالانشقاق، وبين عضوين بارزين في تنظيم القاعدة هما سامي العريدي، وأبو القسام الأردني المشار إليه سابقا. وفي خضم هذه الحرب الكلامية جذب الرجلان الانتباه إلى الصفقة التي تمت في 2015 بين القاعدة وإيران، التي أدّت إلى إطلاق سراح قادة القاعدة الذين أشرفوا على انشقاق “جبهة النصرة” عن التنظيم الأم.

تضمّن تبادل المحتجزين في 2015، بحسب عطون، ستة أعضاء من القاعدة كانوا محتجزين لدى إيران، أُطلِق سراح أربعة منهم وسُمِح لهم بمغادرة إيران، ثم انتقلوا إلى سوريا، بينما أُطلِق سراح الاثنين الآخرين ولم يُسمح لهما بمغادرة إيران. كان الأربعة الذين سافروا إلى سوريا هم أبو الخير المصري، مصري الجنسية، وأبو القسام، أردني الجنسية، و”مُرافقان” اثنان هويتهما غير معلومة. أما الاثنان اللذان بقيا في إيران فهما المصريان: سيف العدل، وأبو محمد المصري.

كان أبو الخير المصري، في وقت إطلاق سراحه، بمنزلة النائب الأول للظواهري. ففي غياب قائد تنظيم القاعدة، الذي كان منعزلا عن العالم الخارجي لمدة عامين بحسب عطون، شكَّل أبو الخير مجلس قيادة مع سيف العدل وأبو محمد المصري، الموجودَيْن في إيران، للنظر في القرارات المهمة. وعندما طُرح طلب فرع القاعدة في سوريا بالانفصال عن التنظيم الأم، انقسم المجلس، حيث وافق أبو الخير الموجود في سوريا على الخطوة، بينما رفضها القياديان الموجودان في إيران، ولكن في النهاية، حدث الانفصال رغم رفض الأخيرَيْن.

من وجهة نظر عطون، لم تكن مواقف القائديْن الموجودين في إيران ذات أهمية، إذ إنهما كانا “أسيرين لدى دولة العدو إيران”. واعترض أبو القسام في رده على وصف وضع الرجليْن في إيران على أنه أسر أو احتجاز، وذكر أبو القسام في خطابه: “عقب تبادل الأسرى الذي تحيط به علما، فإنهما (سيف العدل وأبو محمد المصري) غادرا السجن، وهما ليسا أسيرين بالمعنى المقصود من كلمة مثل هذه، لكنهما ممنوعان من السفر إلى أن يحين الوقت الذي يشاء فيه الله مغادرتهما. إنهما يتحركان ويعيشان حياة عادية عدا أنهما غير مسموح لهما بالسفر”.

يبدو أن هذه التأكيدات تدعم ادعاء بومبيو بأن نواب أيمن الظواهري يعيشون حياتهم بحرية نسبية في إيران اليوم، لكن وزير الخارجية السابق يذهب إلى أبعد من ذلك مدعيا أن طهران تستضيف قادة القاعدة لأنها تسعى إلى تيسير عمليات التنظيم الإرهابية، إذ يقول بومبيو: “إنهما شركاء في الإرهاب، وشركاء في الكراهية”. ومع ذلك فإن أبو القسام يُصوِّر أن العلاقة مع إيران بعيدة كل البُعد عن الشراكة، وبحسب تصريحاته، فإن حرية حركة قادة القاعدة في إيران كانت فوزا صعبا، إذ إنها تحققت نتيجة عملية تبادل المحتجزين التي تمت في 2015. بعبارة أخرى، لم تمنح إيران هذه الحرية بإرادتها، لكنها فعلت ذلك كَرها، وعلاوة على ذلك فإن نواب الظواهري ليسوا في إيران طواعية، وإنما ممنوعون من المغادرة وفق شروط إطلاق سراحهم من الاحتجاز الإيراني.

لماذا قد تُصِرُّ إيران على إبقاء قادة القاعدة أولئك في البلاد؟ الإجابة المُرجَّحة هي أن إيران تريد ضمان ألا تشن القاعدة هجمات ضدها. قاتلت قوات القاعدة جماعات مدعومة إيرانيا في أنحاء الشرق الأوسط، بما فيها حزب الله اللبناني، وجماعة الحوثي في اليمن، كما يُكِن الكثير من أعضاء القاعدة ضغينة عميقة في نفوسهم تجاه الإيرانيين. وفي هذه الأثناء، فإن أبناء عمومة تنظيم القاعدة أيديولوجيا، وهو تنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، زعم تنفيذ عمليات على الأراضي الإيرانية، بما في ذلك هجمات على قادة القاعدة في البلاد الذين هم بمنزلة نوع من الضمان أو التأمين الاحتياطي للنظام الإيراني.

لكن وجود هذه الشخصيات في إيران لا يستلزم بالضرورة استنتاج أن طهران تُقدِّم حاليا دعما ماديا لعمليات القاعدة، إذْ لم يخرج أي دليل إلى العلن يدعم هذا الادعاء. لا يُظهِر مقتل أبو محمد المصري في طهران في أغسطس/آب الماضي، على يد عملاء إسرائيليين حسبما أُعلن، إلا أنه كان يعيش بحرية فعلا في إيران، وهو ما لم يكن ممكنا لولا عملية تبادل المحتجزين عام 2015. من المحتمل أن سيف العدل هو نائب الظواهري الوحيد المتبقي الذي يتمتع بهذا المستوى من الحرية في إيران اليوم، ومع ذلك فهناك أعضاء آخرون في القاعدة يُعتقد أنهم داخل إيران حاليا.

يجب تحميل إيران المسؤولية لتسامحها مع نشاط القاعدة على أراضيها، فليس بالأمر اليسير أن يتمتع الرجل، الذي من المفترض أنه الرجل الثاني في القاعدة، بالحرية التامة في العاصمة الإيرانية، لكن في الوقت نفسه، يجب على الإدارة الأميركية الجديدة الكف عن الخلط بين التهديدات التي تُشكِّلها كلٌّ من إيران والقاعدة، والكف أيضا عن المبالغة في تقدير مدى التعاون بينهما. إنهما تحديان منفصلان يحتاجان إلى تقييمهما بمعزل عن بعضها بعضا، فبينما يتركّز التحدي الإيراني على برنامجها النووي ومغامراتها الإقليمية، فإن تحدي القاعدة ينصب على التهديدات التي يُشكِّلها التنظيم على الأراضي الأميركية، وحركات التمرد التي يغذيها في وسط أفريقيا وشرقها وأماكن أخرى.

كما يجب على الإدارة الجديدة تجنُّب التقييمات المُسيَّسة للتهديدات التي يُشكِّلها تنظيم القاعدة. فقد صوّرت الإدارة السابقة القاعدة على أنها تهديد ينزوي حينما كانت تحاول التقليل من مخاطر الانسحاب من أفغانستان، في حين أنها صوّرت التنظيم على أنه قوة حاشدة حينما كانت تريد تأكيد التهديد الذي يُشكِّله النظام الإيراني، ومن المؤكد أن كلا الوصفين لا يمكن أن يكون دقيقا في الوقت ذاته.

يترقّب تنظيم القاعدة أن يستفيد استفادة كبيرة من الانسحاب الأميركي من أفغانستان، في حين يبدو أنه لم يجنِ إلا القليل من وجوده في إيران. حافظت حركة طالبان، التي توصلت الولايات المتحدة إلى اتفاق معها في فبراير/شباط 2020 ستنسحب بمقتضاه القوات الأميركية كليا بحلول مايو/أيار 2021، على علاقة مع القاعدة على الرغم من الوعود بقطع الدعم، حتى إن القاعدة تعتبر طالبان سلطتها العليا وتتصور أن أفغانستان هي أرض الخلافة في المستقبل، وهو الطرح الذي لم تدحضه طالبان.

من ناحية أخرى، فإن عملية تبادل المحتجزين في 2015 بين إيران والقاعدة لا يبدو أنها أعطت دفعة لقضية التنظيم، فبدلا من توفير ملاذ آمن جديد للقاعدة، يبدو أن اتفاق التبادل مع إيران قد أضرَّ بالجماعة أكثر مما أفادها. فمن بين قادة القاعدة الستة الذين أُطلق سراحهم في العملية التبادلية، قُتل أربعة على الأقل؛ ثلاثة في سوريا وواحد في إيران، وهذه الاغتيالات ليست سوى جزء من عمليات أخرى كثيرة في السنوات الأخيرة دمّرت القيادة المهيمنة للتنظيم. وإذا قُدِّر للقاعدة استعادة قوتها في السنوات المقبلة فمن المُرجَّح أن يحدث ذلك في أفغانستان وليس في إيران.

السابق
انخفاض ملحوظ بسعر صرف الدولار عقب زيارة الحريري الى بعبدا.. كم سجّل؟
التالي
بالصورة: نصرالله يصل الى غالونات الزيت.. «لعيونك يا سيد»!