نداء إلى الدياسبورا اللبنانية الجديدة

لبنان

أتصوّر تجربةً سياسية لبنانية للدياسبورا بعنصريها النخبوي والانتشاري ناجحة ولكن بتكوين مختلف عن، بل معاكس لتجربة الوكالة اليهودية في المشروع الصهيوني الذي ولّد دولة إسرائيل ولا زالت الدياسبورا اليهودية أحد عناصر حماية ودعم الكيان العبري.
أقول عكس الوكالة اليهودية ليس لأنها يهودية وإسرائيلية وأخشى تلطيخ سمعة الدياسبورا اللبنانية بسببها. فالدياسبورا الفلسطينية التي هي ضحية مطلقة وكاملة ومباشرة لولادة إسرائيل قاتلت وتقاتل إسرائيلَ بأساليب المشروع الصهيوني بل تقمّصت من حيث الفعالية والشرعية المعكوسة عملَ الوكالة اليهودية وهذه من أبرز وأعمق معادلات التاريخ السياسي الذي هو تاريخ إنساني مهما توحّش….. المعادلة العميقة: “والضدُّ يصبح مثله الضدُّ” كما يمكن لي أن أحوِّر بيت الشِّعر العربي الشهير. وأختم هذا الاستطراد لأقول أن الدياسبورا الفلسطينية كاملة الحق التاريخي والوطني والحياتي في التقمص الصراعي للدياسبورا اليهودية وهي تقاتل وتقاوم إسرائيل في مسار سعيها للحصول على حقوقها المشروعة ضمن التسوية الخلاقة التي وصلت ووصل إليها المجتمع الدولي والعرب في اقتسام فلسطين (والقدس طبعاً) على قاعدة 20 مقابل 80 في المائة التي لا يزال يرفضها ويتجاوزها ويكسرها اليمين الإسرائيلي رغم أن إسرائيل تنال ال 80 بالمائة.

اقرأ أيضاً: هل تسعى القوات اللبنانية لملاقاة حزب الله على حساب دماء المعارضين الشيعة؟

التجربة الدياسبورية اللبنانية من المفترَض أن تقوم على عكس فكرة “الوكالة”. فهي لا حاجة لها كالصهاينة للاستيطان القسري ولا كالفلسطينيين لحقِّ العودة، وإنما هي كاملة الحضور والحقوق في العلاقة مع الداخل بل باتت اليوم، أي هذه الدياسبورا اللبنانية تشكل ليس فقط الأكثرية العددية كما يحلو للفكر الاغترابي التقليدي اللبناني، وخصوصاً في شقه المسيحي السياسي ، أن يبشِّر ويذكّر في جدله مع الشقوق المسلمة، بل هي، وهذا هو الجديد، تشكل الأكثرية النخبوية المتنوعة التي باتت موجودة في الخارج وخصوصا الغربي. الوكالة اليهودية كانت بلا وطن. فجعلت الفلسطينيين بلا وطن. الدياسبورا اللبنانية لديها وطن وعلى صلة مكرّسة ومعترفة وفعالة فيه اجتماعيا وقانونيا ولكن ليس سياسيا. الوكالة اليهودية كانت تحمل مشروع كيان، الدياسبورا اللبنانية من المفترض أن تحمل مشروع حكم. الدياسبورا الفلسطينية المستبعَدة إلى الخارج والمستَعْبَدَة داخل إسرائيل حملت مشروع وطن ودولة وحكم.
تحمل الدياسبورا اللبنانية الجديدة، أي الدياسبورا الناشئة من أزمات لبنان في العقود الأخيرة، ثلاث خاصيّات مدهشة قياسا بالداخل اللبناني:

الخاصيّة الأولى هي الكثرة (قد تكون أو تصبح قريبا الأكثرية)العددية التي عادة لا تملكها الفئة النخبوية وقد بات عشرات ألوف بل مئات ألوف الشباب والشابات المتعلمين والكفوئين ، ومنهم من صار من الجيل الثاني، يعيشون في الغرب وتحديدا في المدن الكبرى وضواحيها، مواطنين حاملين لكل حقوق المواطَنة في دولهم الجديدة.
الخاصية الثانية المهمة جدا قياسا بالأوضاع اللبنانية هي التعدد الطوائفي لهذه النخب اللبنانية الدياسبورية، تعدد فعلي في النجاحات يجعلها فيما لو انتظمت سياسيا أونُظِّمتْ قادرة جوهريا وليس شكليا على تشكيل بيئة متكافئة طائفيا بشكل طبيعي وفاهمة في الوقت نفسه، بحكم التجربة والذاكرة والذكاء، لكل أوضاعنا المعقّدة وقادرة على تجاوز العِقَدالمرَضيّة للمجتمع اللبناني المقيم على الأرض اللبنانية وعلى ابتكار حلول خلّاقة لمشاكل مجتمع الأرض القديم.
الخاصيّة الثالثة هي خاصيّة الانسجام أو شبه الانسجام الطبقي رغم تنوع الأصول الطبقية السابقة. فالذي أتحدّث عنه هنا هو أبناؤكم (نا)وأشقاؤهم (نا)وأقاربهم (نا)وأصدقاؤكم (نا) وفي العديد العديد من الحالات آباؤهم وأمهاتُهم. معظم هؤلاء الساحق في الطبقة الوسطى أو إحدى شرائحها. تعوزنا الإحصاءات ولكن لاتعوزنا المعرفة الحميمة والشاملة والبانورامية من الفضاء والأرض والتلال والجزر، ليس المطارات بل مابعدها، ليست الساحات بل ردهات وشقق الأبنية والمنازل المقروضة(من قرض) الثمن بالتعب والعصامية والإصرار.

قد يخالفني عديدون في هذه النظرة المتفائلة إلى إمكانات الدياسبورا النخبوية اللبنانية، وقد أخالف نفسي أحيانا، ولكن لا شك بضرورة هذا الدور أمام انسداد آفاق التغيير من مجتمع الداخل، حتى بعد تجربة 17 تشرين وما تلاها من أشكال اعتراض شبابية غير مسبوقة في رفضها لكل الطبقة – الطبقات السياسية التي تتحكّم بقوة بالنظام السياسي اللبناني وظهر أكثر فأكثر أنها تدير دولة ضعيفة أصبحت منهارة ولكنها تقبض على نظام سياسي قوي.
خبرة مجموعات من ثورة 17 تشرين صارت أيضا بين يدي “مجتمع” الدياسبورا بسبب الهجرة المتزايدة للمزيد من الشباب اللبناني الذي بات الخارج “صالون” استقباله الطبيعي عملاً وحياةً وكفاءةً وعمراً. وهذا أحد قوانين العولمة في الربع الأخير من القرن العشرين وحاجة مجتمعات الغرب إلى تجديد دمها الشبابي.

من نيويورك وواشنطن ولوس أنجلس وسان فرنسيسكو وباريس ولندن وبرلين وأمستردام وتورنتو ومونتريال وملبورن وسيدني وطبعا دبي (حماها الله) وغيرها وغيرها من العواصم والمدن الغربية المتألِّقة وضواحيها تنتشر النخب اللبنانية (والعربية والعالمْثالثية) التي تنْظُمها بلدانٌ متقدمة تراقب يوميا عددا من دولها الفاشلة، وتراقب في ما يعنينا التردي البنيوي الذي أصاب الدولة اللبنانية. هذه الدولة المحاصَرة جديا ب”فكر رعّاعي” (حلوة: فكر مع رعّاعي!) وبنظام سياسي ثَبُت أنه لا يمكن تغييره رغم إفلاسه المادي والأخلاقي والسياسي كما بالتالي الإفلاس والعجز المريعان للدولة التي يدير.
الآن:
نصل الآن إلى الهاجس التفعيلي(كما يحب الإسرائيليون وضحاياهم الفلسطينيون أن يفكّروا)، الهاجس اللينيني ( كما يحب الماركسيون أن يقولوا أي الهاجس التنظيمي) الهاجس التعبوي (كما يحب كل سياسي عملي وجدّي أن يقول):
كيف تتحول الدياسبورا اللبنانية إلى قوة تغيير سياسي تليق بإمكاناتها وطموحاتها لبلدها الأم؟
لاتخدعنَّنا قوة الأحزاب الطائفية في الدياسبورا. لا بد رغم إمكانات التعبئة الفئوية أن الإفلاس الأخلاقي والسياسي والمالي ينعكس أو سينعكس على مدى ارتباط بعض الدياسبورا بأحزاب المنظومة الحاكمة أو النافذة، وسيجعل هذا الإفلاس الارتباط الدياسبوري بها أضعف حين تتوفر قوى جديدة.

لن يكون لدى الفكر أو المشروع الدياسبوريي الجديد للبنان فرصة أفضل من الفرصة الحالية القائمة على إجماع دول الغرب على إدانة واحتقار المنظومة السياسية الحاكمة. إنه إجماع حقيقي حتى لو اصطدم بالدور السيئ جدا والمخرِّب الذي يلعبه الصراع الإيراني الغربي في تشتيت الانتباه عن أولوية تغيير المنظومة، أو الدور التقليدي لعامل الصراع مع إسرائيل كما التوظيف الإسرائيلي لهذا العامل بما يخلق أو يفرض وقائع “غير تغييرية” وإنما تدميرية بحجج مختلفة.
لستُ هنا لأدلي بنصائح قد لا تكون عملية. ننتظر فتح نقاش حول الموضوع سواء بين اللبنانيين أو بين الدياسبوريين اللبنانيين أو في بعض مراكز أبحاث الدول الغربية. يجب أن ينتقل التفكير بالتغيير من الجامعات والمنظمات المحلية والسفارات الغربية (التي تلعب دورا في تشجيع التغيير) إلى قوى ومراكز وقيادات الدياسبورا (وأضع كُلاً من هذه الصفات بين مزدوجين).
ننتظر نشوء تجمعات دياسبورية جديدة. انعقاد حلقات نقاش. “فوضى” خلاقة من حلقات نقاش. هذه ليست فوضى بل ديناميكية. ولمَ لا منظمات جديدة بل صراعات جديدة مباركة خارج منطق الصراعات التي يفرضها علينا أنذال يعتبرون أنفسهم آلهة وإذا تواضعوا فأنبياء.

أين أنتم وأنتُنّ أيها الذين لا إنقاذ من دونكم. هذا هو جوهر الفكرة.
أيتها النخب الجديدة المتألقة أو الصامتة في الدياسبورا في أعلى أنظمة عمل غرب إمبريالي خلاق، نقول للغرب والأفضل أن تقولوا أنتم له : لقد ساعدتنا على الهجرة، أيا تكن نواياك السايكسْ بيكويّة فساعِدْنا الآن على إنقاذ وطننا الذي كان وجوده أحد أفكارك الناجحة. أو المفترض أن تكون ناجحة.
أعتقد، لكل ما سبق، أن الدياسبورا اللبنانية وحدها تستطيع إضفاء المعنى النبيل على السياسة الداخلية اللبنانية اليوم.
سمّيتها في العنوان الدياسبورا الجديدة بسبب لا فقط كثافة الهجرة المستجدة على دفعات منذ الحرب الأهلية ثم خلال السلم اللاحق ولكن أساساً بسبب التكوين النخبوي الديموقراطي الذي باتت تنطوي عليه من هجرات الشباب والشابات المتلاحقة ومن مختلف الطبقات والطوائف. يمكن للبعض أن يقول أنها ليست معطى جديدا أن يلعب آتون من الخارج أدوارًا سياسية في الداخل، هذا صحيح. (قرأتُ في صحيفة “القدس العربي” مراجعة لكتاب جديد لم تتوفر لي بعد فرصة الحصول عليه وقراءته هو كتاب الباحثَيْن بول طبر ووهيب معلوف: “الهجرة وتشكُّل النخبة السياسية في لبنان” الصادر عن “المركز العربي للأبحاث”. ويبدو لي ، حسب مراجعة محمد تركي الربيعو، أنه يصدر في وقت مناسب. وأرجو أن تتوفر لي في المستقبل القريب فرصة قراءته والكتابة عنه). ما أعنيه أن حجم الأزمة الذي يهدد مصير الدولة وربما الكيان و المجتمع يجعل المطلوب أن تلعب الدياسبورا دورها بصفتها دياسبورا بكل العناصر الخارجية التي تنطوي عليها كجسم وكإمكانات لإنقاذ الداخل وتصويب مساره.

عموما ذهبت الدياسبورا الجديدة بأفضل ما في الداخل تعليماً وشباباً وتنوعاً، عليها الآن أن “تعيد إنتاج” الداخل.
أزعم أنني لا أدخل في يوتوبيا جديدة. “الدانمارك” اللبنانية تتعفّن. إنها لحظة شكسبيرية. وبعض المجتمع الطائفي اللبناني يتعلّب. إنها لحظة أورويلية. و مجتمع “بناية يعقوبيان” كما لو أنه يتهاوى في لبنان ولا يتردّى فقط كما في رواية بناية شارع طلعت حرب. إنها لحظة (علاءْ) أسوانية. ومعظم الخارطة المشرقية العربية يتفكّك وهذه ” لحظة” تنتظر روائِيَّها الذي علينا أن نبحث عنه بين الروائيين السوريين والعراقيين ولمَ لا بين اللبنانيين.

السابق
«البيت بيتك ساعة البدك».. اليكم مضمون الاتصال بين الراعي وباسيل!
التالي
الموت يحصد وجه جديد من أوجه النظام السوري.. سليمان يستسلم للكورونا!