العلايلي و لقمان.. و«الصورة الكبيرة»!

مع أنني حملت الكاميرا في السادسة عشر، وصورت مشاهير كثر، ما رغبت مرة بأن أطلب من مشهور أن آخذ لقطة معه. اعترف بالكامل أن شعوري بالندية هو السبب الرئيسي. هي صورة وحيدة أحتفظ بها مع شهير، علم من بلادي العلامة اللغوي الفذ عبدالله العلايلي. والجميل في هذه الصورة أنها بعدسة رشا الأمير شقيقة حبيبنا لقمان، المغدور على يد الشر . لكن، أيضا، خلف هذه اللقطة قصة. قصة حالمين بوطن يطفو على بحيرة من العلم بدل الذي يطفو على بحيرة من الكذب، كما كتبت غير مرة في صحفنا المحلية. الحالمان هما لقمان سليم ورشا الأمير.

اقرا ايضاً: بين لقمان والمرفأ والناس.. اتهامات وتساؤلات برسم «سماحة الأمين العام»!


لم نكن على موعد رشا وأنا، التقينا صدفة. كنت كعادتي امشي، اجوب المدينة وعند رصيف حديقة الصنائع المواجه لمبنى الانيون حيث دار “الجديد”، كانت رشا تستعد للصعود إلى سيارتها حين لمحتني. تبادلنا التحيات. وتحيات رشا دائما مجبولة بابتسامة وعينين لا تهدان في البحث عن معنى قد يكون عبر فلا يهرب. قالت، هل تذهب معي عند عبدالله العلاليلي؟ ماذا، اتمزحين. هذا سيكون تحقيقا لأحد أحلامي. لم أعد أذكر ما دار بيننا في الطريق نحو بيت عبدالله الحبيب في منطقة زقاق البلاط، لكن أرجح الآن أنني اخبرتها عن صورة الرجل في ذهني.


في البيت الذي ولدت فيه كان في مبنى قديم في المصيطبة يملكه جرجي ضاهر أبو نقولا، وكان جميع أبنائه داهشيين، نسبة إلى الروحاني الكبير الدكتور داهش الغني عن التعريف لجيل بكامله. كنت في العاشرة حين رأيت صورة داهش معلقة في صدر الصالون الكبير لبيت ضاهر الذي يعلو طابقنا الأرضي. في ذلك اليوم طلبت مني أمي أن أصعد الى بيت أم نقولا لكي أقضي لها حاجة، والارجح أن أم نقولا طلبت ذلك من أمي. وقد أستمر هذا الأمر حتى مغادرة بيت ضاهر منزلهم إلى رياق بعد سنتين، ضمن رحلة مغادرة العائلات المسيحية المنطقة الغربية. كانت أم نقولا تطلب مني إحضار حاجيات من الدكان، وفي كل مرة توصيني أن أنتبه من “الاتوتوموبيل”، وحين أعود تنقدني ربع ليرة كانت بالنسبة لطفل ثروة، ولاحقا صارت تعطيني الألعاب القديمة التي يتركها أبنها الأصغر ميشال الذي كان يكبرني بخمس سنوات، لكنه كان يعترض في كل مرة.

وفي كل مرة كنت أدخل إلى الصالون منتظرا أن تكتب لائحة الأغراض ثم إحضار كيس الحمل كنت أنظر إلى صورة الدكتور داهش الفوتوغرافية وينتابني شعور بالغموض ما زلت احتفظ به حتى اليوم كلما رأيت صورة الرجل.. هل سردت لرشا هذه التفاصيل؟ لم أعد أذكر، لكن أرجح أنني ربطت الشخصيتين، العلاليلي وداهش في جمل ما، ذلك أنني حين عملت لاحقا في العام 1980، في مجلة “الجمهور الجديد”، كـ office boy ، ثم كمصور صحفي، صدر في العام التالي كتاب عبدالله العلالي” كيف عرفت الدكتور داهش”، وأرسلت إلى المجلة بطبيعة الحال نسختان للكتابة عنه. وحين رأيت نسخة على مكتب مدير التحرير فضلو هدايا، كانت الصورة نفسها على الغلاف التي في صالون بيت ضاهر. استاذنت الأستاذ فضلو استعارة الكتاب وشرعت بقراءته. كانت لغة العلايلي صعبة علي في تلك الفترة لكن بإصرار غريب كنت أعيد وأعيد القراءة راغبا في استيعاب ما كان يجري في بيت الدكتور داهش، بينه وبين أصحابه واتباعه ومن بينهم العلامة العلايلي.


في منزل عبدالله العلايلي، صيف- خريف 1996، دخلت مع رشا التي من حساسيتها واحترامها لفت رأسها بمنديل، جعل وجهها المستدير أكثر استدارة. كانت رشا مع لقمان قد رتبا لقاء ثقافيا نادرا بين مجموعة من أساتذة الأدب والفلسفة في جامعة تهران. لم يكن الوفد قد وصل بعد. رحب بنا أهل العلايلي ودخلت مع رشا إلى صومعته. كان كما في الصورة المنشورة، هو الذي أصلا بجسد صغير، بدا أنه طفل شيخ. يا إلهي ما أروع هذا الإنسان وما اغناه علما واخلاقا، إنه من حظي الكبير أن ألتقي به، وبقيت بين وبين نفسي أشكر رشا على هذا اللقاء لسنوات انقطعت خلالها علاقتنا بسبب انشغالي بهموم المسرح والسينما والكتابة والعزلة.


في انتظار الوفد أخذت لي رشا صورتين أو ثلاث، لعل في إحداها أقبل رأس الشيخ الجليل. ثم توليت عملية التصوير بنفسي، بالكاميرا، point and shoot التي احضرتها رشا معها. خرجت رشا من الغرفة الصومعة، لمتابعة أخبار وصول الوفد الإيراني. لم يكن لي علم بكل تلك التفاصيل، الأرجح قد ترويها رشا يوما من وجهة نظرها، لكنني بقيت لحوالي العشرين دقيقة مع عبدالله في صومعته. أنظر إليه وهو ينظر للبعيد. لم اجرؤ على ازعاجه بوميض فلاش الكاميرا، المحكوم باطلاقه، نظرا لمحدودية الكاميرا، ولا على طرح سؤال واحد من سيل الأسئلة المتدفق في رأسي، وفي مقدمها علاقته بداهش. وحيدان هو وأنا. لا ازيح نظري عنه. هو ينظر في البعيد ومن وقت إلى آخر ينظر إلي ويبتسم بصمت مرحبا بي. آخذ نفسا لارفع الكاميرا، وشيء ما يمنعني من كسر هيبته العلمية بوميض فلاش، لعله لا يرغب برؤيته. كذلك لم أخرج كلمة واحدة.


دخل الوفد الإيراني وكأن تلامذة يدخلون على قديس. بتواضع شديد تحلقوا حواليه مطلقين عبارات الترحيب والإعجاب. كانوا أربعة على ما أذكر. اعتبروا كتابه ” الأمام الحسين” مرجعا، وهم يدرسونه في الجامعة. التقطت عدة لقطات. كانت رشا تضئ بالفرح لهذا. لا أعرف لماذا أتخيل الآن لقمان حاضرا هناك. هل كان هناك؟ بالتأكيد إن لم يكن جسدا فقد كان في الخلفية، حيث اجتهد كنملة، وتحرك كفراشة كي يلاقح الأفكار والثقافات، كي يصنع الملعب الذي يجيد اللعب فيه، لعبة الكلمة.

السابق
أب يتشكى من انقطاع «ابرة الكزاز».. و«الصحة» تصر على تأمينها مرتين!
التالي
هذا ما جاء في مقدمات النشرات المسائية ليوم السبت 20/2/2021