لبنان: سياق الجريمة

لقمان سليم

إذا أردنا أن نرصد سياقاً لجريمة اغتيال لقمان سليم موازٍ لسياق عمليات الاغتيال التي شهدها لبنان منذ العام 2004، والتي راح ضحيتها أكثر من نحو 15 عشر سياسياً وأمنياً وصحافياً، فالمهمة تقتضي إعادة رسم المشهد واقتفاء الأثر السياسي الواحد، طالما أن الجريمة واحدة. 

في ذلك الوقت رسم الانقسام اللبناني صورة الجريمة. لبنان كان موزعاً بين 8 و14 آذار، وكان القتلى كلهم من 14 آذار. المهمة اقتضت في حينها أولاً خفض عدد النواب في البرلمان الذين يشكلون غالبية حققها تحالف 14 آذار في الانتخابات النيابية، وثانياً اقتضت بث الرعب في أوساط 14 آذار وفي أوساط جمهورها وبيئتها بغية الإمساك بالدولة وبالسلطة. والمهمتان نجحتا إلى حد بعيد، فـ 8 آذار تحكم اليوم، و14 آذار اندحرت، غير مأسوف عليها. النصر تحقق بالقتل أولاً ثم بالانتخابات، وبعدها بالحكومات وبالرئاسات.

مياه كثيرة جرت منذ ذلك التاريخ، ولبنان لم يعد 8 و14 آذار. صار 8 آذار فقط. هذا الواقع وحده هو الذي أوقف القتل، فما الذي جرى حتى استيقظ كاتم الصوت؟ والسؤال يصبح ملحاً حين يلامس حقيقة أن السلطة والدولة هما اليوم بيد طرف واحد، وهذا الطرف أصاب فشلاً فاضحاً على كل المستويات في الإدارة وفي السياسة وفي الاقتصاد. ويقف حزب الله على رأس هذا الفشل، ويحاول أن يواريه بخطاب أيديولوجي لم يعد كافياً في ظل وضوح وانكشاف الخلل والفساد، وفي ظل النتائج الكارثية لسياسات السلطة التي يقف وراءها على كل المستويات.

اقرأ أيضاً: لقمان سليم: قصة قتل معلن لِفُتَاتْ السيادة

هنا يبدأ مسار اغتيال لقمان سليم بالتبلور

نعم لبنان يشهد اليوم انقساماً، لكنه من نوع آخر. هو ليس انقساماً أفقياً، ذاك أن خطوط التداخل فيه أكثر تعقيداً. موقع 8 آذار في هذا الانقسام واضح ومحسوم، وموقع حزب الله فيه أشد وضوحاً. لا أثر لـ14 آذار. بقاياها تترنح بين الالتحاق بركب سلطة 8 آذار، وبين البحث اليائس عن سند إقليمي أو دولي تأوي إليه في ظل حال اليتم الذي تعيشه. لكن الغريب أن الهزيمة الساحقة التي أصابت 14 آذار عادت ولحست وجه 8 آذار، ذاك أن الأخيرة تحتاج لكي يستقيم لها النفوذ إلى عدو مذهبي لطالما أمنه لها خصومها قبل انسحاقهم.

الانقسام صار اليوم بين السلطة التي يشكل حزب الله الثقل الذي يكاد يكون وحيداً فيها، وبين كتلة هلامية وغير واضحة من غير المُمَثلين ممن يعتبرون محقين أن هذه السلطة فاشلة وفاسدة ومرتهنة إلى الخارج، وهذه الكتلة وازنة وراجحة على ما كشفت انتفاضة تشرين من العام الفائت. وطبعاً هذا المشهد ليس معزولاً عن بعديه الإقليمي والدولي إلا أنه أقل ارتباطاً بهما من قرينه المتمثل بمشهد 8 و14 آذار.

هنا يبدأ مسار اغتيال لقمان سليم بالتبلور، ومثلما كان اتهام 8 آذار بجرائم الاغتيال الأولى وجيهاً بالمعنى السياسي، يبدو اليوم اتهامها، وعلى رأسها حزب الله، وجيهاً الآن. فالسلطة في الموقع السياسي للقاتل، والمواجهة الآن هذا شكلها وهذا مضمونها، والفعلة كاشفة عن حجم المأزق، لكنها هذه المرة أشد ارباكاً من المرة الأولى، ذاك أن عدوها الذي باشرت بقتله غير متعينٍ بموقع مذهبي واضح ولا بجغرافيا طائفية محددة. لهذا تماماً بدت الجريمة واضحة لجهة المنفذ والمحرض والمستفيد. وصحيح أن السلطة هي حزب الله، لكنها أيضاً الديكور السياسي الذي أعده الحزب لسلطته. وهنا ينسحب الاتهام على حلفاء الحزب وعلى الاعلام المناصر له، وعلى المستفيدين من كم الأصوات ومن شطب الوجوه. تماماً كما ينسحب الاتهام في جريمة انفجار مرفأ بيروت على كل هؤلاء، ذاك أن الفساد واحد، وكذلك الفشل والارتهان. فمن ارتكب الجريمة هو السلطة كلها، ومن يهرب من الحساب هو أيضاً السلطة كلها.

نعود بالسؤال إلى حقيقة أن السلطة تشعر بما شعرت به عندما باشرت حملة الاغتيالات الأولى، أي إلى خوفها من أن تفقد موقعها، واختارت المواجهة عبر كاتم الصوت. لكنها هذه المرة في مواجهة من لا يمكن تعيينه على نحو دقيق، على نحو ما فعلت في العشرية الأولى من القرن. ويمكن الاستنتاج هنا أن الاستهداف سيكون أكثر إرباكاً وأكثر انكشافاً، على رغم أنه سيكون أسهل من الناحية التنفيذية، فخصمها هذه المرة غير محصن بحمايات أمنية أو طائفية أو مناطقية. خصمها هو الناس، وهي ستختار منهم من يؤلم. الجريمة، على ما دلت واقعة قتل لقمان، ستحمل بصمات الفاعل على نحو أوضح هذه المرة. 

السابق
فور عودته من فرنسا.. الحريري في بعبدا وطروحات ماكرون على طاولة البحث
التالي
خيبة بعد الزيارة المفاجئة للحريري الى بعبدا: عرضت فرصة ذهبية ولا تقدم!