«مقابسات المنبع والرؤية» عن سيرة الشيخ حسين شحادة يرويها الدكتور عبد الحسين شعبان

بين الأديب والفقيه اللبناني الشيخ حسين شحادة وصنوه أديب الفكر السياسي والاجتماعي العراقي الدكتور عبد الحسين شعبان انعقدت صداقة عميقة انتجت حبا وودا على المستوى الشخصي، وانسجاما فكريا بلغ حدّ توارد الأفكار، فالمشتركات بينهما كثيرة وأولها اعلاء قيم الحرية والعدالة الاجتماعية، وذلك رغم اعتناق الدكتور شعبان الماركسية لعقود، في حين كان الشيخ منهمكا في نفض الغبار عن الموروث الديني من اجل تجديده واعادة طرحه في سوق الحداثة.

اختار الدكتور شعبان في مبادرة وفاء، تأريخ رحلة صديقه الشيخ في عالم الفكر والادب والدين، فأصدر كتاب “الشيخ حسين شحادة: مقابسات المنبع والرؤية”، يسرد فيه أهم المحطات في حياته كما عرفها الدكتور شعبان من خلال سيرتهما المشتركة قبل عقدين من الزمن، عندما التقيا في سوريا “وقدّم لي الشيخ حسين هديّة عبارة عن قرآن كريم وذلك في استضافة لي بدمشق عقب احتلال العراق عام 2003” كما عبر الكاتب في كتابه.  

اقرا ايضاً: عبد الحسين شعبان يكتب لـ«جنوبية»: عندما تنبت شجرة الذاكرة في «حقول الكورونا»!

ومما جاء في مقدمة كتاب الدكتور شعبان ووصفه لعلاقة الودّ التي نسجها عقل وقلب الصديقين:   

لا تعرف أحياناً كيف تتكون كيمياء خاصة بينك وبين بعض الناس، فتنجذب إليهم وترتبط معهم بصداقة مديدة وعميقة، إمّا هوىً حين يتحكّم القلب والعاطفة وإمّا فكراً حين تتلاقى معه في دروب العقل، فكيف إذا كان من أكتب عنه، وقد شدّني إليه قلباً وعقلاً، حتى وإنْ كانت طرق حياتنا مختلفة ومتباينة ومتباعدة أحياناً في فلسفتها ومنطلقاتها، ولكن تبقى ثمّة مشتركات إنسانية جامعة تشكّل نواة جاذبة يتم التمحور حولها والتلاقي عندها لتتوسع وتكبر حتى لتجد نفسك أمام طرق عديدة مشتركة ومقاصد موحدة، ووسائل وأساليب يتم اختبار نجاعتها مع مرور الأيام.  

لقد أتقن الشيخ حسين كل فنون الكتابة ليس في الحقل الديني فحسب، وإنما في الحقل الفكري والفلسفي والاجتماعي والأدبي والثقافي، وذلك بعد معاشرة حميمة وطويلة مع الحرف وصداقة وطيدة وعميقة مع الكلمة وزمالة وألفة مع الجملة والمقالة والكتاب، وهكذا استطيب المغامرة وسار بها أحياناً حتى أقصاها مجرّباً كتابة نصوص وسرديات وخواطر وحكم وأفكار وقصائد.  

                       ولعلّ ما يعطيه خصوصية هو مخالطته ومجالسته لطبقات وفئات وأجناس وشعوب ولغات ونساء ورجال وأجيال مختلفة دون اكتراث بزيّه التقليدي حيث يحجم كثيرون، والناظر إليه وهو في مجالسه المتنوّعة أوّل ما يلفت نظره عمامته البيضاء الناصعة التي تجلس فوق رأسه، حيث يمتلئ وجهه المستدير بلحية طليقة ومنسقة أحياناً يكسوها بياض غالب وشاربان معتدلان وخصلة شعر متدليّة ونافرة من تحت العمامة.  

            وهو على هذه الهيئة يبحث معك في الحداثة وما بعدها ويقلّب شؤون وشجون ابن عربي وجلال الدين الرومي وابن خلدون، ليأخذك إلى شواغله في الهويّة، دون أن ينسى المرور على اليسار والماركسية وجيفارا والعروبة ونقد الجمود والتخلف الديني ونتاجهما التعصّب والطائفية وازدراء حقوق المرأة، ومع تلك الهموم لا تغيب عنه أهمية التفريق بين الغرب السياسي والغرب الثقافي والدعوة إلى الحوار بين أتباع الأديان والثقافات في إطار التعددية والتنوّع والمشترك الإنساني.  

          لم يترك الشيخ حسين مناسبة إلّا وقام بها التجوال في رحاب الجواهري وطه حسين وعلي عبد الرازق والسيّاب وأدونيس ومحمود درويش وسعدي يوسف وغيرهم، ليستعيد الحوار حول قصيدة النثر، وفي الوقت نفسه وعلى القدر ذاته من الاهتمام يضع أمامك خريطة طريق لتجديد الحوزة الدينية وإصلاح مناهجها وربطها بمتغيّرات العصر والثورة الصناعية الرابعة ومخرجاتها، وهو من دعاة حوار الأزهر مع النجف وحوارهما مع الفاتيكان، وذلك في إطار مشروع نهضوي عربي – إسلامي كما يعبّر عنه، يبدأ بالحوار العربي- العربي والإسلامي – الإسلامي على جميع الصعد الرسمية والشعبية، لينطلق إلى حوارات أرحب وأوسع، مع عدم إهمال مسألة التحوّل الديمقراطي والدولة المدنية والتنمية والعدالة، وكل ما له علاقة بالامتلاء الروحي والتحقق الوجداني والدلالة الإنسانية.  

دارة الشيخ في دمشق تجمع الادباء والمثقفين  

          في وصف لما أضفاه وجود الشيخ حسين من فيض على الحياة الثقافية الشامية عندما انقل اليها قبل عقدين قادما من وطنه لبنان، يقول الدكتور شعبان     “دمشق اغتنت صداقات الشيخ حسين وتنوّعت وازدادت عمقاً مع عرب وسوريين من ألوان مختلفة أدباء وكتّاب وفنانين وعلماء دين مسلمين ومسيحيين ودارسين في الحوزة، وكان قد أصبح “مرجعاً” يلتجئ إليه كثيرون وقد حظي باحترام الدولة نال ثقة المجتمع المدني التي كانت عميقة وقوية، وفي كل زيارة إلى الشام كنت أحضّر نفسي للقاء خاص بالشيخ حسين، ولكنه لا يكتفي بذلك، فيجهز لقاءً ثقافياً في مجلسه العامر المتنوّع بدعوة شخصيات عديدة: كوليت خوري، جورجيت عطية، ميشيل كيلو، صادق جلال العظم، أحمد برقاوي وأكثر من مرّة حضر الصديق عبد الإله بلقزيز وآخرين. وحين تدهورت الأوضاع اضطر إلى مغادرة دمشق، ومثلما دخلها خفيفاً نظيفاً، خرج منها طاهراً وناصعاً، فقد أحبّ كل ما هو سوري مثل حبّه للبنان وفلسطين وسوريا الكبرى، دون أن ينسى النجف والعراق، حيث احتل التنوّع والتعددية جزءًا لا يتجزأ من تفكيره وحياته. 

 

وقد أنتجت هذه الصداقات الحميمة مناخاً ثقافياً وفكرياً تسامحياً مصحوباً بثقة كبيرة ورغبة إنسانية في التواصل والتفاعل من الثقة في سوريا حيث كانت تضاء شجرة الميلاد في الرقة وحماه وحمص وحلب ودير الزور ودمشق وغيرها، وهي تجربة رائدة قرّبت بين المسيحيين والمسلمين، وكان يمكن أن تفتح آفاقاً جديدة أخرى، لولا ما حصل من استهداف للمسيحيين من جانب الجماعات الإرهابية مثل جبهة النصرة وداعش وغيرها، وحين انتقل إلى بيروت نقل هذا الجو الإيجابي معه، فواصل لقاءاته مع المرجعيات الدينية المسيحية، لأصدقائنا المشتركين المطران عودة والمطران كوريه والمطران جورج صليبي والبروفسور ضو، إضافة إلى علاقته مع البطريرك الراعي.”  

ملتقى الأديان والثقافات 

فرضت الحرب السورية على الشيخ الأديب حسين شحادة العودة الى وطنه لبنان، لكنه أبى الا ان تكون العودة مشروطة بحمل وفير من ما جمعه من سفر عمره المثقل بتجارب دنيا الثقافة الشامية، فيسرد الدكتور شعبان قائلا:   ” يوم وصل بيروت باشر على الفور بأنشطته الفكرية والثقافية المعتادة، فدعا مع نخبة كنت واحداً منهم لتأسيس ملتقى الأديان والثقافات للحوار والتنمية الذي اخترت اسمه وأصرّ ومعه الصديق العزيز السيد علي فضل الله على وجودي في مجلس الأمناء أو مجلس المستشارين وفي كل مرّة كنت أعتذر لظروفي وعدم القدرة على الإيفاء بالتزاماتي، لكن كرم أخلاقهما أعادني إلى جادة الرضا والموافقة وبقدر ما يشرفني التواصل مع هذا المحفل الفكري والثقافي الجامع، فقد كانت خشيتي من التقصير هي وراء اعتذاري، بسبب انشغالات وارتباطات جامعية وإشراف على أطروحات وأسفار وغير ذلك.  

            وقد حظي الملتقى الذي ترأسه السيد علي فضل الله باهتمام كبير ومساهمات نوعية من جانب مفكرين وأكاديميين وقادة رأي وناشطين من المجتمع المدني وأصحاب مقامات دينية مسيحية وإسلامية ودرزية ومن أشكال الطيف الفكري والسياسي والديني والثقافي والديني المتنوّع. وقام بفاعليات وأنشطة متعددة في إطار تعزيز ثقافة السلم الأهلي والتسامح واللّاعنف والدعوة إلى الحوار والعيش المشترك معاً في إطار الشراكة الفاعلة والمتكافئة وعلى أساس مواطنة متساوية”.  

السابق
بالفيديو: وفاة مصاب بكورونا على باب مستشفى بعد أن رفض استقباله !
التالي
هذا ما جاء في مقدمات النشرات المسائية ليوم الاربعاء 27/1/2021