وجيه قانصو يكتب لـ«جنوبية»: الإمامة بين ولاية الفقيه وولاية الأمة على نفسها (٣/٣)

وجيه قانصو
يخص المفكر والباحث والأكاديمي الدكتور وجيه قانصو "جنوبية" بمقال أسبوعي ينشر حصرياً على صفحات الموقع و منصاته الإلكترونية.

تبين من المقالتين السابقتين أن الاختلاف بين ولاية الفقيه وولاية الأمة على نفسها، لم يكن مجرد اختلاف في الاجتهاد الفقهي، بتقديم دليل على آخر أو ترجيح دلالة على أخرى، بل اختلاف في فهم حقيقة الإمامة نفسها، وبناء تصور لطبيعة حضورها وتمثلها في زماننا المعاصر، خصوصاً فيما يتعلق بمسائل: الإنتماء والهوية، التعامل مع خصوص البيئة المحيطة، الولاء للدولة القائمة، شرعية العمل السياسي العام. ما يجعل مفهوم الإمامة يقترب في أهميته من الأصول العامة للدين، لما يترتب عليه من أثار مصيرية في حياة مؤمني الشيعة.

لماذا ولاية الفقيه في موقع الضد لسيادة الدولة والنافي لها، أي ولاية اللادولة

اقرأ أيضاً: وجيه قانصو يكتب لـ«جنوبية»: الإمامة بين ولاية الفقيه وولاية الأمة على نفسها (2)

تقديس حدّ التأليه

الملازمة المنطقية والدينية التي أسسها مفهوم ولاية الفقيه بين هذه الولاية  كسلطة مطلقة من جهة وولاية الإمام “المعصوم” التي تجمع بين الإمامة الدينية والإمامة السياسية من جهة أخرى، حرك الجدل التاريخي بين السنّة والشيعة حول مسار السلطة وشرعيتها في التاريخ الإسلامي، بخاصة شرعية الخلافة الأولى، وخلق توتراً في تفسير وفهم أحداث التاريخ، لا من منظور أكاديمي أو نقدي، وإنما من منظور كلامي خالص.  بحكم أن شرعية سلطة ولاية الفقيه القائمة مرهونة بإثبات تأويل وتفسير إمامي خاصّين للتاريخ والنصوص الدينية ولحقيقة الإمامة.

بتنا نشهد مظاهر غلوّ غير مسبوقة في تقديس الرموز الولائية المعاصرة، تصل في بعض صورها حدّ التأليه

  لهذا بادرت سلطة ولاية الفقيه بعد الثورة الإيرانية إلى ضخ كم هائل من الأدبيات المذهبية التي تنعش الجدل الكلامي حول الأحقية المذهبية، وإلى المغالاة في مفهوم الإمامة بنحو غير مسبوق في السلوك الشيعي نفسه. لا لغرض إضفاء الشرعية المطلقة على سلطة الولي الفقيه فحسب، بل للإرتقاء بها لتصبح منصباً عقائدياً تحصر الشرعية السياسية بها، وتتعالى بها لإسباغ القداسة لا على وظيفتها ومهمتها فحسب، بل على من يبادر إليها ويمارسها.  فبتنا نشهد مظاهر غلوّ غير مسبوقة في تقديس الرموز الولائية المعاصرة، تصل في بعض صورها حدّ التأليه.

 الفصل بين مفهوم الإمامة والسلطة

أما مشروع ولاية الأمة على نفسها الذي اقترحه الشيخ شمس الدين، فقد انطلق من الفصل بين مفهوم الإمامة والسلطة السياسية، حيث لم تعد السياسة من مقومات الإمامة الجوهرية أو مهامها التاريخية، وأصبحت الإمامة مقتصرة في جوهر مهمتها على التشريع والتفسير والشرح الديني.  هذا الأمر حرّر التاريخ نفسه من الإسقاطات المذهبية، ولم تعد أية شرعية سياسية حالية بحاجة إلى تعميم وفرض تأويل خاص للتاريخ لم يكن يوماً محل توافق بين المسلمين.  بذلك باتت السلطة قديماً وحديثاً حقل اختبار وتجارب بشرية وحقيقة تاريخية، لا فكرة عقائدية أو حقاً شخصياً يُمتلك أو يُنتهك.  وصار التاريخ الإسلامي ساحة مفتوحة لقراءة الأحداث وفهمها، لا حقل تجاذبات عقائدية وإسقاطات مذهبية أو منطقة يقين وتوظيفات أيديولوجية.  أي صار مجال نظر واعتبار، لا مصدر إثبات ونفي، برهان وإبطال، إدانة أو محاكمة، أو ساحة صراع بين حق وباطل، بل تجربة اختبار مشتركة لجميع المسلمين.

مشروع ولاية الأمة على نفسها انطلق من الفصل بين مفهوم الإمامة والسلطة السياسية

الدولة والسيادة .. والولاية

تقوم ولاية الفقيه على تراتبية أمر صارمة، تجعل المجال السياسي بأسره مجالا دينياً يندرج ضمن مجال حاكمية الله التي أوكل إلى الفقيه في زماننا إقامتها بالنيابة عن الإمام “المعصوم” وبتفويض كامل منه. العمل السياسي فيه تكليف وأمر، ولا يأخذ مشروعيته إلا بإذن أو رخصة من الفقيه. هو فعل تعبدي لا يختلف عن التكاليف الدينية نفسها، ويحتاج العمل فيه إلى إبراء ذمة دينية لا يمتلك حق إصدارها في زماننا إلا الولي الفقيه. هذا الأمر جعل سلطة الفقيه تعلو سيادة الدولة، فلا تعود الدولة مرجع الأمر النهائي ولا تكون ذروة الشرعية التي لا يعلو فوقها أية شرعية، بل تفقد حق القول الأخير، واحتكار الإكراه المشروع، ما يقوض أهم أساس في حقيقتها.  فالسيادة ليست شيئاً يضاف إلى الدولة بل هي جوهر حقيقتها ومعناها وأساس وجودها، وحين تظهر سيادة تعلوها أو تنافسها، لا يعود أمامنا دولة منتقصة السيادة، بل دولة مقوّضة. ما يجعل ولاية الفقيه في موقع الضد لسيادة الدولة والنافي لها، أي ولاية اللادولة.

ولاية الفقيه تجعل المجال السياسي مجالا دينياً ضمن مجال حاكمية الله التي أوكل إلى الفقيه إقامتها بالنيابة عن الإمام “المعصوم”

هذه المشكلة لا تحل بالقول أن الولي الفقيه يأذن لأتباعه بالاندماج داخل مجالهم الخاص ولا يتدخل بشؤون بلدانهم، إذ طالما أن ولاية الفقيه بحسب المؤمنين به، ووفق مقتضاها النظري والعملي، هي مصدر مشروعية أية دولة، وهي سلطة  تعلو سيادة كل الدول، فإنها بذلك تكون عقيدة ولاية مقوّضة لمفهوم الدولة حتى لو كانت عقيدة صامتة.  لأنها بصورتها الصامتة، وهي لم تكن كذلك في أي وقت من الأوقات ، أو بصورتها الفاعلة، ترى نفسها صاحبة حق سيادي أعلى من الدولة تملك حق منح الدولة شرعيتها أو سلبها عنها، وحق الإعتراف بسيادة الدولة وحق إسقاطها. ما يولد ثنائية ولاء متناقضة بين دولة زمنية من طبيعتها وجوهرها أن تكون مصدر الشرعية الأعلى والسيادة القصوى، وبين ولاية ديينة ذات أصل “إلهي” وهبت صاحبها أعلى مرجعية أمر ممكنة أو متخيلة.  

بين الايمان الديني والانتماء الوطني

هي وضعية خلقت جمعاً بين نقائض تمثلت: بتعارضٍ مُربك وحتى صادم ومؤلم بين الايمان الديني والإنتماء الوطني، تداخلٍ واشتباكٍ بين ولاية دولة وأيديولوجية ولايتية لا تفوت فرصة التأكيد على أن مرجعيتها وسلطة أمرها وتمدد نفوذها هي بلا قيود ولا حدود،  تنافٍ بين خصوصية تفرض تفاعلاً واندماجاً داخل البيئة الاجتماعية والثقافية المحيطة، وبين موجبات اعتقادية وأيديولوجية تفرضها ولاية الفقيه تنتهي بالتمايز والعزلة ورسم الفواصل عن المكونات والبيئة المحيطة.  بذلك لا يعود العمل السياسي داخل الأوطان وسيلة لممارسة حق المواطنة أو تعزيز قدرات الدولة والمجتمع، بل فعل سلطة وآلة سيطرة وبسط يد، للإمساك بمقدرات البلد المحلي، وتجييرها بالكامل لصالح استراتيجيات الولاية وشبكة المصالح التي تنشؤها.

هذا يفسر إصرار كل المنضوين في خط ولاية الفقيه على مسلك التسلح الفائض، والترويج المتعمد لضعف الدولة المحلية وعجزها عن حماية مكونها الشيعي أو ممارسة غبن في حقه، والتأكيد المتكرر على حصر الولاء بالفقيه وعدم الانصياع لموجبات السيادة المحلية، وإلى تعمية مفهوم الدولة المحلية إما بتفتيتها أو تعميم سيادات متفرقة أو خلق مواقع قوة بديلة لها ومنافسة لسيادتها.   

ولاية الأمة على نفسها حررت مفهوم الإمامة من السلطة، بحيث لم تعد الإمامة تياراً سياسياً أو حتى مذهباً خاصاً

بالمقابل فإن مقولة ولاية الأمة على نفسها، حررت مفهوم الإمامة من السلطة، بحيث لم تعد الإمامة تياراً سياسياً أو حتى مذهباً خاصاً بل نموذجاً مسلكياً تقوياً وعلمياً وأخلاقياً يقبل الإتِّباع والتأسي من قبل الجميع.  فالإمامة وفق فهم شمس الدين ليست امتلاكاً لمنصب أو سلطة أمر بل نموذج اقتداء واتباع دينيين، وصورة إسلام نقي مثلتها سيرة الائمة وأقوالهم، لا تختص أو تُحصر بمذهب دون آخر.كذلك فإن، ولاية الأمة على نفسها، حررت السلطة من الإمامة، فلم تعد السلطة السياسية حقيقة دينية أو تعبدية أو حقل وصاية من أحد على أحد، بل مجال نشاط بشري حر، تبدأ بولاية الإنسان على نفسه، أي حقه في تقرير مصيره وصنع خياراته، وترتقي عبر توافق الإرادات الفردية وتعاقدها داخل مجال مجتمعي خاص لتصبح ولاية عامة تكون الشرعية بداخلها متقومة بمشاركة فاعلة من الأفراد، تجعل مسار السلطة يسير من القاعدة إلى الأعلى عبر التمثيل، ومن الأعلى إلى القاعدة عبر القانون والدستور والمؤسسات، أي عبر الدولة.   

 قدمت ولاية الأمة على نفسها حلاً جدياً لمشكلة تواجد الشيعة وتوزعهم في بلدان متعددة

 قدمت ولاية الأمة على نفسها حلاً جدياً لمشكلة تواجد الشيعة وتوزعهم في بلدان متعددة، فلا يعود هنالك ثنائية ولاء أو ولاءات متعارضة، أو تعارض بين ولاء للدولة وولاء للإمامة الدينية، أو تباين بين انتماء وطني وهوية دينية. فالإمامة لم تعد منطقة ولاية سياسية بل ولاية باطنية تقوية وتأويلية أي ولاية قدوة واتباع دينيين تأخذ مساحتها داخل أي مجتمع من دون أن تكون مصدر قلق أو تعارض مع موجبات انتظام هذا المجتمع.  كما إن المجال السياسي بات كما ذكرنا منطقة فراغ أخلى التشريع الديني نفسه منها، ليكون منطقة اختبار إنساني تتجلى فيه حرية الإنسان وقدرته على الابتكار والابداع.  فلا تعود مشروعية الفعل السياسي مرهونة أو مقيدة بعناوين ثانوية تمليها ضروروات زمن الغيبة بجلب المصلحة ودفع المفسدة،  بل هو فعل مشروع ومطلوب بالعناوين الدينية الأولية، أي لا تعود مسوغات الفعل السياسي مقتصرة على الضرورة، بل يصبح فعلاً مقصوداً لذاته، لجهة اعتبار الإنسان كائناً عاقلاً وحراً ومؤتمناً على مصيره. ليكون التدبير السياسي بموجب هذه النظرة، فعلاً إنسانياً يمارس فيها الإنسان حريته بمسؤولية.  كذلك، لا نعود أمام تعارض بين انتماء ديني أو مذهبي وهوية وطنية، فالانتماء الديني، وفق ولاية الأمة على نفسها، ليس ولاءات ظرفية مشخصنة بقدر ما هي فعل انتماء لله ومديونية عبودية له، أي هي علاقة عامودية تتعمق بعمق فرادتها وفردانيتها، أما الهوية الوطنية فهي ذات طبيعة أفقية تتجسد باختبارات بشرية جمعية وتفاعلات إنسانية مشتركة راكمت ذاكرة ونظم علاقات وأنتجت ذهنيات خاصة داخل بيئة محددة.  

وفق ولاية الأمة على نفسها، ليس ولاءات ظرفية مشخصنة بقدر ما هي فعل انتماء لله ومديونية عبودية له

الفرق بين نظريتي الولايتين

الفرق بين نظريتي الولايتين، أن: نظرية ولاية الفقيه ألقت أثقال الماضي بكثافته العقائدية وجدله الكلامي ودوغمائيته الشديدة التركيز على الحاضر، لتنتج وصاية ولايتية مطلقة على حاضرنا، فبات حاضراً مصادراً ومكبلاً وفاقد القدرة على المبادرة أو صناعة واقعه، وحاضراً مفجِّراً لتناقضات وصراعات لا حد لها.  أما نظرية ولاية الأمة على نفسها، فقد استجابت لهواجس الحاضر وتعقيداته وتحدياته، فاستنبطت من النص الديني ما يراعي خصوصية هذا الحاضر وما تمليه ضروراته ويستدعيه حضوره وفعاليته.

ولاية الفقيه قسَّمت العالم إلى فسطاطين: فسطاط الحق المطلق المتمثل بالولاية المطلقة، وفسطاط الباطل الذي يضم كل ما عداه

ولاية الفقيه قرأت الحاضر بذهنية ماضوية فجاء الحاضر مستلباً ومُغيباً، وولاية الأمة على نفسها قرأت الماضي بذهنية الحاضر للتأكيد على أصالة الحاضر في أي فعل تأويلي أو اجتهادي للنص الديني.    

ولاية الأمة على نفسها فقد أزالت كل مظاهر الاستبداد وفككت موجباته ومسوغاته وتأويلاته الدينية


ولاية الفقيه قسَّمت العالم من جديد إلى معسكرين وفسطاطين: فسطاط الحق المطلق المتمثل بالولاية المطلقة، وفسطاط الباطل الذي يضم كل ما عداه. أما ولاية الأمة على نفسها، فقد فسرت الاختلاف والتنوع شكلاً بشرياً تقتضيه موجبات الطبيعة الإنسانية نفسها. ولاية الفقيه مبادرة اجتهادية نضالية أرادت إزالة استبداد قائم، فإذا بها تؤسس مكانه استبداداً من نوع أخر أكثر شمولاً وكثافة، أما ولاية الأمة على نفسها، فقد أزالت كل مظاهر الاستبداد وفككت موجباته ومسوغاته وتأويلاته الدينية، وتركت السياسة ساحة نشاط إنساني خالص.    

لقراءة الجزء الأول: وجيه قانصو يكتب لـ«جنوبية»: الإمامة بين ولاية الفقية وولاية الأمة على نفسها (1)

لقراءة الجزء الثاني: وجيه قانصو يكتب لـ«جنوبية»: الإمامة بين ولاية الفقيه وولاية الأمة على نفسها (2)

السابق
حذارِ الوقوع في الفخ.. عون يستحضر «الدفاع الأعلى» لإنقاذ باسيل!
التالي
ما صحة تقديم وزارة العمل مساعدات من الوليد بن طلال؟