ساحة الطيران.. من حدد الزمان والمكان

تفجير بغداد

من وجهة نظر أمنية لا يمكن لأجهزة الدولة العسكرية والأمنية تحقيق الإستقرار دون ربطه بالسياسة. فالاستقرار السياسي أحد أهم شروط الاستقرار الأمني، وربط الأمن بالسياسة والاقتصاد أيضا يعزز فرص فرض الاستقرار والسلامة في الدولة التي تعيش مرحلة انتقالية أو خارجة من عنف داخلي أو حرب أهلية، تفرض على أطراف التسوية توافقات أمنية لضمان سلامة العملية السياسية. لكن المحاذير من هذا التوافق أن يدار الأمن بالتوافق، فيصاب بداء الفشل الذي أصاب كافة الديموقراطيات التوافقية التي تحاصصت الدولة من الحاجب إلى الوزير.

مما لا شك فيه أن تدخل السياسة بعمل الأجهزة الأمنية يحولها إلى بوليسي سياسي تستخدمه الدولة المركزية الاستبدادية في قمع المعارضة وخنق الحريات، أما في الحكومات التعددية التوافقية المركبة على أسس إثنية أو طائفية، فإن الأجهزة تتحول إلى أدوات حزبية وطائفية أو عرقية ويفرض عليها التعامل مع القضايا الأمنية بمنطق المصالح والانتماء الخاص المرتبط بالمحاصصة وهذا ما جرى في العراق منذ 17 سنة.

اقرأ أيضاً: «أهم من مقتل سليماني».. حدث إيراني أغفلته وسائل الإعلام

من دفع بالمستهدِف واختار المستهدَف وحدد المكان، في جريمة ساحة الطيران، هدفه عودة العراق والعراقيين إلى التمترس الطائفي، وإعادة تعويم خطاب الكراهية والتحريض

من هنا فإن قرار رئيس الحكومة العراقية مصطفى الكاظمي الإطاحة بعدد من المسؤولين الأمنيين بعد الهجوم الإرهابي الذي يحمل بصمات تنظيم داعش، ومطالبته القوى السياسية بعدم ممارسة الضغوط والتدخل في عملية اختيار البدائل، هي خطوة أولى نحو فصل الأمن عن السياسة والمحاصصة، ومحاولة لتحرير عمل الأجهزة الأمنية من القيود التي تفرضها القوى المتنفذة داخلها. فالقرار لا يعني عدم أهلية من تم استبدالهم، أو اتهامهم وحدهم بالتقصير، بل إن ما حدث هو مسؤولية جماعية تتحملها الطبقة السياسية كافة، والرئاسات الثلاثة والقضاء إذا لم يبادروا إلى المحاسبة وتحمل المسؤولية المباشرة.

جريمة ساحة الطيران رسالة سياسية في الزمان والمكان. فهي ضربت قلب العاصمة العراقية بغداد في الناحية الأكثر فقرا ومعاناة. فمن دفع بالمستهدِف واختار المستهدَف وحدد المكان هدفه عودة العراق والعراقيين إلى التمترس الطائفي، وإعادة تعويم خطاب الكراهية والتحريض، وهذا ما أشار إليه الصحفي العراقي زياد تركي في تغريدته بقوله “خطاب الكراهية والتأجيج الطائفي تشبه أي عملية إرهابية، فهي من جسد واحد ومن ذات الروح”، وهذا يشير إلى قلق في الفضاء العام العراقي من إعادة إنتاج الهويات الفرعية على حساب الهوية الوطنية الجامعة التي التف حولها العراقييون في حربهم ضد تنظيم داعش الإرهابي، وعمدتها انتفاضة تشرين في مواجهة طبقة سياسية فشلت منذ 2003 في إدارة الدولة والثروة.

الفاعل الإرهابي حدد زمانه بعناية، فهو يريد الإعلان عن بداية نهاية الاستقرار السياسي والأمني في العراق، وحدد هذا الإعلان في الليلة الأولى من دخول الرئيس الأميركي الجديد للبيت الأبيض، وهذا ما يمكن اعتباره تخادما مقصودا  منحته جهات تستخدم الإرهاب في التعبير عن موقفها السياسي لجهات تبرر حضورها وشرعيتها بأنها تحاربه. فالفاعل المحرك لأدواته الإرهابية الذي يريد إيقاع الجميع بفخه، قرر لفت نظر المقيم الجديد في البيت الأبيض مبكرا إلى المنطقة وشؤونها، والتلويح بورقة الإرهاب الذي سيعيد إشعال صراعات القوى المحلية والخارجية، لذلك اختار الزمان والمكان الأكثر تأثيرا على واشنطن.

مما لا شك فيه أن البعض يرى في جريمة ساحة الطيران في بغداد فرصة لإسكات شباب تشرين سياسيا وإخراجهم من المنافسة تحت ذريعة ألا صوت يعلو فوق صوت المعركة

بعيدا عن الفضاء الافتراضي الذي استغلته الأصوات الراديكالية التي وجدت في جريمة ساحة الطيران فرصة في العودة إلى تموضعات قديمة تعينها على استعادة مكانتها وتعويض خسارتها الشعبية بعد اللكمات التي سددتها انتفاضة تشرين ضد دعاة الخطاب الطائفي الذين سيستغلون هذا الحادث، وما قد يليه في معركتهم الإنتخابية المقبلة بوجه خطاب تشرين الجامع، فمما لا شك فيه أن البعض يرى في هذا الحادث فرصة لإسكات شباب تشرين سياسيا وإخراجهم من المنافسة تحت ذريعة ألا صوت يعلو فوق صوت المعركة. 

المساحات التي يستغلها الإرهاب في التجنيد والترهيب واسعة، من أبرزها  فشل الحكومات المتعاقبة في معالجة جدية لقضايا إعادة إعمار المناطق المدمرة وإعادة النازحين إلى مناطقهم وتسليم الملفات الأمنية في هذه المناطق إلى وزارتي الداخلية والدفاع، إضافة إلى السجون المليئة بعشرات آلاف الموقوفين على ذمة التحقيق دون محاكمات حتى الآن.

الحل في العراق ليس أمنيا فقط، والكاظمي ومعه الحكومي والأمني ليس أمامهم الا خوض معركة سياسية وقضائية إلى جانب الأمنية التي بدأت بتغييرات القيادة الأمنية من أجل انتزاع التنازلات من القوى السياسية التي تعطل الحلول، لكنها فعليا تعطل الدولة واستعادة هيبتها من البوعيثه إلى ساحة الطيران.

السابق
إنفجار مرفأ بيروت تابع..دعوات برلمانية بريطانية إلى كشف المالك الحقيقي لسافارو!
التالي
هكذا إستوحش «حزب الله» طريق «حق» قاسم قصير..وقمَع سالكيه!