وجيه قانصو يكتب لـ«جنوبية»: التشيّع بين الإيمان الديني والولاء السياسي

وجيه قانصو
يخص المفكر والباحث والأكاديمي الدكتور وجيه قانصو "جنوبية" بمقال أسبوعي ينشر حصرياً على صفحات الموقع و منصاته الإلكترونية.

يتجاذب الوعي الشيعي المعاصر قناعات متعارضة وتوجهات متباينة، تصل في عمقها إلى حقيقة التشيّع نفسه، وإلى كيفية تمثله كقيمة أخلاقية ومرجعية سلوكية في الزمن المعاصر.  

تجاذب الوعي الشيعي


وهو اختلاف نشأ جراء مقترحات متعددة في التعامل مع المستجدات والأمور المستحدثة في الزمن المعاصر، بخاصة مسألة التداخل بين الديني والسياسي، التي يتفرّع منها دور الفقيه ومكانته داخل دائرة الانتظام الشيعي.  بعد غياب الإمام “المعصوم” (القرن الرابع الهجري) الذي كان نقطة ارتكار الجماعة الشيعية ومحور تضامنها،  ظهر دور الفقيه المحوري داخل الجماعة الشيعية، الذي نجح في تحويل التشيّع، بالأخص الفقهاء المؤسسين أمثال المرتضى والطوسي، من ولاءات متفرقة وتضامنات مرتبكة إلى مذهب ذي انتظام داخلي وطقوسية خاصة تضخ فيه شحنات وجدانية وروحية وثقة اتصال بالمطلق، وقواعد تأويل وفنّ استدلال نسجت من خلالها مقترحها الخاص للحقيقة الدينية ومعايير الاستقامة بعد النبي. هو أمر وفّر لعامة الشيعة الإمامية طمأنينة النجاة والخلاص، وحقق ثباتاً للمذهب الإمامي واستقراراً، وصموداً أمام التغيرات الاجتماعية والصدمات السياسية. 

اقرأ أيضاً: وجيه قانصو يكتب لـ«جنوبية»: لبنان ما بعد اتفاق الطائف

 قامت المؤسسة الفقهية الشيعية على وظيفتين أساسيتين: الفتوى والتدبير الاجتماعي. أما الفتوى فهو تحديد الوظيفة الشرعية والموقف الديني داخل الجماعة الشيعية في مجرى تعامل أفرادها مع المعطيات والمستجدات.  تحقق هذا بإخراج القول الفقهي أو الشرعي من التداول الشعبي العام، وحصره بيد نخبة متخصصة أو طبقة “محترفين”،  كانت في البداية عبارة عن طبقة رواة ومحدّثين، ثم تطورت لاحقاً لتصبح طبقة فقهاء – متكلمين لها سلطة الإفتاء الملزم بحيث يكون “عمل العامي من دون تقليد (للفقيه) باطل”.   

أُخرٍج القول الفقهي من التداول الشعبي العام، وحصر بيد نخبة متخصصة أو طبقة “محترفين”

وهو موقف بجعل معرفة مراد الله يمرّ حصراً بفتوى الفقيه، بل يجعل التقيّد برأي الفقيه سمة خلاص ونجاة. كان للفتوى دوراً معرفياً وأيديولوجياً. 

معرفي لجهة أنه يعمد إلى: عقلنة القناعات والمعتقدات بنزع الغموض والغرابة عنها، وتقديم مختلف التفسيرات التي تؤيدها وتسندها، وتركيب نسق مفصل ومنسجم للتقليد الديني على قواعد عقلية برهانية.

أيديولوجي لجهة أن الشعائر والعقائد التي نظمها وصاغها الفقيه من الأدلة الشرعية المعتمدة، لها وظيفة تحقيق تماسك الجماعة الشيعية، ورسم الفوارق الجليّة مع الجهات غير الشيعية، من خلال ترسيخ نموذج تضامني ذي خصوصية تأويلية يضمن تمايزها عن غيرها من الجماعات الدينية المجاورة لها. 

التدبير الاجتماعي كان يمثل ضرورة اجتماعية بحكم بقاء الشيعية على مسافة من التكوين الإجتماعي العام للمسلمين، بسبب الإصرار على خصوصية مميزة لهم


أما التدبير الإجتماعي فيتمثل في تنظيم شؤون الجماعة الشيعية الداخلي، من خلال سلطة القضاء وإدارة الأمور الحسبية والأموال الشرعية (الخمس). هو انتظام كان يمثل ضرورة اجتماعية بحكم بقاء الجماعة الشيعية على مسافة من التكوين الإجتماعي العام للمسلمين، بسبب الإصرار على خصوصية فاصلة أو مميزة لهم، وبسبب بقائها على هامش السلطة. فالسلطة في المعتقد الشيعي المبكر هي من مختصّات الإمام “الغائب” والمتصدي أو المدعي لها مغتصب ومتعدّ.

السلطة في المعتقد الشيعي المبكر هي من مختصّات الإمام “الغائب” والمتصدي أو المدعي لها مغتصب ومتعدّ


هو أمر فرض انتظاماً داخلياً ومغلقاً للجماعة الشيعية، كانت المؤسسة الفقهية أساس ومرجعية انتظامها بحكم أهليتها العلمية وهيكليتها التي أخذ نفوذها يتسع ويتعقّد مع الزمن، إلا أنّ سلطتها ما كانت لترتقي إلى مستوى سلطة الإمام والحلول مكانه، بخاصة بعد أن ترسّخ في الوعي الشيعي أن غياب الإمام هو غياب أو إرجاء لأية سلطة مشروعة، وأن السلطة العادلة المطابقة للمقصد الديني لن تتحقق إلا وفق رؤية نبوءاتية لنهاية التاريخ تتوّج بمعجزة تجري على يد آخر أئمة الشيعة. إقصاء المجال السياسي عن مرمى نظر الفقه الشيعي، والاقتصار على وضع المسوّغات الشرعية للتعامل مع السلطة الحاكمة ضمن حدود حفظ المصالح، جعل الاجتماع الشيعي يستمر من خلال وضعية انتظام داخلية، تتغذى من مخيال ديني كثيف الأسطرة وشديد التقديس، وتقوم على مرجعية الفقيه المركزية في تسيير شؤون الاجتماع الشيعي الذي كان يتمحور حول مقدساته.

إقصاء المجال السياسي عن الفقه الشيعي، والاقتصار على وضع المسوّغات الشرعية للتعامل مع السلطة الحاكمة ضمن حدود حفظ المصالح


ورغم المحاولات بزج المؤسسة في المجال السياسي، وإعطاء النشاط السياسي مشروعية في زمن “الغيبة”، مثلما حصل زمن الدولة الصفوية، إلا أن الموقف العام ظل يرى ضرورة بقاء المؤسسة الفقهية الشيعية خارج دائرة السلطة والشأن العام، وحصر دور الفقيه في مستلزمات تسيير وإدارة الشؤون الدينية للجماعة الشيعية. حيث استقر تقليد عام في مؤسسة النجف، أسس له الشريف المرتضى والشيخ الطوسي، يقوم على عدم وجوب التصدي للسلطة والحكم وعدم وجوب إقامة الحكم العادل في زمن الغيبة. نتيجة لذلك، حافظت النجف على تقليدها الفقهي بحصر صلاحيات الفقيه في الفتوى والقضاء والأمور الحسبية الضيقة، من دون أن يملك الفقيه حق أو واجب إقامة العدالة أو تطبيق الأحكام، بل هي من واجبات المجتمع الذي يعتبر الفقيه أحد أفراده.

إقصاء المجال السياسي عن الفقه الشيعي جعل الاجتماع الشيعي يستمر من خلال وضعية انتظام داخلية، تتغذى من مخيال ديني كثيف الأسطرة وشديد التقديس

وكانت غالباً ما تتحفظ على ما يكسر هذا التقليد. إلى درجة أن الشيخ الأنصاري، الذي كان معاصراً للشيخ النراقي، مؤسس نظرية ولاية الفقيه الأول، كتب معلقاً على تلك النظرية بالقول: “فإقامة الدليل على وجوب إطاعة الفقيه كالإمام المعصوم إلا ما خرج بدليل دونه خرط القتاد” ثم يقول: ” بل المتبادر عرفا من نصب السلطان وجوب الرجوع في الأمور العامة المطلوبة للسلطان إليه”. أي استعاد الأنصاري، ومن بعده تلميذه حسن الشيرازي الوضعية التقليدية في علاقة الفقيه بالسلطة القائمة على تقاسم نفوذ: الشرعيات للفقيه والعرفيات للسلطان. كذلك نجد السيد يزدي، كبير فقهاء ومراجع النجف، قد واجه الشيخ الخرساني والميرزا النائيني اللذين أيدا ودعما الثورة الدستورية في إيران ضد الشاه، فعمل على تثبيت الموقف التقليدي للنجف بعدم التورط في المجال السياسي.  

رغم المحاولات إعطاء النشاط السياسي مشروعية في زمن “الغيبة” إلا أن الموقف العام ظل يرى ضرورة بقاء المؤسسة الفقهية الشيعية خارج دائرة السلطة


وعندما أنعش الخميني مقولة ولاية الفقيه المطلقة، كان البحث الفقهي عند المرجع محسن الحكيم والسيد الخوئي، يتركز على تأكيد ولاية الفقيه الجزئية التي تنفي سلطة الفقيه وصلاحيته في إدارة الشأن العام.
 هذا الموقف تغير بالكامل، مع نجاح الثورة الإسلامية في إيران التي قامت على قاعدة دينية، إنطلاقاً من خطاب فقهي جديد يعتبر السلطة وممارستها وفق نظرية ولاية الفقيه من أساسيات الإنتظام الديني للجماعة الشيعية.  هو موقف أحدث إرباكاً في مباني وتأسيسات ومهام المؤسسة الفقهية الشيعية، ونقلها وفق هذه النظرية من مستوى انتظام رعوي نسبياً إلى مستوى سلطة سياسية عليا يكون الفقيه رأسها ونقطة ارتكازها. 

بين حوزة قم والنجف


النظرة المستجدة إلى دور الفقيه، ولّد جدلاً عميقاً داخل المؤسسة الفقيهة الشيعية. فحين استجابت حوزة قم إلى المهمة الجديدة، وبات اجتهادها الجديد يرفد ضرورات الدولة الدينية في إيران، حافظت النجف على موقفها التقليدي، باعتبار المجال العام خارج تخصصاً لا تخصيصاً من دائرة نشاط المؤسسة الدينية، وحصر دورها في رعاية الوظائف الدينية الشخصية داخل الجماعة الشيعية.

نتيجة لذلك، استقر التفكير الفقهي حول دور الفقيه، وبالتالي الإنتظام الاجتماعي والسياسي للشيعة، على موقفين أساسيين، يتداخلان في بعض جوانبهما ويتعارضان في جانب آخر منها:

  • أولهما: ولاية الفقيه، أي سلطة المؤسسة الدينية المطلقة، التي تعتبر ضرورة انتظام المجتمع السياسي على قاعدة دينية. هو موقف حقق مشروعية دينية للعمل السياسي، بحيث لم يعد مقتصراً على الإمام “المعصوم” الذي سيظهر آخر الزمان ليملأ الارض قسطاً وعدلاً، بل يمكن ممارسة الحياة العامة، بإذن منه لكن تحت مظلة ووصاية من ينوب عنه.  ما جعل ولاية الفقيه امتداداً لعقيدة الإمامة الدينية نفسها وترسيخاً لمرجعيتها العليا في مجال التدبير السياسي.  وهو أمر استعاد المطابقة بين الولاية السياسية والولاية الدينية، وأحال السلطة العليا حقاً غيبياً يتحصل بالاصطفاء أو التعيين الإلهي.
  • ثانيهما: الفصل بين الإمامة كمعتقد ديني من جهة والسلطة السياسية من جهة أخرى، وهو موقف تطور تدريجياً في النجف، وينطلق من اعتبار الإمامة مكانة دينية خالصة واعتبار قضايا الإنتظام السياسي مسائل مجتمعية خالصة.  هذا الموقف فتح المجال للقول بمشروعية الحياة السياسية باعتبارها ضرورة الإجتماع نفسه وثمرة تفاعلاته الداخلية لا باعتبارها حقيقة دينية.  هذا الفصل سمح للفقهاء في مطلع القرن العشرين بالتنظير لمفهوم السلطة على قاعدة الديمقراطية الحديثة نسبياً، والتأسيس لمشروعية سياسية تقوم على الدستور والتمثيل الشعبي. 

الفصل بين الإمامة كمعتقد ديني من جهة والسلطة السياسية من جهة أخرى، وهو موقف تطور تدريجياً في النجف

وهو تنظير بدأت ملامحه مع ظهور اتجاهات اجتهادية تفصل بين الإمامة والخلافة ( السلطة المشروعة) وعدم التلازم بينهما، من قبيل موقف آية الله الحائري الذي اعتبر أن “الخليفة هو الأمين والحافظ لخزائن الأرض بينما الإمام هو المؤتمن على خزائن العلوم الإلهية والنبوية”، وبدا جلياً في كتاب النائيني “تنبيه الأمة وتنزيه الملة”، ووصل إلى ذروته ونضجه الكامل مع نظرية “ولاية الأمة على نفسها” للشيخ محمد مهدي شمس الدين.


تقف المؤسسة الفقهية الشيعية اليوم، ويقف معها الاجتماع الشيعي الموزع في العالم، على مفترق طرق: بين موقف يدفعها إلى الإنتظام الإجتماعي على قاعدة مدنية، بأن يكون الشيعة جزء من مكون اجتماعي أوسع، وداخل انتظام سياسي عقلاني قوامه الحقوق الطبيعية والعقد الاجتماعي، يسهل تكاملهم مع بيئتهم وتفاعلهم مع محيطهم، وبين موقف يدعو إلى الإنتظام الاجتماعي والسياسي على قاعدة سلطة دينية عليا، تعمق العزلة بين الشيعة وبين بيئتهم المحيطة، وتخلق بداخلهم ثنائية متناقضة: بين إيمانهم الديني وولائهم السياسي لدولهم.  

السابق
تخبط في السراي.. انقسام حول شكل وتوقيت الإقفال!
التالي
السجل الكامل للضربات الإسرائيلية على سوريا في 2020