العراق: هل من تاريخ صلاحية لفتوى السيستاني؟

الحشد الشعبي العراقي

سألتني صديقة عراقية: لماذا تطلقون في عملكم الصحفي اسم ميليشيا الحشد الشعبي على فصائل الحشد، في حين أن هذه الفصائل تشكلت بموجب قانون صادر عن البرلمان العراقي، وهي ممولة من الحكومة؟

سؤال الصديقة ليس بريئاً طبعاً، ولا تمسكنا بعبارة ميليشيا بريء بدوره. إنها ميليشيا، وعلى ضفافها تقيم عصابات قتل شطبت وجوه مئات الناشطين والصحافيين العراقيين! لكنها، أي ميليشيا الحشد، حالة فريدة من نوعها في تجارب الأنشطة الميليشياوية في العالم. إنها ميليشيا مشرعة بقانون صادر عن مجلس النواب، وقبل القانون، وهنا القطبة المخفية في قصة العراقيين مع الحشد الشعبي، تأسس الحشد الشعبي بموجب فتوى صادرة عن المرجع الشيعي السيد علي السيستاني في العام ٢٠١٤ في أعقاب احتلال تنظيم “داعش” نحو ثلث مساحة العراق ووصوله إلى مشارف بغداد، وعجز القوى النظامية العراقية من وقف تدفقه.

مناسبة هذا الكلام اليوم هي الواقعة المأساوية التي شهدتها مدينة الناصرية في جنوب العراق، هناك حيث أقدمت سرايا السلام، وهي الميليشيا التابعة للتيار الصدري، على قتل ستة متظاهرين. وسرايا السلام تقيم على مسافة غير واضحة من ظاهرة الحشد الشعبي، فهي مسلحة على نحو “شرعي” بفعل فتوى السيستاني وقانون الحشد الصادر عن البرلمان، إلا أنها لا تأتمر بالقيادة الرسمية للحشد التي من المفترض وبموجب القانون أن تعود لرئيس مجلس الوزراء. وهذه حال معظم فصائل الحشد المسلحة، إذ من الصعب، لا بل من المستحيل تخليص خيوط هذا النوع من العلاقات، وبالتالي تحديد المسؤوليات والمحاسبة. 

اقرأ أيضاً: «ريتز بغداد»… قسوة الفساد العراقي

لما يسمى “الفصائل الولائية” قصة مشابهة، فهي بدورها مجموعات من الحشد تعود قيادتها للحرس الثوري الإيراني، مثل “حزب الله العراق” و”عصائب أهل الحق” وغيرها، ومن المرجح، لا بل المؤكد، أن هذه الفصائل هي من يستهدف المنطقة الخضراء في بغداد، وتحديداً السفارة الأميركية هناك، بالصواريخ، وغالباً على وقع التوترات بين واشنطن وطهران. وهنا أيضاً يحضر سؤال شرعية سلاح هذه الفصائل، وربما يصل السؤال إلى شرعية أفعالها. ذاك أن هذه المجموعات تستند في تسلحها وفي نشاطها على قانون صادر عن مجلس النواب، وعلى فتوى “الجهاد الكفائي” الصادرة في أعقاب انتصار “داعش” على القوى النظامية العراقية.

أعلن العراق منذ ما يقارب الثلاث سنوات انتصاره على تنظيم “داعش”. هذا الانتصار الذي كلف أهل الرافدين تدمير ثالث أكبر مدينة في العراق، أي الموصل، وعشرات المدن والبلدات في الشمال والغرب والوسط، لم يترجم عبر إعادة البندقية إلى الشرعية العراقية. صار لسلاح الحشد وظيفة سياسية، فهو ممثل في مجلس النواب، وهو موظف في خدمة ايران، وله أيضاً وظائف في تشكيل الحكومات وتوزيع الثروات وبسط النفوذ على الإدارات. ومؤخراً صار جزءاً من أدوات القمع التي في يد الدولة العميقة في بغداد، أي طهران.

قبل أيام قليلة كشف مقربون من السيستاني عن تذمره من توظيف السلاح في العملية السياسية واستيائه من استعمال السلاح في مواجهة المتظاهرين. لكن “مداواة” هذا الاستياء تقتضي تأملاً بمسؤولية المرجعية عن ظاهرة الحشد المسلح في العراق. ففتوى “الجهاد الكفائي” من المفترض أن يكون لها “تاريخ صلاحية” طالما أن المهمة التي صدرت في أعقابها قد أنجزت.

والعراق يكرر تجربة دولة فاشلة مثل لبنان مع السلاح غير الشرعي، وهذا التكرار معزز في الحالة العراقية بموجب قانون، في حين تقتصر “شرعية” السلاح غير الشرعي في لبنان على بيانات وزارية. والتجربة اللبنانية تكشف حجم طوفان السلاح غير الشرعي على كل شيء في جمهورية الموز اللبنانية، وهذا درس لمرجعية النجف في العراق قبل أن يكون درساً لمجلس النواب في بغداد، إذ أن الأخير مشكل من قوى لا مصلحة لها في أن تستعيد الشرعية العراقية سلاح الحشد وأن توقف تمويله.

وإذا كان ثمة طموحاً شيعياً عراقياً بكف يد طهران عن العراق، وهذا الطموح موجود خلافاً للبنان، فإن الشرط الأول لتحقيقه هو حل معضلة “الحشد” بعد انتهاء مهمته. فالسلاح الموازي هو نموذج طهران المفضل في الدول التي تمد نفوذها فيها. الحرس الثوري في إيران، وحزب الله في لبنان والحشد في العراق وأنصار الله في اليمن، وسوريا التي يعوز طهران فيها عمقاً مذهبياً أوجدت لها صيغاً ميليشياوية موازية.

انتقل “الحشد” في العراق من مقارعة “العدو المذهبي” إلى مقارعة عدو داخل المذهب، يتمثل في الشارع الشيعي المنتفض في وجه السلطة العميقة. والغريب في هذه المواجهة أن السلطة التي تتولى قمع المتظاهرين وقتلهم هي الحشد وليست الأجهزة الأمنية الرسمية للدولة. هذه الظاهرة تكشف هوية السلطة الحقيقية، وتكشف أيضاً حقيقة أخرى تتمثل في أن المهمة المتبقية أمام الحشد هي حماية نفوذ طهران الذي يهدده المتظاهرون.  

السابق
لبنان «قضيّة إنسانية»… قضية جوع!
التالي
استعدوا.. الأمطار والثلوج تعود مجددا!