«العالم التركي»

تركيا

تتعامل أنقرة مع النزاع الأذربيجاني الأرمني على إقليم ناغورنو قره باغ كوسيلة للوصول إلى غاياتها المتعددة في الجزء الأغنى من الفضاء الأورو – آسيوي، وتخطط لاستعادة نفوذها في ما يمكن تسميته بالمجال الحيوي العثماني – التركي، الذي وضعت روسيا القيصرية ومن بعدها السوفياتية يدها عليه حتى نهاية الحرب الباردة، حيث تحاول موسكو منذ سقوط الاتحاد السوفياتي وإلى الآن فرض نفوذها على ما تسميه هي أيضا بالمجال الحيوي السوفياتي – الروسي. 

لكن هذا الحيّز الجيواستراتيجي بخصوصياته العرقية والدينية جعله يمتلك تعريف آخر هو الفضاء الإسلامي جنوب روسيا، الذي يمتد من تركستان الشرقية عند الحدود الصينية القيرغيزية حتى شواطئ بحر قزوين في أذربيجان، هذه الخصوصيات تشغل أنقرة منذ بداية ثمانينيات القرن الماضي بهدف استعادة حضورها في مناطق تطلق عليها نخبتها السياسية والعسكرية صفة “العالم التركي”.

في النصف الأول من ثمانينيات القرن الماضي وبعد انقلاب الجيش بقيادة الجنرال كنعان افرين، وما تلاه من نقاشات بين نخب السلطة لضرورة إعادة القراءة لتركيبة المجتمع والدولة في تركيا والمرحلة الانتقالية ما بين افرين والرئيس الراحل تورغوت أوزال وتأسيس البيت الثقافي التركي، أعاد الأتراك الاعتبار لهويتهم الإسلامية الأناضولية التي كانت فيما بعد ركيزة لتأسيس الهوية الإسلامية التركية.

وكانت بطاقة العبور لأنقرة باتجاه القوقاز وآسيا الوسطى بعد 60 سنه من التنكر وإدارة الظهر لهذا العمق على يد كمال أتاتورك، الذي يقول عنه الكاتب اللبناني ميشال نوفل في كتابه (عودة تركيا إلى الشرق) أن “أتاتورك تخلى عن أي تطلعات إلى الأجزاء غير التركية من السلطنة، مثلما تجاهل الشعوب التركية في آسيا الوسطى، مركزا جهده على بلاد الأناضول مبتعدا عن طموحات غير واقعية في حينه لدعاة الوحدة التركية الشاملة”.

اقرأ أيضاً: موسكو وأنقرة والفضاء التركي

في زيارة وزير الدفاع التركي خلوص أكار الأخيرة إلى عدد من جمهوريات آسيا الوسطى، برزت بعض المفاهيم ذات الصلة بفكرة الوحدة التركية الشاملة، وذلك بعدما عرض على المسؤولين الذين التقاهم فكرة تشكيل جيش موحد، وهذه المرة الأولى التي يتم فيها مناقشة تأسيس جيش موحد للشعوب التركية على هامش مفاوضات تطرقت إلى تطوير اتفاقية التعاون العسكري ما بين تركيا وكازاخستان.

لا شك أن اندفاعة أنقرة إلى جانب باكو في حربها مع أرمينيا، إضافة إلى التردد الذي يعطل قرار الكرملين في اتخاذ موقف حاسم من الصراع تجنبا لأعباء اقتصادية واستراتيجية مكلفة على المدى المتوسط والبعيد لن تتحملها موسكو إذا قررت التمسك بثوابتها الجيوسياسية في منطقة ما وراء القوقاز، أتاح لتركيا إيجاد فرصتها في تحريك بيادقها في هذه الرقعة مستغلة ضعف دفاعات القيصر “الملك” في حماية رقعه المهددة إما بالتفكك أو الانفصال.

التطلعات التركية إلى آسيا الوسطى ليست جديدة، فمنذ سقوط الاتحاد السوفييتي وأثناء حكومة تانسو تشيلر، بلورت النخب التركية مشاريع استراتيجية على عدة صعد بداية من المشتركات الثقافية والعرقية والدينية إلى الاقتصادية والعسكرية من أجل ملء الفراغ في الفضاء الإسلامي جنوب روسيا الذي تعاملت مع القيادة التركية كامتداد حيوي وجعلته أولوية فوق وطنية.

سنة 1997، نشر مستشار الأمن القومي الأميركي بريجنسكي كتابه الشهير (رقعة الشطرنج الكبرى) الذي قدم فيه قراءة جديدة للفضاء الأوروآسيوي بعد سقوط الاتحاد السوفياتي، وركز فيه على تفكك الحيز الآسيوي واعتباره مليء ببيادق مفككة قابلة للانفجار عند أي مواجهة داخلية أو تدخل خارجي فاعل، ووفق رؤية بريجنسكي تمثل آسيا الوسطى جزءا أساسيا من الأزمات التي تحيط بروسيا وتعرقل طموحاتها، وتحولها من دولة توسعية “إمبراطورية قارية” إلى قوة شبه عظمى منشغلة في حماية أمنها القومي الذي باتت أنقرة على تخومه وتهدد استقراره.

مما لا شك فيه أن النزاع على قره باغ، الذي تفجر سنة 1990 كان إشعارا لتركيا بضرورة التحرك في منطقة ثروات ضخمة لا يمكن إهمالها، وهي نجحت في الجمع ما بين القومي والديني في عملية تعبيد الطريق أمام طموحاتها، فتركيا التي تقترب من تحقيق جزءا من أهدافها، تعبد الطريق أيضا لحروب ونزاعات جديدة في منطقة كانت سببا مباشرا في قيام إمبراطوريات وزوال أخرى أو هزيمتها من طريق الحريري إلى اللعبة الكبرى.

السابق
مسودة جديدة للحكومة بين عون والحريري في لقائهما السابع!
التالي
سيناريو حكومة«الثلاث ستات»..قيد التشاور بين الحريري وعون!