نعم… الإسلام في أزمة

فرنسا والمسلمون

لا بد من التوقف عند السجال الذي رافق الجريمة المروعة التي ارتكبها المراهق الشيشاني في فرنسا عبر قطعه رأس المدرس، والذي خاضه مثقفون وناشطون عرب أو من أصول عربية، وهم بدورهم هالتهم الجريمة، فقد ارتأى بعضهم أن يضع الجريمة في سياق أزمة المجتمعات الأوروبية وخصوصا منها المجتمع الفرنسي، واعترف بعضهم الآخر بأزمة الإسلام، إلا أن هذه الأزمة بحسبهم لم تكن وحدها وراء الجريمة، إنما أيضا هي استجابة لما تعيشه أوروبا من أزمات، لعل أبرزها صعود اليمين المتطرف في معظم دولها.

أوروبا في أزمة، لا بل في أزمات، ولكل دولة فيها حكايتها الخاصة وتوتراتها الخاصة بما يتعلق بصعود اليمين وانخفاض مستويات التسامح. وهي، أي أوروبا، تفكر في نفسها، وتناقش وتتأمل وتقلق، وينقسم ممثلو النقاش بين من يعيد صعود اليمين إلى موجات النزوح واللجوء، وبين من يعيده إلى الاختناق الاقتصادي والركود الذي يضرب العالم. ولنا كل الحق في أن نكون جزءا من هذا النقاش. لنا الحق كبشر ننتمي إلى قيم تقول أوروبا إننا جزءا منها، ولنا الحق أيضا كأفراد صادرين عن ثقافة صارت جزءا من ثقافة القارة العجوز ومن فسيفسائها. 

اقرأ أيضاً: بعد الاعتداءات الارهابية أمس.. حادث أمني جديد في فرنسا

الأمر مذهل فعلاً، والإسلام في مأزق فعلي، ذاك أن ممثليه في هذا السجال الجوهري بلغوا من الحمق ما يهدد فرص وجود مكان لهذه الثقافة خارج إمارات “التوحيد والجهاد”

أما أن نقحم هذا النقاش بأزمة الإسلام بصفتها جزءا من أزمات القارة، وفي لحظة جريمة حملت توقيعا لا لبس فيه، وهو توقيع يردها إلى هوية وإلى مشهد متصل بممارسات لطالما أعادتنا إلى نصوص دينية ما زالت حية ومعتمدة، فهذا ينطوي على ميل إلى تنصل (ثقافي) من الجريمة.

الجريمة هي لحظة من المفترض أن تأخذ النقاش نحو مسؤولية المسلمين ومسؤولية الإسلام عن قضايا الاندماج والقبول بثقافة يمثل فيها أقلية. “الحق في السخرية” ليس جزءا من أزمة صعود اليمين المتطرف في أوروبا، وتحديدا في فرنسا. ثم أنه لماذا لا يستهوينا نقاش دور الانهيارات الاقتصادية الكونية في صعود هذا اليمين، ونقدم عليه صدام الهويات، وميول التقوقع والانكفاء، علما أن المعضلة الأولى هي مصدر الثانية! 

لكن، قبل أن نصل إلى هذا المستوى من الخلاف مع أصحاب مقولة المسؤولية الفرنسية عن الجريمة، أو مع أصحاب مقولة مسؤوليتا فرنسا والإسلام، لا بد من التذكير بأن الجريمة مناسبة للتفكير في الإسلام، وتحديدا في أوروبا، أما مأزق فرنسا مع نفسها ومع نظامها ومع علمانيتها، فهذا جارٍ التفكير فيه والخلاف حوله، والجريمة دفعته نحو مستويات خطيرة على فرنسا، ولكن أيضا على مسلميها ومهاجريها بالدرجة الأولى. إنها، أي الجريمة، مساهمة الإسلام الراديكالي في هذا النقاش وفي هذا الانقسام.

لكن لهذا المشهد سياقات أخرى أكثر وضوحا وتأثيرا، فقد تجندت في المعركة على فرنسا دول وأحزاب ووسائل إعلام شديدة التأثير. قناة الجزيرة التي تنعقد حولها أمزجة جماعات الإخوان المسلمين في معظم دول العالم لم تستعن بالتقية لتصريف مأزق الإسلام الذي عبرت عنه الجريمة. القيم الفرنسية وراء الفعلة الرهيبة للمراهق الشيشاني. على الفرنسيين أن يعتقدوا بذلك، وعليهم أن يتحملوا مسؤولية انتخابهم إيمانويل ماكرون رئيسا. الأزهر بدوره قرر رفع دعوى قضائية على صحيفة “شارلي إيبدو”. هذه الخطوة تجعل من جريمة المراهق الشيشاني أمرا طبيعيا، ذاك أنه ارتكب جريمته ردا على نفس الرسوم التي قرر الأزهر أن يقاضي الصحيفة عليها.

إردوغان حوّل البرلمان التركي إلى تكية صوفية أثناء نقاشه الإجراءات الفرنسية في أعقاب الجريمة، والأزهر الذي كان رفض أن يصدر فتوى تكفير لـ”داعش” قرر مقاضاة “شارلي إيبدو”!

الأمر مذهل فعلا، والإسلام في مأزق فعلي، ذاك أن ممثليه في هذا السجال الجوهري بلغوا من الحمق ما يهدد فرص وجود مكان لهذه الثقافة خارج إمارات “التوحيد والجهاد”. رجب طيب إردوغان، الشريك الأكبر في “الجهاد في سوريا” حوّل البرلمان التركي إلى تكية صوفية أثناء نقاشه الإجراءات الفرنسية في أعقاب الجريمة، والأزهر الذي كان رفض أن يصدر فتوى تكفير لـ”داعش” قرر مقاضاة “شارلي إيبدو”! أليس هذا كافيا للقول بأن الإسلام في أزمة، وأن هذه الأزمة انتقلت معه إلى أوروبا؟ 

وقد يتفق المرء مع أصحاب مقولة أن أزمة الإسلام وصلت إلى أوروبا والتقت هناك بأزمات تلك القارة وعقدا قرناهما وأنجبا المراهق الشيشاني، لكن هذا نقاش لاحق، ويجب أن يسبقه تفكير بالنفس بصفتها أمارة بالسوء. فـ”شارلي إيبدو” حين ذهبت في هزئها من الأديان إلى حيث تتيح لها الحرية فعل ذلك، صار بوسعها أن تفعل ذلك بعد أن فكرت فرنسا بنفسها وأعطت الحق للصحيفة بأن تذهب في رسوماتها إلى حيث تريد، طالما أن فعلتها لا تنتقص من حرية الآخرين ولا تهدد حياتهم.

لكي نصبح جزءا طبيعيا من فرنسا، كمسلمين مؤمنين وغير مؤمنين، علينا أن نعتقد أن لـ”شارلي إيبدو” الحق في أن تنشر رسومها. هذا تفصيل صغير في السجال، وبعد ذلك نبدأ بالمشاركة في النقاش حول مسؤولية فرنسا عن صعود يمينها، وإطاحته بوسطها ويسارها.

السابق
خلاف الـ35 متراً وخرائط الانتداب.. كيف تسير مفاوضات ترسيم الحدود!؟
التالي
جاء من ايطاليا.. أول صورة للتونسي مروّع نيس!