الــمــاكــرونــيــة

الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون

إيمانويل ماكرون رئيس دولة غير تقليدي. يبدو قريباً من الشارع والشعب. يتقن فنّ التعامل مع الجمهور ويقترب براغماتيكيا من الشعبوية. يرخي ربطة عنقه أو قد ينزعها تماماً وفق حاجة الجولة الميدانية. أكمام قميصه مثنية ويتحرك بدون ضوابط بروتوكولية. لغة جسده أقوى من نبرة صوته ويتصرّف بعفوية مدروسة، فلا يمانع أن يبدأ زيارته الرسمية بلقاء غير رسمي مع الفنّ لا السياسة وبزيارة السيدة فيروز لا “سيّد” القصر. يتحدّث بالسياسة من وراء المنابر ولا يعتمد الخطاب الشعبوي. يختلف تماماً عن الرؤساء الذين اعتادهم اللبنانيون أو تجّار “السلطة” و”المال” بمواكب رسمية، أما الشعبوية فبالخطاب وراء المنابر لا في سلام يد أو معانقة القاعدة الشعبية. كلّ ذلك أعطى الرئيس الفرنسي صدقيّة غير اعتيادية لشعب فقد الثقة بساسته.

ماكرون، هذا الرجل الرومانسي، أحبّ معلمّته وتزوجها وتأبّط ذراعها ودخلا سويا قصر الإليزيه. مثل هذه الشخصيات غريبة على مجتمعنا لكنها ليست بغريبة عن المجتمع الأوروبي. وكلّ ذلك إنما يعيدنا إلى نقطة البداية لنتساءل: هل تعامل ماكرون مع الأزمة اللبنانية وفق تقليده المجتمعي – السياسي الجذاب بالنسبة لشريحة كبيرة من اللبنانيين أم أنه أداء مدروس للتأثير في مجتمعنا فينساق الشعب وراء مبادرته ويدعمها؟ في الحالتين يبدو أنّ الرئيس الفرنسي الرومانسي – الشعبوي يبحث في أدائه السياسي عن حل أزمة غريبة عن مجتمعه المدني ودولته “القادرة” التي تحتكر السلاح.

اقرأ أيضاً: من السمك إلى الشاي فالمازوت: أين طارت المساعدات؟

أمّا الفساد في فرنسا ـ كما في أي مكان في المعمورة ـ فهو موجود إلا أنه يخاف الدولة والمؤسسات والمحاكمات و”الاغتيالات السياسية” بقوة القانون لا القنّاصة أو السيارات المتفجرة. إذن، يا سيّد ماكرون فإنّ مقاربة الأزمة اللبنانية يحتاج منك أن تتلبنن (من لبنان) للتعامل مع حل هذه الأزمة وألا تبحث عن الحل من منطق رومنسي – شعبوي – فرنسي. ففي لبنان، سلاح غير شرعي وفاسدون يسنّون القوانين ويقيمون محاكمات لا تطالهم، فقضاؤنا غير مستقل عن ساستنا بخلاف فرنسا أو غيرها من الدول الكبرى. فأين أخطأ ماكرون؟ وأين باتت مبادرة الرئيس الفرنسي أكثر خطورة على لبنان من الواقع نفسه؟

أدت زيارة الرئيس ماكرون الأولى والثانية إلى لبنان إلى تعويم الطبقة الحاكمة بكل مكوناتها وفئاتها من دون استثناء. ولا عجب أن يفسر الحكام بأنها “أنهت العزلة” التي فرضت عليهم، لا بل اضطرار الرئيس الفرنسي إلى التعامل مع حزب الله بالرغم من القرار الأوروبي بالدفع لوضع جناحه السياسي على غرار الجناح العسكري على لائحة الإرهاب الأوروبي. ليتحوّل اعترافه بالحزب إلى صفعة للدول الأوروبية التي سارت بالركب الأميركي.

وفي إطار التعويم لوحظ أنه من ضمن غايات ماكرون مهمة تلميع صورة الحكم المتهالكة على الأقل للسنتين المقبلتين، بعد أن كانت قد وصلته الإحصاءات الحديثة التي تشير إلى انحدار شعبية “الحزب الحاكم – التيار العوني” من نسبة 36% من الناخبين عشية الانتخابات الأخيرة إلى نسبة 14 % بعد الأزمة الاقتصادية، لتصل إلى 9% بعد انفجار مرفأ بيروت والزلزال الذي أصاب عاصمة لبنان. لدرجة أن التضعضع أصاب حتى كتلة نواب العهد فانسحب منها أربعة بينهم الصهر الثاني لرئيس الجمهورية. ولا بد أن ماكرون قد وصلت إلى علمه صور حملة المشانق التي من بينها مشنقة مخصصة لمن يسعى إلى تلميع صورته أو وضع يده بيده (حزب الله) لإنجاح مساعيه.

على ذات المنوال مد الرئيس ماكرون حبل النجاة إلى سعد الحريري الذي ـ منذ العام 2005 ـ يقدم التنازل تلو الآخر لحزب الله، لدرجة أنه سهّل انتخاب مرشح الحزب لرئاسة الجمهورية زاعماً أن التسوية الرئاسية ستأتي بشاغل الموقع إلى مكان وسطي بعيدا عن حزب الله، فسرعان ما خاب تقديره ليقع هو نفسه بحضن تحالف عون – حزب الله مبتعدا بأشواط عن بيئته السنية وعن دول الخليج. وتبيّن أنه عندما يُخيَر فإنه يختار فرنسا على غيرها. ومجددا وقع تحت الضغط الفرنسي ليسمي مصطفى أديب كمرشحه المكلف لتأليف الحكومة العتيدة، مانحا الحكم الحالي تغطية سنية كان يفتقد إليها، وكأنه على استعداد مجددا للدخول بتسوية أخرى. ومثله وعلى منواله مضى وليد جنبلاط يمدح المبادرة الفرنسية ويلقي عليها الصفات الحميدة وبأنها “فريدة”.

قيل إن الورقة الفرنسية تتضمن إصلاحات غير أنه بمجرد التمعن بها يتبين أنها لا تحتوي على أي إصلاح، لا بل نزع ماكرون منها بند الانتخابات المبكرة بعد أن توجه إلى النائب المستقيل سامي الجميل المتحمس للانتخابات المبكرة سائلا إياه “باعتقادك كم نائب في الانتخابات سيتغير؟ وهل هؤلاء باستطاعتهم إجراء التغيير؟”.

فالورقة الفرنسية لا تتضمن إصلاحات إنما تدابير وإجراءات ضرورية تتعلق بحسن إدارة المرافق العامة. فالإصلاح أولا وأخيرا يستهدف إصلاح النظام السياسي المتعفن بحيث يتساوى المواطن اللبناني مهما بلغت اختلافاته المناطقية والطائفية والمذهبية، فيتحول لبنان إلى دولة المواطن بدلا من دولة الطوائف والمذاهب.

وفي هذا الإطار، إن أردنا كلبنانيين الاتجاه نحو الإصلاح فمن المفروغ السير لاستبدال المناصفة بالمثالثة بدل بدولة عصرية حديثة قوامها احترام حقوق الإنسان وحرياته ليتساوى فيها جميع المواطنين على حد سواء. وبالحديث عن المثالثة وطرح ميثاق تأسيسي جديد، يبدو أنّ الرئيس الفرنسي يقدّم “خدمة العمر” لحزب الله وحلفائه ممن يهاجمون اتفاق الطائف الذي لم يُطبّق بأكمله. لا بل ذهب حزب الله والتيار العوني لاعتباره هدفاً لمهاجمته فيما أصلا لا يحكم الدستور ممارساتيهما السياسية حيث أنّ لبنان تحكمه قوة السلاح لا القوانين، والمقصود بالنظام التأسيسي تكريس هذا الواقع بالنصوص (عبر ميثاق تأسيسي جديد) بدل تغليب الدستور الحالي على الممارسات الشاذة.

أمام تنفيذ ورقة الرئيس ماكرون عدة عقبات أهمها أن إيران تريد من خلال عوائق حزب الله التصلب بوجه فرنسا فتقدم الأخيرة على تقديم الأثمان لطهران سواء على صعيد التمويل أو كما فعلت الدولة الأوروبية بتمنعها عن التصويت على مشروع القرار الأميركي في مجلس الأمن المتعلق بحظر استيراد وتصدير الأسلحة من إيران وإليها. كما أنّ الضغوط ستتزايد على الرئيس ماكرون لأنه في لبنان أصاغ السمع لإيران فامتنع عن الاعتراف بحق اللبنانيين بالسيادة الكاملة لدولتهم على أراضيها وشعبها وحدودها ومؤسساتها ومرافقها.

غير أنه بعد أقل من ثلاث ساعات على زيارته أعلن من مطار بغداد أنه في زيارة لتحقيق سيادة العراق الكاملة متلاقيا مع طلب الكاظمي. ومما لا يدعو للشك بأن الرأي العام والإعلام الفرنسي على منوال جورج مالبرونو سيثيرون السؤال المنطقي البديهي: لماذا في بغداد طالب ماكرون بالسيادة الكاملة بينما في لبنان لا يرى من ضرورة للسيادة المنتهكة لا بل المغتصبة؟ أم أنها الميكيافيلية المغطاة بالماكرونية؟

السابق
حريق المرفأ يُهجّر أبناء الجمّيزة ومار مخايل.. الشوارع خالية!
التالي
فيديو من داخل العنبر المحترق.. نيران تلتهم كل المواد الموجودة!