هل نودِّع المستقبل مع خاتمي

هاني فحص

على المستوى الشخصي، لم أخفِ ولن أخفي حماسي للسيد محمد خاتمي العالِم الروحاني والمثقف والمجاهد والوزير الذي عرفته عن كثب، ولا أشترط لإستمرار هذا الحماس استمراره في سدّة الرئاسة، التي لا أتوقع أن يغادرها مستقيلاً أو مقالاً لأنه، وكما قلت في الأسبوع الأول لانتخابه رئيساً، هو غير بني صدر وله في عقول المختلفين معه صورة مختلفة عن صورة بني صدر .

ولأن البحث المهموم عن طريق خاص لحداثة إسلامية أو عربية ، كان شاغلي القديم وما يزال وسوف يبقى، وجدتني مشدوداً الى أفكار التحديث الإسلامي التي حملها خاتمي بعدما كان يحملها منذ كان في قم وكانت هذه المسألة تشغل النابهين من علماء قم في شبابهم (مطهري وبهشتي وموسى الصدر ، مثالاً لا حصراً). ولسوف نبقى مشدودين الى هذه الأفكار بصرف النظر عن وصولها أو قصورها.

اقرأ أيضاً: طهران وواشنطن… التنازل عن التفاصيل حفاظاً على الأصول

أفكار الرئيس

على حماسي، لم أكن منذ الأيام الأولى لانتخابه رئيساً للجمهورية الإسلامية في إيران، متفائلاً كثيراً بإمكان تحقيق أفكار الرئيس، على الأقل بالسهولة واليُسر اللذين كان يتوقعهما من يزيد حماسهم على حماسي، ولم أجد في الواحد وعشرين مليوناً مباركاً من الأصوات ضمانة لهذا التحقيق والتطبيق . لقناعتي بأن هذا التأييد لم يكن يعكس تطوراً سياسياً بالمعنى الدقيق، وإنما هو تعبير عن تطور ما في الاجتماع الإيراني، ليس بالضرورة أن يتحوّل الى تطوّر سياسي موازٍ في حجمه وعمقه، بالسرعة التي يتصوّرها المتحمسون.

ذلك ان آلية الإنتاج السياسي أعقد بكثير من آلية الإنتاج الإجتماعي والثقافي ، وليست العلاقة بين الظواهر الاجتماعية والثقافية وبين الظواهر السياسية علاقة سببية طبيعية، أي أنه لا حتمية في هذا المجال والمقام .

وهذا لا يعني التقليل من شأن القوى التي رجحت كفة خاتمي، خاصة وأنها تميّزت بغلبة الشباب عليها ، وحضور المرأة فيها، وهذا من حيث نتائجه، وما يمكن أن يترتب عليه من إمكانات تغيير ، شأن مستقبلي ، يكون بعيداّ أو قريباً بالقياس الى خصوصيات المجتمع الذي يحتضنه والدولة التي تصارعه أو تخالفه وتساجله أو تحاوره. ومن هنا كان رأيي المبكر ، أن في إيران مفهومين متضادين إن لم يكونا متناقضين، ما يؤكد صعوبة أن يصل الحراك الإجتماعي على النصاب الخاتمي الى نهاية سهلة . فولاية الفقيه مسألة غير مستعصية أو عصية ولكنها في حالة إيران شبه بنيوية وهي في بعض شروطها الإجتماعية والسياسية، تكاد تكون إعادة إنتاج إسلامي للرافعة الحقيقية أو حجر الزاوية في فكرة الدولة المركزية – شديدة التركيز – في إيران -، والتي تكاد إيران ، وجوداً ومجتمعاً ودولة، أن تكون معادلها التاريخي المطابق، بحيث إذا ما انفكت العلاقة بينهما فإن أحداّ لا يدري كيف تكون إيران ؟ أو هل تكون؟

طريق الغلبة العسكرية

ولا أحد يذكر أن لرضا خان وخليفته ولده الشاه محمد رضا موهبة مميزة سوى أنهما، وعن طريق الغلبة العسكرية على يد الأول في ثلاثينيات القرن الماضي، والتبنّي الأميركي الكامل للثاني الى سقوطه في حالة من غض النظر من طرف واشنطن ، أعادا توكيد وحماية هذه المركزية بعدما اعتراها الاهتزاز في فترة الثورة الدستورية “المشروطة والمستبدة” في أوائل هذا القرن والتي ابتلعها الاستبداد القاجاري ، وقبلها وبعدها تخللت تاريخ إيران حركات ثورية قمع بعضها وأقام بعضها دولاً طرفية لم تستطع أن تصل الى المركز لأنها لم تكن تحمل المركزية مشروعاً ( حركة ميرزا كوجك خان ومدرس وحركة كريم خان زند ) وجمهورية مهاباد (1941).

وفي المقابل هناك شعار المجتمع المدني (رأي حسن حنفي أنه غربي ومعاد ونقيض للدولة الوطنية) وهو ما يزال غائماً وفي وعينا وفيه الكثير من أصداء المصطلح الغربي ، وبصرف النظر عن الفرق بين آليات وتاريخ تحقيقه في الغرب وإمكانيات تحقيقه مشروطاً بشروط أخرى أو غير مشروط في عالمنا العربي أو الإسلامي ، فإنه في المحصلة مباين لولاية الفقيه الأشدّ مركزة للسلطة لأنها ترفعها من الإجتماع السياسي الى الإيديولوجيا الملزمة خاصة بعدما بدأ سعي إيراني فقهي وسياسي الى تحويلها من فرع من فروع الفقه التدبيري الى أصل في المنظومة العقائدرية يترتب الكفر على عدم الإذعان لها ، فماذا نفعل ؟.

لا أشعر بالكارثة إذا ما وُضعت ولاية الفقيه على سكة التطور ، وتحولّت من فكرة قابضة الى فكرة ضامنة لأساسات الدولة والمجتمع الإيراني ووحدته المحفوظة في تنوعه ، وحاضنة للحراك الإجتماعي نحو النمو الشامل والنهوض والحرية والقانون والمشاركة والحداثة ، الخ ..

ولاية الفقيه

وليس من الضروري أن أكون موافقاً أو معتقداً بولاية الفقيه حتى أفكر بهذه الطريقة . ولكن شعوراَ بالكارثة يعتريني عندما نفقد منهجية التدرّج في تحقيق الإنتقال من حال الى حال ، خاصة عندما يكون الحال السابق أرسخ كثيراً من الحال اللاحق أو المطلوب أن يكون لاحقاً من دون أن تكون مشاعرنا مانعة لوصول الأمور الى ما نتحفظ عليه من دون أن نرفضه ، ما يعني أني لست ضد المجتمع المدني شعاراً أو واقعاً ، وأرى ضرورته ، ولكن هل يكفي سلاح الأفكار مؤونة للتغيير ؟ خاصة وان أمامنا ثلث الشعب الإيراني حقاً في الصف المحافظ تحت خيمة ولاية الفقيه المطلقة ، ولكنه منظّم بمقتضى الأفكار والتراث السياسي للدولة على قاعدة الثورة ، وأنظمة المصالح ، ما يجعله في المجال العلمي يضارع الثلثين أي الـ 70 في المئة ونفرز من صفوفهم الأفضل حتى يتحولوا الى 60 في المئة أو 50  أو أكثر من 70 في المئة بشرط أن يلتقوا على أطروحة واحدة تحفظ وحدة البلد وسلامة المسلك ونهاياته غير المتعجلة ؟ أو ننتظر سوء الادارة تحت ضغط الأدلجة أن يحدث فرزاً في الصف المحافظ .. لتتسع من بعد قاعدة الإصلاح ويتحول جمهوره القائم على السلبية الى حامل اجتماعي قائم على إيجابية وأطروحة تغيير مفتوحة على التطوير .

في رحلتي الأخيرة الى طهران شاهدت أناساً كثيرين وسمعت حوارات كثيرة ، وأكثر الذين التقيتهم ، وحاورتهم أو سمعت حواراتهم ، كانوا من مؤيدي خاتمي .. وسمعت كلاماً دار بينهم توقفت عنده كثيراً ، سمعت بعضهم يقول لبعضهم الآخر : انتبهوا ، هناك في صفوفكم محاور مجهولة ومشبوهة تزايد على خاتمي والخاتميين في الحماس لأطروحاته ، وهي ليست معه ، بل هي ضد الثورة والدولة برمتها .. ولها مشروعها الخاص ، الذي تكتفي منه بالتخريب والثار لنفسها ، أعجبني جداّ هذا الكلام، وعدت من إيران متوقعاً ألا تدخل في حرب أهلية بسبب عقلانية الأطراف كلها . ولا أدري حتى متى يمكن أن يبقى هذا التوقع منطقياً ، أو واقعياً ؟

إن ذلك لا يجوز أن يعمي بصر الجميع عن الألغام المزروعة في الوسط الإصلاحي أو المحافظ ، ما يعني الرغبة في أن تنتهي إيران من خلال الحوار بين القوى الأساسية في كل من الاتجاهين الى حالة من الإعتدال يحفط نصاب الجميع بالتسوية ، وبفسح في المجال للتطور بشكل سليم ، وقد لاحظت أن واقعية وعقلانية خاتمي قد منحته قوة إضافية ، ربما كانت هي السبب المباشر الذي أغرى المجموعات المدخولة في الطرفين للتعجيل بتفجير الوضع ، طرف يريد أن يضع حداّ لمسيرة خاتمي وطرف يريد أن يستغله في لحظة قوة ولا  يريدها أن تبلغ الذروة لأن ذلك يفقد هذا الطرف قدرته على التحرك والاستغلال .

هذا بعدما لاحظت أو قدّرت ان انتصار أي طرف على الطرف الآخر في إيران سوف يقودها الى مزيد من التطرف ، لأنه سيفسح في المجال للمحور الأكثر تطرفاً ليظهر ويستحكم ويحكم ويتجاوز المتعارف عليه من الأفكار والمواقف . ولفتني فيما لفتني أن أحد المحبين لخاتمي سأل أحد العاملين ليل نهار معه : لماذا تستبعدون قيادات مشهود بتاريخها وجهادها ومصداقيتها وثوريتها وعقلانيتها واثرها في مجيء خاتمي الى الرئاسة ؟ لماذا يغيب فلان وفلان عن المشهد ؟ وسمعت صراخاً يقول : فكّوا الطوق عن الرجل .. فهو ثوري معتدل يقف بين الأجيال والأفكار ليصوغ أطروحة معتدلة وممكنة وصعبة في نفس الوقت ، فلا تحولوها الى مستحيلة ..

اقرأ أيضاً: إنهم يرجحون الحوار مع واشنطن

عدت من إيران وأنا أتمنى أن لا ينفجر الوضع .. ولكنه انفجر وسوف تتوالى انفجاراته لاحقاً وتقوى.. وفي رأيي أن محمد خاتمي سيجد نفسه في موقف عليّ عليه اسلام .. يؤثّر سلامة الأمة وسلامة الأسس على المشروعات الخاصة .. ولكن الى حين حتى لا يتطور الأمر الى يزيد بن معاوية والوليد بن يزيد بن عبد الملك وأمثالهم من الموجود والمفقود من حكامنا .

فهل يكون التيار الآخر عقلانياً ولا يحذف خاتمي من حساباته ، حسابات إيران الدولة والثورة ، الماضي والمستقبل ، الوحدة والتعدد ، خاصة وأن خاتمي لم يحذف أحداً وله مع الجميع تراث مشهود بنظافته .. ويبقى خاتمي شخصاً أو نموذجاً بما يمثل ضرورة من ضرورات الحاضر والمستقبل الإيراني .. لا يمكن إلغاؤه والتسوية العادلة ممكنة دائماً والغلبة نكبة على الغالب قبل المغلوب على الأقل في المدى المنظور .

(2000/7/17)

السابق
بغداد ـ واشنطن.. الانخراط أو الانسحاب
التالي
نادين نجيم تشرف على نهاية 2020 والتحضير لمشروع درامي جديد!